الكاتب: Ray Takeyh
ترجمة: د. عبد القادر نعناع
أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1980، كان رونالد ريغان يمزح في كثير من الأحيان قائلاً إن جيمي كارتر أتاه في المنام، سائلاً إياه عن سبب رغبته في وظيفته، فيرد ريغان ساخراً: "أنا لا أريد وظيفتك، بل أريد أن أصبح رئيساً".
في الخيال الشعبي الأمريكي، غالباً ما يتم تصوير كارتر كرئيس فاشل لولاية واحدة، فلم يستطع ترويض التضخم، متحسراً على الضائقة الوطنية، فيما وجد نفسه مهاناً عندما أطاح الثوار المناهضون للولايات المتحدة في إيران، عام 1979، بمحمد رضا شاه بهلوي، الحاكم المتحالف مع الولايات المتحدة، واحتجزوا مئات الأمريكيين رهائن في السفارة الأمريكية في طهران.
لكن في العقود الأربعة التي انقضت منذ تركه منصبه، أصبح من الواضح، على الأقل في حالة إيران، أن كارتر كان أبعد ما يكون عن الضعف والتعاسة. في الواقع، فإن كارتر، كما يظهر في السجلات التاريخية -بما في ذلك بعض الوثائق التي رفعت عنها السرية مؤخراً- يعتبر ضمن فريق الصقور المناهضين لإيران، بسبب: مناشدته المتكررة للشاه لقمع الثورة بالقوة، ومحاولة التحريض على الانقلاب لإنقاذ النظام الملكي، فيما ألزم الولايات المتحدة بسياسة تغيير النظام الإيراني بعد نجاح الثورة. أي أن كارتر حاول جاهداً إفشال الثورة والعودة إلى ما قبلها، لكن الإيرانيين لم يستمعوا أبداً لواشنطن. وعليه فإن الدرس المستفاد لصانعي السياسة الأمريكيين اليوم واضح: لا يمكن للولايات المتحدة أن تخلق واقعها الخاص في إيران.
الكرة الصلبة:
شهدت إيران عام 1978، حالة تراجع، حيث كان الجو السياسي خانقاً، والجواسيس والمخبرون في كل مكان. فيما كان الشاه ضحية نجاحه في خلق طبقة وسطى حديثة ومجموعة كبيرة من الشباب المتعلم. فكما يحدث في كثير من الأحيان في البلدان النامية، كانت صفقة الشاه مع شعبه تبادلية: عليكم أن تظلوا سلبيين سياسياً في مقابل الأمان الاقتصادي. فيما ثبت أن هذا الاتفاق غير مستدام، حيث أراد أعضاء الطبقة الوسطى الجديدة أن يكون لهم رأي على نحو متزايد.
وخلف بريق التحديث الاقتصادي للشاه، كانت إيران تشهد نهضة دينية، واستعاد مزيد من الناس إيمانهم، وتطلعوا إلى قادتهم الروحيين آملين أن يكون لهم دور أكبر في الشؤون الوطنية، وبينما كان المسجد مكاناً مفتوحاً للعبادة لا يمكن إغلاقه، فقد أصبح أهم منصة للمعارضة حينها.
وكان الشاه، تلك الشخصية التي يعتمد عليها عادة، يواجه تمرداً غير قادر على السيطرة عليه أو احتوائه، بينما كان آية الله روح الله خميني يستدعي الإيرانيين لقضية عظيمة: ثورة شُنت باسم الله وقادها المنتقمون الإسلاميون.
أما الشاه المنعزل في قصره، والذي كان يموت ببطء بسبب السرطان، فقد تردد في مواجهة الثورة، وألقى باللائمة على وكالة المخابرات المركزية. بينما –وببساطة- لم يكن لديه أي استعداد للقتال. في المقابل، لم يكن تركيز الرئيس كارتر منصباً على إيران خلال النصف الأول من رئاسته. فقد استحوذت مساعي إبرام اتفاقيات الحد من التسلح مع الاتحاد السوفيتي والتوسط في السلام بين مصر وإسرائيل على اهتمامه. وفي خريف عام 1978، كان نهج إدارته تجاه إيران عبارة عن خليط من التناقضات.
في تلك الأثناء، دعا سايروس فانس Cyrus Vance وزير خارجية كارتر الأرستقراطي، إلى تشكيل حكومة ائتلافية بين الشاه وخصومه، وهو ما رفضه خميني بشدة. أما مستشار الأمن القومي بريجنسكي Zbigniew Brzezinski، والذي تخصص في دراسة الثورات، فكان يضغط للوصول إلى حملة قمع، بحجة أن التنازلات لن تؤدي إلا إلى تشجيع المتطرفين. لذا دعت الإدارة الأمريكية الشاه إلى إصلاح نظامه واستعادة الضبط في نفس الوقت، لكن يبدو ألا أحد في واشنطن كان يفهم أن هذين الأمرين لا يمكن القيام بهما في نفس الوقت.
مع شهر تشرين الثاني/نوفمبر من ذاك العام، تحول اهتمام كارتر إلى إيران، وبكثير من الانضباط والتصميم، حيث وضع حداً للمشاحنات بين مساعديه. وأصدر رسالة مكتوبة إلى السفير الأمريكي في إيران، ويليام سوليفان William Sullivan، بأن يبلغ الشاه بأنه يحظى بدعم كارتر الكامل، لكن واشنطن ترى أن هناك "حاجة لاتخاذ إجراء وقيادة حاسمة، لاستعادة النظام وسلطته"، وكان ذلك بمثابة ضوءٍ أخضر واضحٍ لاتخاذ إجراءات صارمة.
لكن الشاه الذي تسلم رسالة كارتر، رفض الدعوة إلى رفع السلاح ضد المتظاهرين، وفي برقية أرسلها سوليفان إلى واشنطن، ذكر أنّ الشاه سأله بوضوح: "لماذا يعتقد الرئيس أن حكومة عسكرية ستكون ناجحة؟". فيما كان الشاه قد أخبر السفير الأمريكي في نهاية اجتماعهما أنه في حال استخدم الجيش القوة لقمع المتظاهرين، فإن خميني "سيدعو إلى الجهاد وسيكون هناك حمام دم، بل إن بعض العسكريين سيُعلون ولاءهم تجاه الإسلام قبل ولاءهم تجاه الشاه". بالنتيجة، فإن جلّ ما استطاع كارتر فعله هو أن يندب في مذكراته أنّ الشاه "لم يكن قائداً قوياً، ومشكوك فيه للغاية وغير متأكد من نفسه".
بعد ذلك بوقت قصير، فرّ الشاه من إيران، ما مهد الطريق لعودة خميني بعد خمسة عشر عاماً في المنفى. ومن نواحٍ عديدة، أصبحت المعركة من أجل مستقبل إيران، عبارة عن صراع إرادات بين آية الله الإيراني والرئيس الأمريكي، ولم تكن المواجهة متكافئة حيث كان خميني يحظى بدعم قطاعات واسعة من البلاد، بينما كان على كارتر الاعتماد على الجيش الملكي المنهار. لكن هذا لم يردع كارتر، الذي أرسل الجنرال روبرت هويسرRobert Huyser، نائب القائد الأعلى للقيادة الأمريكية في أوروبا، إلى إيران، لتهدئة الجنرالات وإعدادهم لتولي السلطة. يتذكر هويسر لاحقاً، في حفل عشاء خاص استضافه المصرفي ديفيد روكفلر David Rockefeller، ورجل الدولة المخضرم جون ماكلوي John McCloy: "لقد أخبرت الجنرالات أن هذه كانت "كرة صلبة" وأن بلادهم كانت على المحك"، وفقاً لما جاء في مذكرات جوزيف ريد Joseph Reed، مساعد روكفلر. لكن جنرالات الشاه كانوا مشغولين جداً في التخطيط لهروبهم من الخدمة ولم يلتفتوا كثيراً لتعليمات هويسر.
وفي 11 شباط/فبراير اللاحق، ومع اقتراب الثورة من انتصارها النهائي، تلقى هويسر اتصالاً هاتفياً من بريجنسكي، ينقل فيه تساؤلات نائب وزير الدفاع تشارلز دنكان Charles Duncan، والجنرال ديفيد جونز Charles Duncan، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، عما إن كان على استعداد للعودة إلى طهران والقيام بعملية استيلاء عسكري، ولم يكن من غير المتصور أن يتم تقديم هذا الطلب بدون موافقة كارتر.
في الواقع، عندما سأل ماكلوي هويسر عمن أصدر أوامره، أصر على أن "الرئيس كارتر هو من كتب الأوامر شخصياً، وأنا أفهم أنها كانت مكتوبة بخط اليد قبل إرسالها بشكل رسمي". ومع ذلك، فهم الجنرال أن النهاية باتت قريبة، ووافق على العودة إلى إيران فقط إن زوّده البيت الأبيض بعشرة آلاف جندي أمريكي.
