على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال).
أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة.
رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة.
فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري.
أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق.
في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته.
ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل.
فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً.
د. عبد القادر نعناع
عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية