لم تشهد بنية النظام الإيراني منذ الثورة الخمينية، تحديثاً في هيكلياتها ومؤسساتها وآليات عملها، في ظلّ تحديات داخلية وإقليمية، أدّت في المجمل إلى أضرار جسيمة بالاقتصاد الإيراني، وأتت على مصداقية مبادئ ثورة 1979، وعززت خطوط الفصل بين الأقوام المنضوية في الدولة الإيرانية، ووسّعت دائرة الرفض لها في محيطها العربي.
ففيما كانت الكاريزما الثورية والدينية لخميني هي المسيطر على آلية إدارة الدولة دون أدنى منافسة، وخاصة بعد التصفيات الكبرى التي طالت كافة أشكال مناهضة الحكم الثوري، فإن التحول إلى نوع من أشكال المؤسساتية في العملية الإدارية بعد خميني، خلق مجالات لتضاد السلطات وتصادمها، فيما بين المرشد الثاني خامنئي، والمؤسسة الرئاسية التي بدأت تأخذ حيزاً مهماً في العملية السياسية، رغم خضوعها لشروط المرشد وموافقته أساساً.
حيث تهيمن السلطوية الدينية-القومية على الجهاز السياسي، طيلة عقود الثورة الإيرانية، وتشكّل عامل ضغط باتجاه تشدّد مناهج العمل السياسي، وتصلّب مواقفها على مستويات السياسة الداخلية والخارجية معاً، طالما أُفسِح المجال أمامها لذلك، فيما تُعمِل براغماتيتها في الوصول إلى مراميها، حين يستعصي عليها ذلك.
غير أنّ هذا التشدد في النهج السياسي، أوصل البلاد إلى عدة مآزق باتت مستعصية على الحل أمام القيادة الإيرانية، وهو ما دفع شخصيات عدّة للبحث في تحديث تلك الآليات، ضمن آلية تحديث النظام السياسي ذاته، مع المحافظة على شكله الثيوقراطي، ولكن مع إعادة توزيع للصلاحيات داخل هيكلة النظام.
وقد أنتجت تلك المحاولات صدامات بين أقطاب النظام الإيراني (المرشد، الحرس الثوري، رئيس الدولة)، طالما كان الحسم فيها لتيار المرشد المتحالف مع الحرس الثوري، على حساب السلطة السياسية. عدا عن عجز تيارات المعارضة الداخلية (الملاحقة أمنياً)، عن إحداث تخلخلات في هيكلية العمل السياسي لصالح اكتساب بعض الصلاحيات والأدوار.
كثيراً ما أتى رئيس الدولة من الأوساط الدينية-السياسية (رفسنجاني، خاتمي، روحاني)، ما يعني احتكار السياسي لصالح الديني من جهة، وإشكالية إدارة الدولة ذاتها عبر التيار الديني، وعدم الخروج عن المسارات التي رسمها خميني في إخضاع الدولة للآليات الثيوقراطية، وهو ما يعيق استحداث نمط تحديثي من جهة أخرى.
ولا يختلف التيار الإصلاحي عن نظيره المحافظ المتشدّد والمهمين على السطلة، إلا في طبيعة تلك الأدوار والوظائف المنوطة بالدولة، إلا أنّ مرجعية كلا الطرفين تعود إلى الثيوقراطية الدينية ذاتها، وتؤكد جميعها حرصها على المحافظة على تلك المرجعية، خشية انفراط عقد الهيمنة القومية-الدينية على المجتمعات الإيرانية، التي يرتكز عليها النظام الإيراني.
وتسببت محاولات إعادة توزيع الوظائف والأدوار داخل بنية السلطة الإيرانية، إلى وقوع عدد من التصادمات، أطاحت بالعنصر الرئاسي وتياره، رغم ما قد يجلبه من منجزات للدولة داخلياً وخارجياً، أو لمشروع التوسع والهيمنة الإيرانية في المحيط العربي.
بداية من الإطاحة ببني صدر في مطلع فترة خميني، مروراً بتيار خاتمي، الذي أطيح به حين بدأ يأخذ أحجاماً بدا أنها ستتوسع على حساب صلاحيات المرشد ذاته. وليس انتهاءً بالصدامات التي دارت بين الرئيس السابق نجاد والمرشد الإيراني خامنئي، والتي كان أول ضحاياها وزير الخارجية الأسبق منوشهر متكي، قبل أن تطيح بتيار نجاد في الانتخابات الرئاسية الماضية.
يضاف إلى ذلك، ما تشهده إيران منذ انتخابات عام 2009، لناحية ملاحقة رموز التيار السياسي الإصلاحي-الديني، وتصويرهم على شكل معارضة للنظام، فيما هم جزء آخر من النظام، كان يسعى إلى استحداث آليات عمل سياسية تعيد توزيع تلك الأدوار، في ظلّ تغييب مطلق لكافة أشكال المعارضة الأخرى.
