د. عبد القادر نعناع

أوروبا وحيدة: ماذا بعد تحالف الأطلسي؟

د. عبد القادر نعناع • ٢ يوليو ٢٠١٩
الكتابان: ألينا بولياكوفا وبنيامين حداد.
ترجمة: د. عبد القادر نعناع


أثناء حديثه في مؤتمر ميونخ الأمني في أوائل عام 2019، وجه نائب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، رسالة مطمئنة للسياسيين والدبلوماسيين والقادة العسكريين الأوروبيين، الذين يشعرون بالقلق من فك الارتباط الأمريكي، قال فيها: "سنعود"، وقوبل خطاب بايد بالاستحسان والارتياح.

وبانتظار ولاية الرئيس دونالد ترامب، ليقول وقريباً أو لاحقًا، أنه يمكن للقادة العودة إلى الإجماع عبر الأطلسي، الذي حدد حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ضمن لعبة عنوانها "الصبر".

كان بايدن يغذي أملاً مشتركاً ولكن وهمياً، وكان بإمكان الإدارة الأمريكية الجديدة تخفيف بعض التوترات الحالية عبر الأطلسي، وعلى سبيل المثال، عبر إلغاء الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم الأوروبيين، أو الانضمام إلى اتفاق باريس للمناخ، لكن هذه الإصلاحات لم تكن لتحل المشكلة من جذورها، فالتصدع في علاقات الولايات المتحدة وأوروبا لم يبدأ مع ترامب، ولن ينتهي به.

وعوضاً عن الاستسلام للحنين، كان ينبغي على قادة الولايات المتحدة وأوروبا البدء بتقييم صادق للطريق الذي قادهم إلى الأزمة الحالية، وبما يشكل خطوة أولى لبناء شراكة عبر الأطلسي أكثر نضجًا وتطلعية.

لم يكن البيت الأبيض العدائي، هو التهديد الرئيس للعلاقة عبر الأطلسي، أو الفصل بين المصالح، فأزمة اليوم هي أولاً وقبل كل شيء نتيجة عدم تناسق القوة بين الولايات المتحدة وأوروبا. ولفترة طويلة، قبل الجانبان هذا الخلل، بل قاما بتثبيته.

بقيت أوروبا مستسلمة لذلك، مقابل أن تقبع تحت مظلة الدفاع الأمريكية، ورغم كراهيتهم الحالية لـ "تقاسم الأعباء"، فقد فضل القادة الأمريكيون منذ فترة طويلة أن يكون الأوروبيون بمثابة راكب مجاني في مركبة السياسة الدفاعية الأمريكية، عوضاً الفوضى الأوروبية. ولكن مع نهاية الحرب الباردة، وأحداث 11 سبتمبر/أيلول، وصعود الصين، أدت جمعيها في نهاية المطاف إلى أن تغير واشنطن من أولوياتها الأمنية في أماكن أخرى، تاركة أوروبا وحدها تفنى.

وغدت أوروبا اليوم، قارة "نباتية في عالم من الحيوانات آكلة اللحوم"، كما وصفها سيجمار غابرييل Sigmar Gabriel، وزير خارجية ألمانيا السابق. وأعطت سياسة إدارة ترامب في أوروبا، المتأرجحة بين اللامبالاة والعداء، أعطت إيحاء بضرورة وجود حاجة ملحة جديدة.

في الوقت الحالي، لا تزال الرؤى الأوروبية "للحكم الذاتي الاستراتيجي" بعيداً عن الولايات المتحدة، والتي غالباً ما يستشهد بها رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود جونكر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن حتى الآن، لا يوجد جيش أوروبي سوى على صفحات من الأوراق البيضاء. لكن حتى مثل هذه المقترحات المبدئية تغذي شكوك الولايات المتحدة، إن لم تكن تعارضها بشكل صريح.

يبدو أن الخوف الأمريكي ينبع من أن يكون هناك رغبة أوروبية في صناعة مسار خاص في المسائل الأمنية، يضع القارة في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدة. فيما يفضل صناع السياسة في الولايات المتحدة أن ينفق الأوروبيون أكثر على القوة العسكرية داخل حدود الناتو، وهي فكرة تستند إلى افتراض أن أوروبا أكثر قدرة ستظل تحذو حذو الولايات المتحدة. ومع ذلك، يبقى الأمل في إمكانية دفع أوروبا للاستثمار في دفاعها دون تطوير مصالح أمنية أكثر استقلالية مجرد أمل خيالي.

يتعين على صانعي السياسة في الولايات المتحدة الاختيار، بين تفضيلات عدة، فإما أن يحافظوا على قارة أوروبية ضعيفة ومنقسمة تتماشى مع مصالحهم وتعتمد على قوة الولايات المتحدة، أو أن يكونوا مستعدين للتعامل مع شريك أكثر قوة واستقلالية يتعارض أحيانًا مع سياساتهم المفضلة. أما أوروبا من جانبها، فلديها خيار مماثل للقيام به، فلا يمكنها أن تدعي القدرة على القيادة العالمية المستقلة فيما تواصل الاعتماد على الولايات المتحدة في شؤونها الأمنية، بما في ذلك في جوارها المباشر.

إن عكس الاتجاه نحو فك الارتباط والانفصال الأوروبي عن الولايات المتحدة، هو مسؤولية صانعي السياسة الأوروبيين. لكن على الولايات المتحدة ألا تعارض هذه الجهود، حتى لو انتهى بها الأمر إلى جعل أوروبا شريكًا أكثر صعوبة.

وعلى المدى البعيد، فإن قارة قوية قادرة على الدفاع عن مصالحها وخوض معاركها، ستفيد واشنطن أكثر من كونها قارة منقسمة وضعيفة. ويمكن للتحالف عبر المحيط الأطلسي ويجب أن يظل حجر الأساس للنموذج الغربي للقيم والمبادئ الديمقراطية الليبرالية. لكن سيتعين عليها التحول لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية المتزايدة التي تفرضها كل من الصين وروسيا. وبدلاً من السعي وراء عودة شراكة عبر الأطلسي التي ستستمر بلا شك، يجب على الولايات المتحدة وأوروبا الآن الاستثمار في نتائج الحكم الذاتي الأوروبي وقبولها تلك النتائج.


الاشتعال البطيء:
تتم كتابة حكايات من العصر الذهبي للوحدة عبر المحيط الأطلسي في محاولة للاستفادة منها بعد فوات الأوان، وفي الحقيقة، كانت العلاقة دائماً مضطربة. فقد طورت فرنسا والمملكة المتحدة قدرات الضربة النووية الخاصة بها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ضد الاعتراضات الأولية للزعماء الأمريكيين. حتى أن فرنسا تركت القيادة العسكرية المتكاملة لحلف الناتو في عام 1966، وعادت فقط في عام 2009. بينما سعت ألمانيا الغربية إلى علاقات أكثر انفراجاً مع ألمانيا الشرقية في سبعينيات القرن الماضي، مما دفع الآخرين إلى الخوف من تآكل العلاقات عبر الأطلسي، التي توحد الغرب ضد الكتلة الشرقية. كما أثارت الأحداث في الشرق الأوسط، قبل كل شيء، خلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا لعقود من الزمن، وذلك قبل فترة طويلة من انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية الإيرانية.

ولم يبدأ فك الارتباط الأمريكي من أوروبا بتنصيب ترامب، فمنذ نهاية الحرب الباردة، أبدت الولايات المتحدة رفضاً لمخاوف الأوروبيين، وبدت متحفظة في تقديم أرواح جنودها وأموالها لحماية الأوروبيين. وفي عام 2001، قام الرئيس جورج دبليو بوش بالانسحاب من بروتوكول كيوتو لعام 1997 على الرغم من الضغوط الشديدة التي قام بها جيرهارد شرودر، المستشار الألماني. ورفضت فرنسا وألمانيا الانضمام إلى "تحالف الراغبين" الذي أنشأته إدارة بوش للحرب العراق، وهو الانقسام الذي بدا وكأنه يمثل تراجعاً جديدًا في العلاقات عبر الأطلسي.

فيما وضع الرئيس باراك أوباما الملح على الجروح، وكانت إدارته "محورية" لآسيا، وقامت بـ "إعادة ضبط" مع روسيا. وفي الوقت نفسه، ألغت خططًا لبناء نظام دفاع صاروخي أمريكي في بولندا مع محطات رادار في جمهورية التشيك، وسحبت في وقت لاحق لواءين من الجيش الأمريكي من أوروبا.

وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، قامت إدارة أوباما بعكس مسارها، حيث أعادت في نهاية المطاف أحد الأولويات عبر إنشاء مبادرة الطمأنينة الأوروبية (المعروفة الآن باسم مبادرة الردع الأوروبية)، وهو صندوق البنتاغون لعمليات الدفاع عن الحلفاء الأوروبيين. لكن حتى ذلك الحين، كان لدى أوباما كلمات قاسية لأوروبا، حيث وصف فرنسا والمملكة المتحدة بأنها "راكب مجاني" وذلك في مقابلة مع صحيفة The Atlantic.

وبأخذ ذلك في عين الاعتبار، فإن مشكلات اليوم ليست مستحدثة، فالخلافات الحالية بين الولايات المتحدة وأوروبا حول صفقة إيران النووية باهتة، مقارنة بالانقسام الذي نشأ عندما عارضت واشنطن الغزو البريطاني والفرنسي لمصر خلال أزمة السويس عام 1956، وحول احتلال العراق في عام 2003، والخلافات المتكررة حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

ومع ذلك، فإن روح العصر والأزمة والتفكك القائم، يبدو كل ذلك مناسباً في الوقت الحالي، ليرى الأوروبيون أن إدارة ترامب تصنع كبش فداء مناسب، كما قال الصحفي جيمس كيرشيك James Kirchick: "إلقاء اللوم على ترامب في مشاكلهم هو الشيء الوحيد الذي يمكن للأوروبيين الاتفاق عليه".

بالطبع، كان بإمكان القادة الأوروبيين قراءة التطورات المعروضة علناً، وذلك قبل فترة طويلة من رئاسة ترامب، والخروج باستراتيجية لإبقاء الولايات المتحدة منخرطة. وبدلاً من ذلك، ظلوا راضين عن ضعفهم ومتواطئين في تدهور العلاقة، إلى الحد الذي أصبح فيه كل خلاف سياسي -يفاقمه خطاب ترامب غير الدبلوماسي- يزيد من حدة التصدع. وبدلاً من التذمر من أسباب الوفاة المبكرة، فإن من الأفضل أن يقبل الطرفان بأن التحالف يجب أن يتغير، وأن يعملا نحو هدف علاقة أكثر توازناً، ويخففا من الآثار الحتمية لهذه التداعيات.


هل هي نهاية إلى الرضا عن الذات؟
بات مأزق أوروبا واضحاً، ومن دون رؤية مشتركة للدفاع، وضغوط مزعزعة للاستقرار على أطرافها، ستعمل القارة قريبًا كمسرح، وليس كمشارك، في منافسة القوى العظمى. بينما تدعم روسيا، وبنشاط، الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية، وتتدخل بانتظام في الانتخابات الأوروبية. ففي أوكرانيا، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير شرعي، وأثارت حربًا بطيئة الاشتعال أسفرت عن مقتل 13000 أوكراني وتشريد 1.5 مليون.

وفي أقصى الجنوب، دفعت الحرب الأهلية السورية ملايين اللاجئين إلى شواطئ أوروبا، مما تسبب في انقسام حول سياسة الهجرة وأثار صعود الأحزاب الشعبوية.

واستثمرت الصين من جانبها، وبكثافة، في الموانئ والبنية التحتية التكنولوجية في أوروبا، جزئياً لأنها تأمل في دق إسفين بين الولايات المتحدة وأوروبا، فكلما كانت أوروبا منقسمة داخلياً، كلما وجدت نفسها تحت رحمة هذه القوى العظمى الانتهازية.

هذه وصفة لأوروبا التي تعصف بها القومية مرة أخرى، والاتحاد الأوروبي الذي لا صلة له بالموضوع، والتحالف عبر المحيط الأطلسي الذي تتمتع فيه أوروبا بنفوذ ضئيل، بينما تفتقر الولايات المتحدة إلى شريك قوي.

الطريقة الوحيدة الحكيمة لتجنب هذا السيناريو الكابوس، هي أن تتخلى أوروبا عن ثقافة الرضا عن الذات، لصالح الحكم الذاتي. ويجب أن تطور القدرة على الدفاع عن نفسها بشكل أفضل، ومتابعة المصالح الأوروبية المشتركة. فقد حددت الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي هذا الهدف في استراتيجيتها العالمية لعام 2016، وردد القادة نفس المشاعر في الخطب في جميع أنحاء القارة، لكن هذا لا يعني أن الوصول إلى ذلك سيكون سهلاً.

فمن ناحية، يتعين على أوروبا بذل المزيد من الجهد لتأمين المناطق المجاورة، وكما أثبتت الحرب الأهلية السورية، فإن العديد من الدول الأوروبية تفتقر إلى القدرة العسكرية والإرادة السياسية للقيام بذلك. فبمجرد أن وبخت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، الترامبيين والنهج الترامبي، دفع ذلك بالعديد من المراقبين إلى إعلانها "القائدة الجديدة للعالم الحر". ففي مؤتمر ميونيخ الأمني ​​هذا العام، انتقدت ميركل، التي عادة ما تكون حذرة، إعلان ترامب بأن الولايات المتحدة ستنسحب من سوريا: "قرار أن إدارته ستنسحب لاحقًا". وتساءلت ميركل: "هل من الجيد سحب القوات الأمريكية على الفور من سوريا، ألن تقوي نفوذ روسيا وإيران؟". كانت لدى المستشارة نقطة مهمة: فك الارتباط الأميركي المفاجئ من سوريا قد يخلق فراغًا خطيرًا في السلطة، بقدر ما لقد حدث ذلك في العراق عام 2011. لكن انتقادات ميركل تبقى جوفاء، فبينما كانت تقتنص فرصة لمهاجمة السياسة الأمريكية في سوريا، لم يكن هناك جندي ألماني واحد يقاتل على الأرض هناك.

للحصول على استراتيجية أمنية أوروبية أكثر حزماً، انظر بدلاً من ذلك إلى باريس، حيث لم تلزم فرنسا قواتها الجوية فقط بمحاربة الدولة الإسلامية/داعش في سوريا، ودفعت الولايات المتحدة لمزيد من العمل المشترك هناك.

ولا يزال الاستراتيجيون الفرنسيون غاضبين من موضوع "الخط الأحمر" في صيف 2013، عندما تجاهلت إدارة أوباما تحذيرها الخاص من أن الحرب الكيماوية في سوريا ستؤدي إلى تحرك عسكري أمريكي. وشعر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي أرسل أوامر إلى الطائرات الفرنسية لبدء التحليق باتجاه سوريا، وشعر بالخيانة عندما لم تتابع واشنطن ذلك.

إذا نظرنا إلى الوراء على الحادث الذي وقع في عام 2016، وصف وزير الخارجية الهولندي، لوران فابيوس، تراجع الولايات المتحدة بأنه "نقطة تحول، ليس فقط للأزمة في الشرق الأوسط، ولكن أيضًا بالنسبة لأوكرانيا، القرم، والعالم". مع قدرتها العسكرية المحدودة والمتاعب الداخلية المتزايدة، لا يمكن أن تعمل من تلقاء نفسها دون مزيد من الدعم من جيرانها الأوروبيين.

سيتعين على الأوروبيين أيضًا التغلب على انقسامات سياساتهم الخارجية، وأدت المخاوف المتعلقة بالتجسس الصيني وسرقة التكنولوجيا والإعانات الخفية، إلى أن تعتبر المفوضية الأوروبية الصين "منافسًا نظاميًا"، وقامت المفوضية بإدخال نظام يقوم بمراقبة الاستثمارات الأجنبية في البنية التحتية والطاقة والدفاع ووسائل الإعلام، بحثًا عن تهديدات محتملة للأمن الأوروبي، وهي مبادرة بدعم من فرنسا وألمانيا.

ومع ذلك، لا يزال نظام الفحص يفتقر إلى القدرة على التأثير، حيث إنه لا يصدر سوى التوصيات للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي يفتقر الكثير منها إلى تدابير حماية مماثلة على المستوى الوطني.

علاوة على ذلك، فإن موقف بروكسل الجديد صعب بشأن الانقسامات بين الدول الأعضاء، فالحكومة الإيطالية الشعبوية، على سبيل المثال، تسير في طريق مختلف، حيث أصبحت مؤخرًا أول اقتصاد أوروبي رئيس ينضم إلى مبادرة الحزام والطريق في بكين.

وبحسب ما ورد، قررت المملكة المتحدة السماح لشركة Huawei الصينية للتكنولوجيا، بالمشاركة في بناء شبكة 5G البريطانية، على الرغم من ضغوط الولايات المتحدة بعدم استخدام أي معدات تصنعها شركة الاتصالات الصينية العملاقة.

وتطال ذات الانقسامات سياسة الطاقة في القارة، حيث تتجه النمسا وألمانيا نحو استكمال خط أنابيب Nord Stream 2 المثير للجدل، والذي سينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. وفي حال تم الانتهاء منه، فإن من شأنه أن يزيد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي من خلال مضاعفة الطاقة التصديرية لروسيا. والأهم من ذلك، أنه سيسمح لموسكو بالالتفاف بعيداً عن أوكرانيا بالكامل، وبالتالي حرمان أوكرانيا من مليارات الدولارات من إيرادات رسوم نقل الغاز. وفد كشف المشروع عن انقسامات عميقة بين الطموحات الاقتصادية للدول الأعضاء الفردية ومصالح الكتلة ككل.

ومع كل هذه العقبات، لا يزال هناك إجماع أكبر بكثير على السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، أكثر مما يعترف المحللون عادة. وعلى الرغم من التراجع عن الحركات الشعبوية ومصالح الأعمال التجارية المحلية، إلا أن الاتحاد الأوروبي ظل متمسكاً بفرض عقوبات على روسيا.

وبعد التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية والأوروبية، اتخذ الاتحاد الأوروبي أيضًا زمام المبادرة في اقتراح وتنسيق سياسة لمواجهة التضليل، مما يضع أوروبا في مقدمة الولايات المتحدة في معالجة هذه المشكلة. وعلى وجه الخصوص، بدأت دول الاتحاد الأوروبي في تبادل المزيد من المعلومات الاستخباراتية، وتوسعت فرق العمل التي تراقب وتكشف التضليل الروسي.

وبقي الاتحاد الأوروبي ثابتًا في محاولاته لإبقاء الصفقة النووية الإيرانية حية، ضد الاعتراضات الأمريكية، وإقناع طهران بالبقاء ممتثلة للصفقة ولحماية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، وسعى الاتحاد الأوروبي إلى إنشاء أداة مالية ذات غرض خاص، للتحايل على العقوبات الأمريكية خارج الحدود الإقليمية ضد الشركات الأوروبية التي تواصل التجارة مع إيران.

وحتى لو قامت إيران بتجديد برنامجها النووي، كما هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني في مايو، فإن الجهد الأوروبي لإنقاذ الصفقة النووية يظهر أن القارة قادرة على اتباع سياسة خارجية مستقلة عن الولايات المتحدة.

بعد استيقاظ عنيف فيما يتعلق بالقضايا الأمنية المتنامية، من الحرب في أوكرانيا إلى الهجمات الإرهابية والحدود غير المحمية في بداية أزمة اللاجئين، بدأت الدول الأوروبية أيضًا في زيادة استثماراتها الدفاعية، مما وضع حدًا للانخفاض المستمر الذي حدث منذ التسعينات. وعلى الرغم من أن بعض الدول، ولا سيما ألمانيا، لا تزال متخلفة، فإن الاتجاهات الحديثة تشير إلى السير في الاتجاه الصحيح. ففي عام 2016، زادت 22 دولة من بين 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي من الإنفاق الدفاعي، وزاد الإنفاق الدفاعي للقارة مرة أخرى في العام التالي، كما أعادت ليتوانيا والسويد الخدمة العسكرية الإلزامية.

بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على المستوى الوطني، تعمل الحكومات الأوروبية معًا لبناء صناعة دفاعية مشتركة وفعالة. وبات الإنفاق الدفاعي لأوروبا يأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، لكنه يعاني من التكرار وعدم الكفاءة. ولمعالجة هذه المسألة، في عام 2017، أنشأت الكتلة التعاون الهيكلي الدائم أو PESCO، وهو سلسلة من المشاريع المصممة لتجنب الاستثمارات العسكرية غير الفعالة أو المتداخلة، وتنسيق الجهود في الحرب الإلكترونية وأمن الطاقة. وفي نفس العام، أنشأت الحكومات الأوروبية صندوق الدفاع الأوروبي، الذي سيساعد في تمويل مشاريع الدفاع عبر الوطنية.

غير أن هذه الاستثمارات الدفاعية لن تكون دون عواقب، وكما أشار إنشاء صندوق الدفاع الأوروبي، فإن القارة تسعى لتطوير صناعة الدفاع الخاصة بها. لكن المصالح الوطنية في الاستراتيجية العسكرية لا تزال متباعدة في كثير من الأحيان.

فقد منعت ألمانيا، على سبيل المثال، الشركات المصنعة للأسلحة من تصدير الأسلحة إلى السعودية بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بينما تواصل فرنسا النظر إلى السعودية كسوق لتصدير الأسلحة. علاوة على ذلك، ستتنافس صناعة دفاع أوروبية متنامية مع الشركات الأمريكية، مما يضيف نقطة توتر أخرى إلى العلاقة عبر المحيط الأطلسي. وتعرضت واشنطن بالفعل لانتقادات بسبب الضغط على الدول الأوروبية لشراء معدات عسكرية أمريكية الصنع. وفي مارس الماضي، أوضحت وزيرة الدفاع الفرنسي فلورنس بارلي، أن بند الدفاع المتبادل في معاهدة الناتو لا يتطلب من الدول الأوروبية شراء طائرات مقاتلة أمريكية، وقالت مازحة: "إنها تسمى المادة 5، وليس المادة F-35".

ومع ذلك، فإن المخاوف الأمريكية من أن الدفاع المحلي الأوروبي، يتعارض مع الناتو، أمر مبالغ فيه. وتهدف جهود أوروبا، إلى معالجة أوجه القصور في المناطق التي أصبحت ضعيفة بسبب انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة منذ نهاية الحرب الباردة. 

لقد بذل القادة الأوروبيون قصارى جهدهم للتأكيد على أن محاولات دمج الدفاع الأوروبي، ستقوي حلف الناتو بدلاً من أن تنافسه. في الواقع، لقد تم تجديد التحالف منذ عدوان روسيا على أوكرانيا. وقد نفذت عمليات للإشارة إلى التزامها بحماية أوروبا الشرقية، وأعدت قوات سريعة الاستجابة لدعم الجناح الشرقي لحلف الناتو. كما أعاد الناتو التركيز على مهمته الأساسية: الردع الجماعي لحماية أراضيه. وعلى الرغم من رفض ترامب العلني للتحالف، رفعت إدارته الإنفاق على مبادرة الردع الأوروبية، التي تخدم بوضوح غرضًا مشابهًا لهدف الناتو، إلى 6.5 مليار دولار في السنة المالية 2019، بزيادة قدرها أكثر من 3 مليارات دولار في غضون عامين.


سياسات القوة:
فيما يتعلق بالدفاع، ينبغي أن تواصل أوروبا الاستثمار في حلف الناتو، وتطوير سياسة خارجية تضع المصالح الأمنية فوق نفور القارة من الاشتباكات العسكرية الأجنبية. وأكثر فأكثر، ستحتاج أوروبا إلى إرسال قوات إلى الخارج لتأمين نفسها، من خلال استقرار محيطها والمناطق المجاورة.

وعلى سبيل المثال، تظل منطقة البلقان بمثابة صندوق صغير، خاصة وأن بعض الدول -آخرها مقدونيا الشمالية- ستنضم إلى الناتو، بينما تسعى دول أخرى، مثل صربيا، إلى تأييد روسيا. كما لا يزال الوضع في سوريا هشًا، وإذا اندلعت الحرب هناك، فقد يتعين على أوروبا التفكير في التدخل العسكري لتجنب موجة أخرى من اللاجئين.

إن مفهوم الحكم الذاتي الأوروبي، لا يقاس من حيث الدفاع والأمن وحدهما، ولا ينبغي لأوروبا أن تتورط في الجوانب التقنية لسياسات المشتريات الدفاعية، أو أن تسعى لخلق ثقل موازن للقوة العسكرية الأمريكية. وبدلاً من ذلك، يجب أن تزيد الاستراتيجية الأوروبية الجديدة من تلك المجالات التي يتمتع فيها الاتحاد الأوروبي بالفعل بميزة عالمية نسبية: وزنه الاقتصادي، وعملته الموحدة، وقوته السياسية والناعمة.

ولاستخدام هذه المزايا إلى أقصى حد، سيحتاج الأوروبيون إلى التوفيق الفكري بين أنفسهم وقوتهم، وهو اقتراح صعب بالنسبة للقارة، حيث توصلت عدة أجيال من صانعي السياسات، المحميين بمظلة الأمن الأمريكية، إلى تعريف أنفسهم بمفهوم يمكن أن يجعل التعاون التقني أن يحل ببساطة محل علاقات القوة على الساحة الدولية. ويحب الاتحاد الأوروبي أن يفكر في نفسه كقوة معيارية، وأن يستفيد من خبراته التنظيمية وسوقه الموحدة الواسعة والمتكاملة، بهدف تشكيل القواعد العالمية المتعلقة بكل شيء، من الحماية البيئية إلى خصوصية البيانات.

وخصوصاً أن الشركات الأمريكية قد تبنت شروط اللائحة العامة لحماية البيانات، ويبين قانون خصوصية البيانات الطموح للاتحاد الأوروبي، مدى فعالية الكتلة في تصدير قواعدها. ومع ذلك، قلل الاتحاد الأوروبي في بعض الأحيان من أهمية القوة الصلبة في دعم القوة الناعمة. فعندما كانت بروكسل تتفاوض على اتفاقية تجارة حرة مع أوكرانيا في عام 2014، أرسلت في جوهرها الاقتصاديين ذوي النوايا الحسنة إلى منطقة صراع جيوسياسي حاد.

وفكّر قادة الاتحاد الأوروبي في سياسة الجوار الأوروبية، مع حزمة شاملة من الإصلاحات، كأداة بسيطة لتعزيز الحكم الرشيد في الدول المحيطة الاتحاد الأوروبي. ولكن ما فشلوا في تقديره هو أن أهمية تلك المنطقة كانت أكثر جيوسياسياً من أي شيء آخر. ورأى معظم الأوكرانيين أن الاتفاق ليس مجموعة من التعديلات الفنية بل كفرصة لترسيخ بلادهم بشكل أكمل في أوروبا وبالتالي تحدي روسيا.

وبالفعل، عندما أطاح الأوكرانيون برئيسهم بعد أن رفض التوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، كان رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غزو أوكرانيا الشرقية، والاستيلاء على شبه جزيرة القرم. ومن سخرية القدر، ورغم كل أحاديث بوتين التي عفا عليها الزمن، والفهم المكيافيلي للسلطة، كان الرئيس الروسي أكثر انسجامًا من بروكسل، للأهمية الحقيقية للأدوات التكنوقراطية للاتحاد الأوروبي.

إن دعم أوروبا الخجول لأوكرانيا، حتى بعد أن احتج الأوكرانيون - وفي بعض الحالات قتلوا وهم يلوحون بعلم الاتحاد الأوروبي، من المحتمل أن يكون قد شجع موسكو على غزو أوكرانيا، والتدخل في سوريا، والتدخل في العديد من الانتخابات الغربية. وبدلاً من الوقوف متفرجين، كان ينبغي على أوروبا أن ترى في ثورة Euromaidan فرصة لاتخاذ موقف مبدئي ضد روسيا.

ويجب أن تتضمن جهود أوروبا للتصالح مع القوة فهمًا للدور الجيوسياسي الذي يمكن أن تلعبه السوق الموحدة في ضمان السيادة الأوروبية. فمن كسر احتكارات الغاز الروسية إلى عرقلة الاستثمارات الصينية، يمكن للمفوضية الأوروبية استخدام أدواتها التنظيمية البيروقراطية لضمان ألا تكون أوروبا مجرد مسرح لأفعال القوى العظمى المفترسة. وللقيام بذلك، سيتعين على المشرعين التغلب على ارتباطهم العقائدي بالانفتاح، ووضع دفاع أكثر واقعية عن المواطنين الأوروبيين في صلب السياسات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي.

الأمر نفسه ينطبق على قوانين الهجرة واللجوء، ومن شأن الضوابط الحدودية الأكثر صرامة، وهي الركيزة الأساسية للسيادة، أن تساعد في سد الفجوة بين بروكسل والمواطنين في جميع أنحاء القارة، والكثير منهم قلقون من أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي لم تكن قادرة على حمايتهم ضد ما يرون أنهم مهاجرون جامحون.


لا مزيد من الحنين إلى الماضي:
بقدر ما يتعلق الأمر بواشنطن، فإن تمتع أوروبا بحكم ذاتي أكبر يعني حتماً المزيد من الصداع والخلافات، وتأمل الجهود الأوروبية التحايل على العقوبات الأمريكية على إيران. وعلى الرغم من أن هذه المساعي رمزية إلى حد كبير في هذه المرحلة، إلا أنها قد تؤدي إلى محاولة أكثر طموحًا للترويج لليورو كعملة احتياطية بديلة، مما يقلل من اعتماد الأوروبيين على الدولار الأمريكي والنظام المالي الأمريكي.

هذا من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على الاعتماد بشكل أقل على القوة الغاشمة لهيمنتها المالية والمزيد من الدبلوماسية والإقناع، وهو الدافع الذي يعتبر لعنة في الثقافة الدبلوماسية الأمريكية. ومع ذلك، هذا هو الثمن الذي يدفعه المرء لوجود حلفاء جديين وموثوقين. ومن غير الواقعي أن نتخيل أنه بعد مطالبة شريك بتولي جزء أكبر من أمنه الخاص، فإن اهتماماتك ستتلاشى بشكل سحري. فلا يمكن لواضعي السياسات في الولايات المتحدة ببساطة أن يتوقعوا من أوروبا أن تزيد من إنفاقها الدفاعي وأن تظل سلبية من الناحية السياسية.

والخبر السار هو أن رغبة أوروبا في زيادة ثقلها، ينصب نحو ضمان علاقة جديدة عبر الأطلسي، وسيخفف من الإحباط والاستياء الذي أثاره الركوب المجاني على الجانب الأمريكي وعلاج الضعف والاعتماد على الجانب الأوروبي.

في العديد من الحالات، ستستفيد الولايات المتحدة بشكل كبير من الجهات الفاعلة الأوروبية التي تدافع عن أمنها بمفردها في المناطق التي تكون هامشية لمصالح الولايات المتحدة. ودعم الولايات المتحدة للعمليات التي تقودها فرنسا ضد الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في الساحل، على سبيل المثال، دليل على أن القيادة الأوروبية يمكن أن تخدم الولايات المتحدة بشكل جيد.

ونظراً إلى أن الرأي العام الأمريكي لم يُبدِ إلا رغبة قليلة للانخراط بشكل أكبر في نزاعات الشرق الأوسط، فإن وجود قدرة أوروبية أكبر على تعزيز الاستقرار في منطقة غالباً ما تؤثر فيها أوروبا مباشرة في مشاكلها، سيسمح لواشنطن بأن تقود من الخلف.

وقبل كل شيء، يجب على صانعي السياسة على جانبي الأطلسي تعديل توقعاتهم، وتخفيضها، فلن تكون أوروبا أبداً مركزية بالنسبة للولايات المتحدة كما كانت من قبل، وستضطر إلى التركيز على ضمان بقاء نموذجها الخاص، قبل المطالبة بالطموحات العالمية. فيما يتوجب على الولايات المتحدة مساعدة الأوروبيين في هذا التعهد قدر المستطاع.

لكن إدارة ترامب، بموقفها الصدامي، أسقطت بالفعل بعض التأثير الذي اعتادت عليه واشنطن، من خلال التخلي عن دورها في بناء ثقة بين الأوروبيين، ومع قرار المملكة المتحدة مغادرة الاتحاد الأوروبي، وفقدان حليفها التاريخي داخل المجتمع، شهدت الولايات المتحدة على تلاشي معظم قدرتها على تشكيل نتائج إيجابية في أوروبا.

وبدلاً من ذلك، ركزت على بناء علاقات ثنائية قوية مع فرادى الدول، مثل ألمانيا في عهد أوباما وبولندا في عهد ترامب. وفيما قد لا يوصف رئيس أمريكي جديد الاتحاد الأوروبي بأنه "عدو"، كما فعل ترامب، ولكن من غير المرجح أن يترجم مجرد الاهتمام بخدمة القيم المشتركة والتاريخ المشترك إلى استعداد متزايد لحماية المصالح الأوروبية.

هنا، يجب على المراقبين ألا يرثوا هذا الوضع، وألا يتوقوا للعودة إلى ما كان عليه الحال، وإذا تمكنت أوروبا من اختيار طريقها، فستنضج العلاقة بين ضفتي الأطلسي إلى تحالف أكثر توازناً. وبحلول عام 2030، قد يكون حلف الناتو أقوى وأكثر قدرة مما هو عليه اليوم. فيما يمكن للاتحاد الأوروبي القيام بعمل عسكري لإنهاء الحروب المستقبلية على أطرافه. ويمكن أن يستثمر في بيلاروسيا ومولدوفا وأوكرانيا ومنطقة البلقان، مما يوقف النفوذ الصيني والروسي هناك.

ومن تطوير أفضل الممارسات لاستخدام الذكاء الاصطناعي، إلى الاستجابة للممارسات التجارية الصينية غير العادلة، إلى مكافحة تغير المناخ، لا تزال الولايات المتحدة وأوروبا معًا، في مسار لا غنى لأحدهما عن الآخر، عندما يتعلق الأمر بصياغة قواعد المستقبل.

من غير المرجح أن يبدو التحالف عبر المحيط الأطلسي كما كان من قبل، وقد يكون هناك المزيد من المسافة وعدم الثقة، غالبًا ما ينفصل الأشقاء عند بلوغهم سن النضج، ويتخذون خيارات مستقلة، ويختارون شركاءهم بشكل منفصل، بل ويتقبلون وظائف لا يوافق عليها الآخر بالضرورة. ولكن في النهاية، فإن الروابط التي تربط أقوى من الخيارات الفردية التي تقسمهم.


للعودة إلى النص الأصلي، انظر:
Alina Polyakova And Benjamin Haddad, “Europe Alone: What Comes After the Transatlantic Alliance”, Foreign Affairs, July/August 2019.
https://www.foreignaffairs.com/articles/europe/2019-06-11/europe-alone
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: