حين اصطنع بندكت أندرسون مصطلح "الجماعة المتخيلة"، كان يؤسس لواحد من أهم المصطلحات السياسية المعاصرة.
في الثورة السورية، ونتيجة جملة أسباب، كان على رأسها إخفاق بناء الهوية الوطنية، بل وتفكيكها أسدياً، وأسباب أخرى، أدت في محصلتها إلى خلل في تخيل الهوية الثورية وما بعدها.
وغدت الثورة وعاء لجملة هويات متخيلة، بعضها إثني يسم الثورة بأنها سنية، وبعضها وطني (ثورة سورية)، فيما ذهبت آراء أخرى إلى تخيلها ثورة للأمة العربية أو الإسلامية.
تخيل أمة، واختصار قضاياها في ثورة محلية، بل جعل جماعات سكانية محدودة في مرتبة الدفاع عن تلك الأمم المتخيلة، حمّل الثورة أعباء لم تكن جاهزة لها مطلقاً.
عدا عن أن الدفاع عن تلك الأمم المتخيلة، أتى مناقضاً لسلوك الأمتين العربية والإسلامية، التي لم تكن معنية بالثورة السورية بأكثر من شفقة آنية، بل ذهب جزء من هاتين الأمتين إلى الاصطفاف بعكس تيار الثورة.
العبء الأكثر إرهاقاً، هو تنزيل الجهاد بمفهومه الواسع الذي له شروط أولها وجود قائد للأمة، ووجود أمة، ووجود جيش واحد، تنزيل هذا الجهاد على عمليات الدفاع الشرعي عن الذات، أتى مستقطباً لجماعات جهادية من جهة، وأغلق الباب على جماعات محلية من جهة ثانية، وحوّل القضية من تحرر من نير استبداد، إلى إلقاء مسؤولية تحرير الأمة الإسلامية المتخيلة على كاهل السوريين وحدهم.
ربما كان استدعاء الجهاد، حالة عاطفية ناتجة عن شتات الهوية، وربما كان دفعاً حزبياً مصلحيا، أو رغبة الممول الخارجي، لكنه زاد في تعقيد المسألة كثيراً.
تعثر الثورة في إطاحة نظام الأسد، وتعدد الفاعلين الخارجيين، سواء باصطفافهم مع النظام أو مع الثورة، أدى إلى بروز إشكاليات هويتية-سياسية تجاوزت موضوع الثورة، إلى موضوع تعريف الذات والآخر، السوريين كليهما، وفق هويات دون وطنية، والإصرار عليها كهوية بديلة عن الهوية الجامعة.
وفقدت الهوية السورية، التي كان من المفترض أن تكون محدد السلوك في زمن الثورة أو الانفجار، فقدت مكانتها العليا، وباتت غير واضحة المعالم، حتى لدى تلك النخبة الصغيرة التي ما تزال تتمسك ببناء سورية ديموقراطية "علمانية"، سع لكافة الجماعات الإثنية، ودون أي شكل من أشكال التمييز.
هذه النخبة، لم تطور مفهوماً ليبرالياً متكاملاً لحقوق الفرد والدمقرطة، بقدر ما كانت في موقف دفاعي عن الهوية المتخيلة، وحاولت أن تبقى متوازنة بين تيارات متجاذبة طائفياً وعرقياً، بل وحتى ضمن الجماعة الواحدة (السنية)، التي هي الأخرى تشعبت إلى هويات غير متجانسة سياسياً أو هويتياً، بين جماعات تتطلع إلى دولة وطنية، وأخرى إلى دولة دينية، وثالثة ما تزال منحازة إلى دولة الاستبداد.
ولم تستطع الثورة إنتاج هوية متوافق عليها، إثنياً أو سياسياً، مع مسارات باتت لغير صالح الثورة، وبالتالي يبدو أن المشهد السياسي يفرض أشكال هويتية أكثر اضطراباً مما هو عليه، إما لناحية مزيد من ترسيخ خطوط الفصل الهويتي داخل الهوية السورية الجامعة افتراضياً، أو لناحية استعادة حالة استبدادية، تعيد فرض هوية جامعة غير متسقة مع الهويات الفرعية.
د. عبد القادر نعناع