عدا عن الانقسامات الحاصلة داخل التيار المحافظ ذاته، ما بين راديكاليين وبراغماتيين وأتباع المرشد، فلكل مصالحه التي يسعى إلى تكريسها، عبر مشاريع تبدو في ظاهرها سياسية. إلّا أنّه طالما ما انتصر تيار المرشد ومن خلفه الحرس الثوري الذي يشكل عماد أيّة منافسة بين القوى السياسية والدينية، وخاصة أنّ للحرس الثوري نفوذاً سياسياً داخلياً واسعاً، كما أنّ قادته هم من يحددون توجهات كثير من قضايا السياسة الخارجية، عدا عن استثماراته الداخلية والخارجية الكبرى التي تعود عليه وحده بفوائد مالية، لا تخضع جميعها لمؤسسات الدولة (برلمان، حكومة)، وتتمتع بحماية المرشد ذاته، مقابل حمايتهم لنظامه، وأيّة عملية لانتزاع تلك الفوائد منه ستعود على خصومه حتماً.
تقع هذه الإشكاليات، عدا عن إشكاليات تدهور الحالة الاقتصادية والمجتمعية داخل إيران، في مواجهة الرئيس الحالي حسن روحاني، وخاصة أنّ الملفات المنوطة به قد وصلت إلى مرحلة تأزم تحتاج إلى حلول كلية، لا يمكن معها اتباع نهج التأجيل، أو تصدير الأزمات، في وقت باتت البيئة الإقليمية (الحاضن للأزمات الإيرانية)، عامل ضغط على الداخل الإيراني، وتشهد إيران لحظة تحول إلى استيراد أزمات المنطقة التي استفحلت نتيجة تدخلاتها الصلبة فيها (العسكرية)، عوضاً عن تصديرها كما كانت تفعل سابقاً.
ومن أولى تلك الملفات، ملف البرنامج النووي الإيراني، فرغم اندفاع روحاني لعقد اتفاق نهائي مع القوى الدولية، لإنهاء هذا الملف، عبر طيّ المشروع التسليحي النووي، وفتح المنشآت النووية الإيرانية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفتيشها ومراقبتها؛ إلا أنّ ذلك يتطلب من المرشد والحرس الثوري أولاً، إعادة تشكيل الاستراتيجية الإيرانية وتوجهاتها الإقليمية والدولية، وإعادة حساب المنافع المترتبة على البرنامج النووي، لصالح إلغائه، وهو ما يبدو مستعصياً حتى الآن في الفكر السياسي الإيراني لدى الجهات الفاعلة. وخاصة أنّ حلولاً نهائية لرفع العقوبات المرتبطة بالملف النووي، قد تتّسع لتشمل البرنامج التسليحي الإيراني برمته، متجاوزة قضية البرنامج النووي فحسب.
وثاني تلك الملفات، هو إعادة تقييم المشروع الإيراني في المشرق العربي (العراق، سورية، لبنان)، ففيما يدفع المرشد والحرس الثوري، إلى مزيد من عسكرة البيئة المشرقية، وتوسيع نشاط الحرس الثوري والميلشيات الشيعية في سورية، فإن احتمالية استمرار الأسد في السلطة باتت معدومة، ولو طالت الحرب التي يشنها على الشعب السوري، ومنه فإن المشروع الإيراني بأكمله عرضة للسقوط في البيئات المجاورة لسورية بعد سقوط الأسد، وفي حال إدراك روحاني لذلك، فإن أيّة محاولة لتغيير النهج الإيراني، ولو بشكل تدريجي بالتوافق مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى، ستصطدم بالفاعلين الرئيسين (المرشد، الحرس الثوري)، إذ سيتصادم ذلك مع المخططات الاستراتيجية التي ترمي إلى الهيمنة المطلقة على المنطقة حتى عام 2025.
ومن تلك الملفات أيضاً، ملف القوميات المضطهدة في إيران، ففيما يعمل روحاني على استرداد خطاب جمعي تصالحي، في ظلّ تأزم يتسع في العلاقات البينية بين القوميات والسلطة، فإنّه بذلك يعرّض البنية الفكرية للدولة الإيرانية، لضغط تحديثي لا قبل لها به. فأيّة محاولة لإيجاد مخرج لإشكالية القوميات في إيران، سواء عبر تغيير شكل نظام الحكم من رئاسي-ديني إلى برلماني-ديني، أو شكل الدولة من مركزية إلى فدرالية، فإنّه يعني انتزاع صلاحيات تقع في يد المرشد وحده. بل إنّ التخلي عن منهج العنف تجاه القوميات في إيران، سيفتح المجال أمامها لتأطير نضالها السياسي ومأسسته باتجاه انتزاع مزيد من الحقوق، والتي قد تصل في بعض الأقاليم إلى المطالبة بحق تقرير المصير.
في المقابل، فإنّه ومنذ أن قامت الثورة الخمينية، عمد مؤسسها إلى تعزيز سلطته ومركزه عبر تجاوز كافة مؤسسات الدولة، إلى إنشاء قوة عسكرية (الحرس الثوري) تتفوق على الجيش ذاته، هدفها حماية شكل النظام ومشروعه، مقابل صلاحيات تتسع باستمرار. وفيما أتى روحاني من داخل مؤسسات الدولة ذاتها الأمنية والعسكرية، فإنّه يدرك أن لا قدرة له على تقديم طروحات تطال شكل النظام السياسي، وصلاحيات المرشد ومن خلف حرسه.
وغالباً ما اتخذ الفاعل الرئاسي في إيران، شكل رئيس جهاز إداري موجه، وفق صلاحيات محددة ومؤطرة دستورياً وواقعياً لا يمكن تجاوزها. وفيما تسمح قيادة المرشد الإيراني بخروج الرئاسة عن الفكر الاستراتيجي لها، فإنها بذلك تحاول جسّ نبض محيطها الإقليمي والدولي، ضمن فهم لا يتجاوز اكتساب المصالح دون مشاركتها أو تقديم تنازلات مقابلها.
وسريعاً ما سيدرك روحاني استعصاء اختراق تلك الصلاحيات، وعبثية جهوده "الإصلاحية" على المستوى الخارجي تحديداً، مقابل بعض المساومات على الصعيد الداخلي، لصالح إعادة تنشيط للاقتصاد الإيراني مع محاربة جزئية للفساد الذي أكد عليه في خطابه في الذكرى الخامسة والثلاثين لثورة بلاده، فيما ستظل ملفات الفساد الكبرى مرتبطة بشكل غير مباشر بقيادات الحرس الثوري، وهو ما سيجعلها مع قضية القوميات ملفات مستعصية التحديث في الداخل كذلك.
لن تطول الفترة التي سيتعرض فيها النظام الإيراني لاهتزازات عنيفة، كارتدادات طبيعية لنهجها. وهو ما أقرب ما يكون إلى وضع الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن العشرين، وربما شكلت سورية لإيران ذات النتيجة التي شكلتها أفغانستان للسوفييت، لناحية تعجيل الانهيار العسكري، بل إن ارتدادات الانهيار العسكري في سورية ستطال بالتأكيد ميليشيات حزب الله والمالكي والحوثيين كذلك.
فالبحث من مخارج للانهيارات الاقتصادية الكبرى في إيران، نتيجة العقوبات من جهة، وتحويل المال العام إلى صناعة السلاح، سيدفعها كما دفع الإمبراطورية السوفييتية إلى عملية بروسترويكا (إصلاح داخلي)، أودت بالاتحاد كله.
ولا يمكن تأجيل عمليات التحديث على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي، فإما وقوع تلك العمليات، أو تحمل نتائج توسّع مستويات الفقر والفساد والنقمة في البلاد، وفي كلتا الحالتين، فإن ضغطاً سيتولد على النظام، يدفعه جبراً إلى المهادنة التي ستتسع بدورها مع كل عملية ضغط جديدة.
ولعل عمليات التحديث المشوهة التي انطلقت في غير دولة عربية، منذ بداية القرن الحالي، بغية المحافظة على النظام السياسي، وكانت سبباً في التعجيل بانهيار تلك الأنظمة، مثال على ما يمكن أن يطال الداخل الإيراني في حالات مماثلة، وخاصة في ظل بوادر مجتمعية في مواجهة السلطة من جهة، والاتجاه الدولي لإعادة تشكيل البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط.
ولا تبدو إيران بعيدة عن حراك احتجاجي مجتمعي واسع، يستحضر سياقات ثورية إيرانية وعربية، وخاصة أنها شهدت إرهاصات لذلك عام 2009، مع ارتفاع في نسبة الجيل غير الثوري –على النط الخميني- لصالح جيل أكثر حداثة –كنظيره العربي- وعلى تفاعل مباشر ويومي بوسائل التواصل الاجتماعية، أي مع ارتفاع في الوعي المجتمعي لمدركات الفساد والاستبداد القائمة في إيران. إلا أن هذا الحراك قد يتأخر قليلاً، حتى السنوات المقبلة، بانتظار حسم جملة من الملفات، منها الثورة السورية، وإعادة تشكل المحيط الإقليمي، ومنها الآثار الاقتصادية المنتظرة للاتفاق مع القوى الدولية.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والبحوث بتاريخ 2014/3/12