تعتبر الطبيعة العنصرية حالة متأصِّلة في النفسية الفارسية، وتظهر تجاه "الآخر" القومي والديني داخل إيران، وتجاه العالم الخارجي بشكل أعم. وتتجلّى في عدم القدرة على مشاركة الآخرين المصالح السياسية والحياة الاجتماعية، وعدم تقبل التنوّع الثقافي، وربط مجمل تلك العلاقات بالأبعاد التاريخية للثقافات الأخرى، وخاصّة في التعامل مع المحيط العربي بالدرجة الأولى، ومع السنة (الفرس وسواهم) بدرجة ثانية.
وخاصّة أنّ "السُنّية" شكّلت في الوعي الفارسي مرادفاً للـ "العربية" منذ نشأة الكيان الصفوي قبل أكثر من خمسة قرون، وتمّ إجبار المجتمع على التحول إلى "الشيعيّة" كآلية مناهضة للثقافة العربية، تزامنت مع حالات الاختراق للامبراطوريات العربية سواء الاختراقات السياسية، أو الاصطناعات المذهبية اللاحقة.
ومن الملاحظ، انتهاج إيران لسياسة دعم الأقليات غير العربية وغير السُنّية في الدول العربية، وانجذاب جملة من النخب التقليدية العربية إلى شعاراتها تلك، دون إدراك أنها تستهدف تفكيك الدول العربية، عبر المدخل الأقلوي، الذي تخشاه بدورها في داخل إيران، وتسعى جاهدة إلى محاصرة المسألة الأقوامية داخلها، عبر انتهاج جملة من السياسيات التدميرية لثقافاتها (1). وفيما تُوسِّع أطر عمليات التبشير المذهبي "الشيعي" في البيئة العربية، فإنّها تناهض ذات النهج داخل جغرافيتها، من قبل المذاهب والأديان الأخرى.
ونحاول في هذا التقرير، تسليط الضوء على أبرز أشكال الاضطهاد الديني الذي تمارسه السلطة الفارسية-الشيعية على المجتمع السُنّي في إيران.
أولاً- الحضور السني في إيران:
نتيجة سياسة التعتيم التي ورثها نظام الملالي عن سلفه الملكي، فإنّه لا يمكن الارتكان إلى إحصائية واحدة باعتبارها إحصائية موثقة، حول تحديد نسب الحضور الديني والعرقي في إيران. لذا نشهد تبياناً واسعاً بين التصريحات الحكومية التقديرية لنسب التشكيل الاجتماعي الإيراني، وتلك الصادرة عن مؤسسات خاصة أو عن الجهات الاجتماعية في إيران.
إذ تشير بعض الإحصائيات الرسمية إلى أنّ الشيعة يمثلون نسبة 89% وأهل السُنّة تبلغ نسبتهم 10%، بينما تشير مصادر أهل السُنّة في إيران إلى أنّ نسبتهم تتجاوز 28% ويبلغ عددهم حوالي 20 مليون نسمة يتوزعون في محافظات عدة (الأحواز، كردستان، أذربيجان الغربية، كرمنشاه، تركمن صحرا، خرسان، سيستان وبلوشستان، هرمزقان، فارس)، إضافة إلى مدينة بوشهر، وضواحي مدينة خلخال ومنطقتي طالش وعنبران (2).
فيما تذهب إحصائيات تقديرية أخرى إلى أنّ عدد السُنّة في إيران يقدر بأكثر من 18 مليون نسمة من إجمالي السكان البالغ عددهم حوالي 70 مليون، وهو ما يعادل نسبة أكثر من 25% من سكان إيران. ويشكل الأكراد حوالي نصف أهل السُنّة في إيران، حيث يعيش في إيران أكثر من 8 ملايين من أبناء الشعب الكردي، 98% منهم مسلمون، وأكثر من 95% منهم من أهل السُنّة، ويأتي الشعب البلوشي في المرتبة الثانية من أهل السنة في إيران (3).
إنّ غياب تحديد واضح ودقيق للثقل السكاني الديني والقومي داخل إيران، يُعدّ عماد البِنيَة الاستبدادية التي ينتهجها النظام الملالي، ومع غياب هذه النسب الدقيقة، تغيب الحاجة إلى تحضير برامج تنموية متناسبة معها، إضافة إلى تغييب الأدوار السياسية المفترضة لتلك الجماعات، وفق الأوزان السكانية.
ثانياً- أشكال من الاضطهاد الديني للسُنّة في إيران:
تتنوع أشكال الاضطهاد الذي تمارسه السلطات الإيرانية تجاه الهويات الدينية والعرقية، بحيث يغدو استدراكها عملية واسعة، وتثبت جميعها خرق كافّة القوانين الدولية والعرفية والدينية المتعلقة بحقوق الإنسان، بشكل يتفوق على كافة الدول الاستبدادية الأخرى. ومن هذه الأشكال:
أ- الاضطهاد الديني:
وإن كانت كافة الأشكال التالية تُصنّف كاضطهاد لأسباب دينية، فإنّ هذا الشكل بالتحديد يعتبر اضطهاداً دينياً مباشراً. إذ يشهد المجتمع السُنّي حرباً عقائدية تستهدف تدمير الفكر المؤسس للمذهب السُنّي، وتتسع لتطال الممارسات الدينية.
إذ تسعى السلطات الإيرانية إلى تزوير كامل التاريخ المتعلق بالدين الإسلامي بشكله السُنّي، واختلاق روايات تتفق مع التوجهات السياسية-الدينية للمركز الفارسي، واختراق المجتمع السُنّي بحركات دينية-سياسية تعيد أدلجة الجيل الشاب بعيداً عن انتماءاتهم الأصلية، ويتفق ذلك مع ترسيخ حالة العدائية عبر شرعنة إهانة الرموز الدينية الإسلامية السُنّية.
إذ قام جنود إيرانيون بتخريب مدرسة الإمام أبي حنيف في مدينة "زابل"، وقاموا بتمزيق المصاحف والدوس عليها بالأقدام، وتلويثها بالقاذورات. وبعد اعتراض أحد الطلبة على هذا السلوك، واجهه أحد الجنود بقوله: "نحن نجيب إلهكم عن قرآنكم المدنّس" (4).
ويساعدها في ذلك، ملاحقة كبار علماء السُنّة في إيران، وتصفيتهم أو اعتقالهم لمدد طويلة، لتفريغ المجتمع من مفكريه وقادته الدينيين، وفرض أطر تعليمية تتفق مع هذا النهج، بحيث يتم صياغة المواد الدينية المتعلقة بالسُنّة من قبل مرجعيات شيعية مكلفة من قبل السلطات، وتعيين مدرسي المواد الدينية من الشيعة، مع استبعاد وفصل كثير من المدرسين السُنّة.
يضاف إلى ذلك محاولة طمس المعالم الخاصة بهم من مساجد ومدارس تاريخية. ومنع بناء مساجد جديدة، وترميم القديمة منها. بل وحتى منع إقامة الصلوات، وخاصّة صلاة الجمعة في غالبية المدن، وتحديداً في طهران. حيث مُنِع السُنّة فيها من بناء مسجد لهم، رغم أنّ عددهم في العاصمة يقارب مليون نسمة. فيما أُتيح لليهود والمسيحيين والزرادشت إقامة المعابد الخاصة بهم.
وحيث لا تغيب مساجد السُنّة عن كافة العواصم الدولية، حتى أنّ تل أبيب تضمّ 12 مسجداً، فإنّ عاصمة الجهورية الإسلامية الإيرانية تخلو منها. وهو ما دفع السكان السُنّة إلى أداء فرائضهم الدينية في بيوت خاصة، تم مداهمتها واعتقال أفرادها بتهم المساس بالنظام السياسي. كما كانت صلوات الجمعة تؤدى في السفارتين الباكستانية والسعودية قبل أن تضغط السلطات الإيرانية لمنعها، ما دفع المصلين في أيام الجمع والأعياد إلى اللجوء إلى المنتزهات العامة، قبل أن تتمّ محاصرتها من قبل قوات الأمن، وتفريق المصلين، واعتقال أعداد أخرى منهم. إذ تحظر السلطات الإيرانية أيّ شكل من أشكال التعبّد الجماعي للسُنّة فيها.
وتفيد بعض التقارير، أنّ القوات الأمنية منعت المسلمين السُنّة من الاقتراب من بعض الأماكن التي كانوا يقيمون فيها صلاة العيد في طهران، وخاصة في منطقتي "صادقيه" و"سعادت آباد". وتم إبلاغ الحكم الشفوي بمنع إقامة صلاة العيد إلى مجلس أمناء مصلى "صادقية" ومصلى "سعادت آباد". ومتزامناً مع صباح يوم العيد، استقرت وحدة من قوات الشرطة مكونة من عشرات الأشخاص في الشوارع المحيطة بالمكانين، وقامت بإغلاق الطرق ومنع أهل السُنّة من الوصول إلى هذين المكانين (5).
ويتم اضطهاد السُنّة تحت ذرائع فكرية وسياسية، تُروَّج من قبل نخب النظام الإيراني، والنخب الموالية له، عبر إطلاق مصطلح "الوهابية" على السُنّة، في عملية مزج ديني-قومي. أي إنّ تلك النخب ترى فيهم امتداداً للهُوِيّة العربية الخليجية والسعودية خاصة، وبالتالي اعتبارهم مجرد عملاء للفكر العروبي، رغم التنوع الفقهي الذي تشهده الأوساط السُنّية في إيران، وهو ما يبرر لتلك النخب توسيع إطار الاضطهاد على أساس ديني.
قضية مثل "الوهابية" كانت مطروحة منذ بداية الثورة الخمينية، ودائماً ما حذّر المسؤولون وعلماء الشيعة من نموها. لكن في الحقيقة جرى تعظيم هذه القضية بشكل واسع، وبدل أن تكون ظاهرة مثل هذه بشكل واسع في مناطق أهل السُنّة، غدت هذه الوصمة حجّة قوية لتهميش أهل السُنّة، حيث انتفعت التيارات المتطرفة من هذه الوصمة لمواجهة مشاركة أهل السُنّة في إدارة البلاد، وكانوا ناجحين إلى حدٍّ ما في الوقوف ضد أهل السُنّة، وحرمانهم من المشاركة السياسية والاجتماعية (6).
وعموماً، يمكن ملاحظة أهم أشكال الاضطهاد الديني، منذ الثورة الخمينية تحديداً، في النقاط التالية (7):
- منع أئمة جوامع أهل السُنّة من حرية بيان عقائدهم على المنابر يوم الجمعة.
- تنفيذ الإعدامات بتهمة الوهابية، وهم كل من يدعو إلى مذهب أهل السُنّة.
- الجرح لعقائد أهل السُنّة والنيل من الصحابة عموماً في الدوائر الحكومية وأمام أهل السُنّة.
- عدم السماح لأهل السُنّة ببناء المساجد والمدارس في المناطق ذات الأكثرية الشيعية.
- هدم عدد من المساجد والمدارس الدينية السُنّية.
- تسخير جميع وسائل الإعلام لنشر العقيدة الشيعية في الأوساط السُنّية.
- تنشئة الأطفال وأبناء أهل السُنّة على أفكار وعقائد الشيعة وترغيبهم بها، عن طريق المدارس من الابتدائية إلى العالية.
- حرمان أهل السُنّة من شؤونهم الثقافية والاجتماعية والأخلاقية.
ب- الاضطهاد الاجتماعي:
إنّ عملية الاضطهاد الديني المبرمج والممنهج الذي تمارسه النخب الإيرانية ضد السُنّة، أسّس لحالة عامة في السلوك السلطوي والمجتمعي، تجاه اضطهاد أوسع على الأساس الديني السابق. لتشمل قائمة الاضطهاد تلك، مفاصل واسعة من الحياة اليومية للسكان السُنّة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- التضييق في المجالات الاقتصادية، عبر منع إنشاء المشاريع الاستثمارية، أو مصادرة الأملاك بحجج أمنية، أو إتلاف المنتجات ومنع نقلها من منطقة إلى أخرى.
- غياب التنمية بشكل كامل عن المناطق ذات الأكثرية السُنَية.
- منع التعلم والتعليم باللغات القومية للسُنّة.
- فرض مناهج تعليمية شيعية وأساتذة شيعة، والفقه الشيعي على السُنّة.
- نشر المخدرات في المناطق السُنّية والعرقية خارج المركز الفارسي، كأداة لتفكيك لحمة المجتمعات المحلية.
- فرض حظر على تسميات مواليد السُنّة، بأسماء ترمز إلى بعد عربي خالص، أو بعد سُنّي بالتحديد.
- التمييز الاضطهادي في المعاملة في المشافي والمدارس ضد السُنّة.
- منع نشر المطبوعات المدرسة والفكرية الخاصة بالسُنّة.
وقد أشار إمام وخطيب أهل السُنّة في بلوشستان، الشيخ عبد الحميد إلى التضييق على أهل السُنّة في حالات التنقل من منطقة إلى أخرى يقطنها السُنّة أيضاً، قائلا: "مع الأسف يواجه بعض أهل السُنّة في سفرهم إلى المناطق السُنيّة الأخرى داخل إيران، التضييق من قبل العناصر المتطرفة، حيث يستجوبونهم في نقاط التفتيش"، ويمنعون دخلوهم أو يتم اعتقالهم بتهم الانتماء إلى تنظيمات محظورة (8).
ومن السياسات الاجتماعية الاضطهادية للسُنّة، تلغيم أراضيهم: حيث قامت الحكومة الإيرانية بتلغيم مساحات كبيرة من الأراضي البلوشية المتاخمة لأفغانستان، وتحديداً عند مرتفعات سلسلة جبال بير سوران، ودره غلاب، وغابة غزو، وآبار آب شورك؛ بحجة أنّها مناطق لتهريب المخدرات. واتخذت الحكومة من ذلك فرصة لتشويه سمعة المسلمين السُنّة، وفرض المزيد من القيود والتضييق الاقتصادي عليهم، فقد كانت هذه الأراضي مناطق رعي للمسلمين من البدو السُنّة، وأدى هذا التصرف إلى تعرض عشرات منهم ومن مواشيهم للموت بشكل منتظم نتيجة انفجار الألغام (9).
وتدفع النخب الحاكمة إلى إفراغ كثير من المناطق المركزية من سكانها السُنّة، بغية الحفاظ على تركيبة فارسية-شيعية صرفة فيها، وخاصة في المدن الكبرى. عبر توجيه التهم ذاتها لهم، بسعيهم –السُنّة- إلى إحداث تغييرات ديموغرافية عبر توسيع عمليات شراء الأراضي في تلك المدن. وشكلت هذه الحجة مبرراً للسلطات لمنع شراء الأراضي أو المساكن من قبل السُنّة، وطردهم منها.
إذ انتقد الشيخ عبد الحميد إمام وخطيب أهل السُنّة في زاهدان ورئيس اتحاد المعاهد الشرعية في محافظة سيستان وبلوشستان التصريحات الأخيرة للمرجع الشيعي المعروف آية الله مكارم الشيرازي التي وجّه فيها عّدة تهم إلى أهل السُنّة والجماعة في إيران، منها أنّهم يشترون أراضي الشيعة في ضواحي المدن الكبرى لتغيير التركيبة السكانية (10).
وكان آية الله مكارم شيرازي، قال "نرى اليوم أهل السُنّة يشترون الأراضي في أطراف مدينة مشهد (خراسان) كي يزداد عددهم .. إنّ أيّ أحد ينفق ريالاً واحداً لترويج المذهب الشيعي فهو يساعد على استقرار وأمن إيران". قائلاً: "دعيت المسؤولين إلى تشكيل أحزاب ومجموعات للتصدي لهذه النشاطات (التحول لمذهب السُنّة)، ولا توجد أيّ محدودية لمن يقوم بمنعهم، ونحن طليقو الأيدي في هذا المجال (11)".
وتترافق عملية الاضطهاد الجغرافي الديني والعرقي، بعملية استهداف لحجم السكان، من خلال استهداف حجم المواليد سياسياً، باعتباره خطراً على الأمن القومي الإيراني، من خلال إخلالها بالنسب السكانية، لغير صالح الفرس-الشيعة، بل والدعوة إلى اتخاذ إجراءات تَحدّ منها.
إذ ادّعى ناصر رفيعي عضو الهيئة العلمية لجامعة المصطفى العالمية في مؤتمر مذهبي، انخفاض عدد الشيعة ونموّ أعداد السّنُة في البلاد. وقال: "إنّ مراجع التقليد قلقون بالنسبة إلى انخفاض عدد الشيعة". فيما طالب آية الله مكارم الشيرازي من المراجع بتكوين فريق عامل لمواجهة تزايد عدد أهل السُنّة في إيران (12).
ووفقاً "لحجة الإسلام والمسلمين"، ناصر رفيعي، العضو البارز في "الهيئة العلمية لجامعة المصطفى العالمية"، فإنّ "نسبة أهل السُنّة في إيران ترتفع بسرعة، وفي المقابل نسبة عدد الشيعة تنخفض، مشيراً إلى أنّ عدد تلاميذ المرحلة الابتدائية من أبناء السُنّة يعادل 50% من كل التلاميذ في إيران، ما يعني أنّ عددهم أصبح يعادل الشيعة". وأضاف رفيعي: "في إحدى المدن في محافظة أذربيجان الإيرانية يفوق عدد أهل السُنّة عدد الشيعة، حيث أصبحت نسبة السُنّة 70%، والشيعة 30%، وهذا خطير جداً (13)".
وحيث تغيب الإحصائيات الدقيقة لكافّة تلك المسائل، فإنّ مثل هذه التصريحات، تنبع من مواقف ذاتية غير ذات مصداقية، باعتبار أنّ غالبية أهل السُنّة متزوجون من أربع نساء، وكل عائلة بالتالي تتكون من أربعين ابناً وابنة.
وربما تأتي تلك السياسات الجديدة عقب محاولات للكشف عن الثقل الديني والقومي في إيران، ما شكّل صدمة للنخب الحاكمة، ومحاولة لتبرير السياسيات التعتيمية، بإرجاع الأمر إلى زيادات مفاجئة في الوسط السُنّي، لم تكن تحت أيّة رقابة. علما أنّ الإحصائيات شبه الرسمية إبّان ثورة الخميني، كانت قدرت نسبة السُنّة بحوالي 25% من السكان. فيما شهدت سنوات ما بعد الثورة، انخفاضاً في تلك النسب نتيجة الاستهداف الحكومي، أو النزوح السكاني إلى خارج إيران، هرباً من السياسات الإقصائية. كما أنّه من المحتمل أن نسب الزيادات السُنّية كانت وراء تلك السياسيات، إذ اضطر كثير من السُنّة إضافة إلى قوميات أخرى، تشكيل موجات هجرة داخلية إلى المدن الكبرى، عقب فقدان مراكزها الجغرافية لمقومات الاستمرارية الحضارية، بل والمعيشية.
أما إن كانت تلك النسب صحيحة، وفق المصادر الفارسية، فإنه من باب أولى إتاحة المجال أمامهم لتمثيل عادل، وفق قاعدة الأكثرية/ الأقلية، وإسقاط شكل نظام المرشد المفروض على أكثرية سُنّية في البلاد. وهو ما تخشاه القيادات الإيرانية، باعتبار الوجود السُنّي "قنبلة ديموغرافية" قابلة للانفجار، في ذات النهج الذي تخشاه إسرائيل من "القنبلة الديموغرافية" الفلسطينية.
ج- الاضطهاد السياسي والإداري:
تترافق أشكال الاضطهاد الديني، وعلى أساس ديني، باضطهاد على المستوى الإداري والسياسي داخل وظائف الدولة، وتشمل قائمة الوظائف الممنوعة عن أهل السُنّة، مجالات واسعة في الهيكل الإداري للدولة، ومنها:
- المؤسسات التابعة لقيادة الثورة، كمجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام.
- رئاسة الجمهورية.
- رئاسة الوزراء، والوزراء، ونوابهم.
- أجهزة الاستخبارات.
- القوات المسلحة والشرطة.
- الإذاعة والتلفاز الرسمي للبلاد.
- إدارة المحافظات (المحافظون).
- السفراء.
- عدم ابتعاث أي من الطلاب السنة في بعثات عملية خارجية.
أما على مستوى البرلمان، فإنّ تمثيل أهل السُنّة لا يتناسب مع حجمهم الحقيقي، إذ لا يمثلهم في البرلمان سوى 12 نائباً فقط. في حين يمثل الشيعة في البرلمان نائب عن كل 200 ألف نسمة تقريباً، كما تتّهم الأطراف السُنّة السلطة في إيران بإنجاح العناصر السُنّية الموالية لها وليست المعبرة عن مطالبهم (14).
ثالثاً- الإطار التنظيمي الدعوي والسياسي للسنة في إيران:
تعاني المجتمعات داخل إيران، من تضييق حكومي بالغ لجهة إنشاء منظمات المجتمع المدني والأحزاب، عدا عن صعوبات قيام تنظيمات دعوية دينية. حيث تعتبر السلطات الإيرانية، تلك التنظيمات، وفي جلّها، تنظيمات معادية للنظام السياسي، تهدف إلى تغيير البنية العقائدية الفكرية، مستهدفة المركزية الفارسية-الشيعية للحكم والمجتمع معاً. وغالباً ما لجأت إلى اعتقال نشطاء المجتمع المدني، والحكم عليهم بالإعدام أو بالسجن لفترات طويلة، كآلية قمع وتفريغ للمجتمع من قياداته ونخبه القادرة على الحراك السياسي.
ويبقى النشاط المدني والسياسي والدعوي في إيران، نشاطاً قائماً رغم ذلك، ضمن أطر غالبيتها سرية، أو ملتزمة بكثير من القيود الفكرية المفروضة عليها من قبل السلطات.
وقد رصد الباحث الأحوازي صباح الموسوي، أبرز النشاطات التنظيمية للسُنّة في إيران، ويمكن اختصارها بما يلي (15):
- الأحواز: السائد في تلك المناطق المنهج السلفي وجماعة الدعوة والتبليغ، ولا يوجد نشاط لحركة إسلامية منظمة في تلك المنطقة. ويجري العمل الدعوي فيها بواسطة الدعاة والمشايخ الذين يديرون نشاطهم من خلال المدارس الدينية حيث تكمن الزعامة الدينية هناك في مدرسة الشيخ سلطان العلماء. فالنشاط الإسلامي الحركي فيه حديث النشأة، ولم يتمكن بعد من ترسيخ وجوده بالشكل الذي هو عليه في المناطق الكردية والبلوشية والمناطق السنية الأخرى، كما أنّ غالبية الشعب في الأحواز على المذهب الشيعي، ويشهد تحولات عقائدية كبيرة في السنوات الأخيرة.
- حزب الفرقان، سلفي، عامل في الساحة البلوشية.
- حركة جند الله، سلفية، عاملة في الساحة البلوشية.
- حركة الجهاد الإسلامي، عاملة في الساحة البلوشية.
- جماعة الدعوة والإصلاح، إخوان مسلمون، عاملة في الساحة الكردية.
- منظمة خبات الثورية الإسلامية، عاملة في الساحة الكردية.
- جماعة الموحدون الأحرار، عاملة في الساحة الكردية.
- شورى المسلمين السنة "شمس"، عاملة في الساحة الكردية.
- شخصيات مستقلة تميل إلى المنهج السلفي.
- ينتشر في الوسط التركماني تيار الصوفية على الطريقة الجيلانية، دون تكتل تنظيمي.
- تتوازع السلفية والصوفية والإخوان الانتشار في إقليم خرسان، دون تكتل تنظيمي.
الخاتمة:
من خلال ما سبق، يمكن فهم السلوك العنفي الذي تدفع به إيران في المجتمعات العربية التي تهيمن عليها، إذ تتسم البِنيَة الفكرية العقائدية للنخب الإيرانية والمجتمعات التي تنتمي لها، بالتعصبية التمييزية التي تلغي الآخر كلياً، وتسلبه أبسط مقومات الحياة المعاصرة.
وعليه، يمكن فهم سياقات عمليات الإبادة الجماعية التي تقوم بها الميليشيات الإيرانية أو التابعة لها في العراق وسورية واليمن، وتدمير البنى التحتية، وحتى اللصوصية وعمليات الاغتصاب التي تمارس تجاه المجتمعات السُنّية والعربية من قبل تلك الميليشيات.
إذ لا تستوعب البِنيَة الفكرية الفارسية-الشيعية، وجود آخر مخالف لها في الاعتقاد، ومضادٍّ لها في الانتماء، ومنافس سياسي لطموحاتها الامبريالية، وعليه يغدو إلغاء الآخر وجودياً، أحد أبرز السلوكيات المرضية للعناصر الإيرانية تجاه المحيط العربي. ومبرراً لحالات تزايد العنف لديها، خاصة مع توسع أدواتها العسكرية، باعتبار ذلك حلاً أخيراً في حال فشل عمليات إعادة أدلجة المجتمع شيعياً، وخلق هُوِيّة خاضعة كلياً للسلطوية الفارسية، من خلال أدوات التبشير المذهبي.
المراجع:
(1) للاطلاع على مسألة القوميات في إيران، انظر: عبد القادر نعناع، "صراع الهويات في إيران: بين الهوية الكلية والهويات الفرعية"، 23/102013، مركز المزماة للدراسات والبحوث: http://www.almezmaah.com/ar/news-view-3058.html.
(2) عبد الله الطلحة، "إيران: 20 مليون نسمة يمثلون أهل السنة والجماعة"، 13/11/2009، صحيفة الرياض، العدد 15117: http://www.alriyadh.com/473876.
(3) "مناطق أهل السنة في إيران"، 11/5/2008: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/areas-of-the-sunnis-in-iran/331-----.html.
(4) "نحن نجيب إلهكم عن قرآنكم المدنس ومدرستكم المهدمة"، 3/9/2008: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/conditions-of-the-sunnis-in-iran/935---------sp-2030324446.html.
(5) "منع أهل السنة في طهران من إقامة صلاة العيد في بعض المصليات"، 20/10/2013: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/conditions-of-the-sunnis-in-iran/4259-eid-tehran.html.
(6) "اتساع نطاق التمييزات ضد أهل السنة في إيران"، 12/8/2012: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/conditions-of-the-sunnis-in-iran/3583-2012-08-12-11-19-25.html.
(7) "أهل السنة في إيران .. معناة لم تنتهِ"، 1/5/2012: http://www.almokhtsar.com/node/50800.
(8) "فضيلة الشيخ عبد الحميد يتحدث عن مضايقات يتعرض لها السنة في إيران"، 13/8/2011: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/conditions-of-the-sunnis-in-iran/2938-2011-08-13-11-53-30.html.
(9) "أهل السنة في إيران: تحديات الواقع وآفاق المستقبل"، مركز التنوير للدراسات الإنسانية: http://www.altanweer.net/articles.aspx?id=20044&selected_id=-200440003&page_size=5&links=true.
(10) "فضيلة الشيخ عبد الحميد يرد على التصريحات الأخيرة لآية الله مكارم الشيرازي"، 28/10/2013: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/conditions-of-the-sunnis-in-iran/4269-sheikh-makarem.html.
(11) موسى الشريفي، "تزايد أهل السنة في إيراني يزعج مراجع شيعية"، 8/3/2014، العربية نت.
(12) "إثارة القلاقل حول تزايد عدد أهل السنة في إيران، أداة جديدة بيد المتطرفين"، 13/3/2014: http://arabic.sunnionline.us/index.php/sunni-community-in-iran/conditions-of-the-sunnis-in-iran/4471-sunnis-iran.html.
(13) موسى الشريفي، مرجع سابق.
(14) "أهل السنة في إيران: تحديات الواقع وآفاق المستقبل"، مرجع سابق.
(15) للمزيد حول هذه التنظيمات، انظر: علي عبد العال، "الموسوي: لولا علماء السنة لدخلت إيران في دوامة حرب قومية"، موقع البينة: http://www.albainah.net/index.aspx?function=Item&id=38035&lang=.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة، بتاريخ 2014/9/22