الغرفة السوداء
لم يُنهِ زوال سلالة بهلوي، الصراع بين إدارة كارتر وما يعرف الآن باسم جمهورية إيران الإسلامية، فقد كان خميني مصمماً على إذلال الولايات المتحدة ومعاقبة كارتر، لذا كانت السفارة الأمريكية هدفاً مستساغاً. لكن لعقود مضت، ادعى المؤرخون أن خميني لم يكن على علم مسبق بمؤامرة الاستيلاء على مبنى السفارة، إنما استغل الحادثة بمهارة؛ لإشعال نيران معاداة الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يكن رأي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. فبعد وقت قصير من استيلاء المتشددين على السفارة، اجتمع مجلس الأمن القومي التابع لكارتر، وخلاله قال ستانسفيلد تيرنر Stansfield Turner، مدير وكالة المخابرات المركزية، للمسؤولين المجتمعين: "يبدو أن خميني أعطى الإذن باحتلال السفارة"، ورأى تيرنر بأن "فرص التفاوض معهم لا تبدو جيدة". وذلك وفقاً لسجلات الاجتماع التي رفعت عنها السرية مؤخراً.
وجهة النظر هذه، حول دور الخميني، أكدها بشدة آية الله محمد مهدوي كني، الذي كان مسؤولاً عن الأمن الداخلي للنظام الإيراني ذاك الوقت. حيث يورد في مذكراته أنه بعد أن هاجم المسلحون السفارة، اتصل بنجل الخميني أحمد، الذي عمل كرئيس لموظفي والده: "ليلة احتلال السفارة اتصلت بأحمد وسألته ماذا يحدث؟" في البداية، ضحك فقط ولم يرد. ثم سألته: "هل تعلم بهذا؟" ضحك ثانية. أخيراً، وبعد إصراري عليه، قال: الإمام [خميني] راضٍ عن هذا ولا يجب أن تتورط فيه". فبتحريض من خميني، هاجم أتباعه المتشددون السفارة واحتجزوا 52 أمريكياً كرهائن لمدة 444 يوماً.
عجز كارتر عن تحرير الرهائن –يرمز إلى ذلك بأنه مهمة إنقاذ فاشلة انتهت بكارثة-، ما جعل الولايات المتحدة تبدو كعملاق عاجز، وهو ما جعل كثيراً من الأمريكيين يستنتجون أن كارتر يفتقر إلى الإرادة لمواجهة آية الله. لكن وراء الكواليس، التزم كارتر بإسقاط الجمهورية الإسلامية. وتكشف الوثائق التي رفعت عنها السرية مؤخراً أنه في كانون الأول/ديسمبر 1979، أصدر كارتر تقريراً رئاسياً –وهو إخطار إلى الكونجرس بموجب القوانين التي تم تمريرها في أعقاب فضيحة ووترغيت- يأمر فيه وكالة المخابرات المركزية بـ "إجراء عمليات الدعاية والعمل السياسي والاقتصادي لتشجيع قيام نظام مسؤول وديمقراطي في إيران، وإجراء اتصالات مع قادة المعارضة الإيرانية والحكومات المهتمة، من أجل تشجيع التفاعلات التي يمكن أن تؤدي إلى جبهة واسعة موالية للغرب قادرة على تشكيل حكومة بديلة". بدوره، أشار وزير خارجية كارتر إلى خطورة اللحظة التاريخية، ووفقاً لملاحظات اجتماع 20 كانون الأول/ديسمبر، التي رفعت عنها السرية، حيث أكد فانس Vance لمجموعة من كبار المسؤولين وأعضاء مجلس الوزراء أن "الاكتشاف يمثل خطوة رئيسة، ويشير إلى أن هذه المجموعة اتخذت قراراً بجمع الجماعات كلها معاً لإسقاط خميني".
استند قرار محاولة تغيير النظام في إيران إلى عدد من الافتراضات التي وضعها مجمع الاستخبارات، فقد كان حكم وكالة المخابرات المركزية أن "محاولة خميني لحكم دولة شبه متطورة في أواخر القرن العشرين بمعايير ثيوقراطية تعود إلى القرن العاشر ستفشل في النهاية"، كما أوردت الوكالة في مذكرة عام 1979 إلى كارتر وكباره مستشاري الأمن القومي. وواجه الأمريكيون صعوبة في تصديق فكرة أن عصابة الملالي التي كانت تقضي على صفوف البيروقراطية المحترفة، قادرة على إدارة دولة حديثة، واعتقد المسؤولون في واشنطن أن قوى اليسار الإيراني المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي هم من سيستفيدون من عدم كفاءة الملالي، وبالتالي فإنه من المهم على الولايات المتحدة الإسراع في إسقاط نظام الملالي ووضع الفصائل الموالية للولايات المتحدة في وضع يمكنها من وراثة عباءة القيادة.
بعد وقت قصير من الاستيلاء على السفارة، أنشأ كارتر لجنة مشتركة بين الوكالات للإشراف على العمليات السرية ضد النظام الجديد في طهران، ووضعها تحت إشراف ديفيد آرون David Aaron، نائب مستشار الأمن القومي. وأشار المسؤولون إلى المجموعة بعدد من الأسماء المختلفة، بما في ذلك "المجموعة السوداء" و "الغرفة السوداء". فيما تظل الخطط التشغيلية الدقيقة سرية، لكن يبدو أنه بتوجيه من اللجنة، حاولت وكالة المخابرات المركزية تنظيم مجموعات معارضة إيرانية خارجية في قوة متماسكة، وحاولت مساعدة المنشقين في إيران، وجندت قوى إقليمية مثل السعودية للمساعدة في تقويض النظام الديني الناشئ.
لكن قبل أن تتمكن الحملة من إحراز تقدم كبير، كانت إدارة كارتر قد انتهت، حيث هزم ريغان كارتر في انتخابات 1980، إذ كان موقف كارتر ضعيفاً بسبب الاقتصاد الضعيف والتصورات المنتشرة عنه كقائد ضعيف. ولا يزال من غير الواضح ما إن كان ريغان قد أصر على البرنامج السري لتغيير النظام الإيراني أم لا، وبانتظار معرفة المزيد عن ذلك عندما تبدأ علمية رفع السرية عن وثائق إدارة ريغان في السنوات القادمة.
هل يمكن تغيير النظام؟
هيمنت صور عمل كارتر في مجال المساعدة الإنسانية وتعليمه في مدرسة الكتاب المقدس، على صورته ما بعد الرئاسة، وشوهت الذاكرة العامة حول مزاجه ونهجه في الحكم.
لكنه لم يكن شخصاً لطيفاً، بل شخصاً واثقاً من نفسه على نحو غير عادي، وسريع الغضب، وقاسياً في كثير من الأحيان. ولم تكن مشكلته مع إيران في الافتقار إلى العزيمة، بل كانت مشكلة عدم ثبات حلفاء إيران من جهة، إلى جانب خصم صلب من جهة ثانية.
لقد فشل كارتر في فهم أن الثورة الشعبوية المصممة على القضاء على كل ما يقف في طريقها، لا يمكن إحباطها من خلال الانقلابات أو مكائد وكالة المخابرات المركزية. ربما كانت الجمهورية الإسلامية في مهدها، لكن الثورة في ذلك الوقت كانت تحظى بدعم الغالبية العظمى من الإيرانيين.
الآن، بعد أربعة عقود، فقد النظام الإسلامي الكثير من شرعيته، وتلاشى إيمان الجماهير الثوري منذ فترة طويلة. واستنفدت الدولة الثيوقراطية -الغارقة في الفساد والحصار- وراء أيديولوجية لم يعد يؤمن بها سوى القليل.
ومع ذلك، يجب ألا تبالغ واشنطن في تقدير قدرتها على تحديد النتائج في إيران، رغم أنها لا تزال تُعرِّف إيران بذات الأسس التي عرّفتها بها في القرن الماضي: شعب يسعى إلى الحرية يواجه حكاماً مستبدين مصممين على الحفاظ على سلطتهم. في هذا السياق، سيكون لواشنطن دور تقوم به، وإن كان دوراً متواضعاً. وفي حال نجح الشعب الإيراني، فمن المحتمل أن يفعل ذلك بطريقة تربك جيلاً آخر من الأمريكيين الذين اعتقدوا، مثل كارتر من قبلهم، أنهم يفهمون إيران بشكل أفضل من الإيرانيين.
RAY TAKEYH is a Senior Fellow at the Council on Foreign Relations and the author of The Last Shah: America, Iran, and the Fall of the Pahlavi Dynasty.
للاطلاع على النص الأصلي، انظر:
Ray Takeyh, "The Other Carter Doctrine: Jimmy Carter’s Secret Program for Regime Change in Iran—and What It Means for U.S. Policy Today", Foreign Affairs, February 26, 2021: