تعتبر الحروب أحد الأدوات الدولية في معالجة الأزمات الداخلية والإقليمية، عبر منهج تصدير الأزمة وحرفها عن مسارها، بابتكار مسار عنفي يودي بالأزمة المراد معالجتها، ويخلق نمطاً استبدادياً في فرض هيمنة نظام سياسي على المجتمع. كما تعتبر الحروب أحد أبرز مخرجات الثورات المأزومة، إذ أنها تفرض تنسيقاً جمعياً سلطوياً يتجاوز اللحظات ما بعد الثورية، التي تشهد ولادة نظام ما تزال شرعيته في مبدئها، ويواجه خطر الإطاحة به من قبل القوى السابقة أو قوى منافسة له.
ومن خلال دراسة كرين برينتن لأهم الثورات عالمياً، وجد أن تلك الثورات تمر بما أسماه بالمرحلة الثالثة (مرحلة الأزمة)، التي تتميز بسيطرة المتطرفين على السلطة وإبعاد المعتدلين عنها، وتركيز القوة في مجلس ثوري يهمين عليه رجل قوي، وإشعال حروب داخلية وخارجية بغية تقوية التيار الراديكالي وتعزيز مكانته؛ ذلك كله مقدمة للمرحلة الرابعة منها، والتي تمتاز بحكم الطاغية وقمع المتطرفين، ضمن عودة بطيئة غير منتظمة إلى أزمنة أقل تأزماً، تشمل عفواً تدريجياً عن المعتدلين المعارضين، وتهيئة المجتمع لترسيخ النزعة القومية العدوانية (1).
فعقب الإطاحة بنظام الشاه في إيران، كانت كافة التنظيمات المدنية والسياسية على قدر كبير من الفعالية المجتمعية، دافعة باتجاه إعلاء القيمة الديمقراطية للثورة المجتمعية، وانتزاع حقوق المجموعات الدينية والعرقية، وترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية. غير أن ما حصل كان عملية اختطاف ديني-قومي للثورة مبكراً، من قبل خميني ورجالاته، وأدلجتها وفق منهج متطرف، أقصى من خلاله كثيراً من المكونات المجتمعية لصالح تعزيز سلطة استبدادية جديدة، مستندة إلى ذات الأدوات الملكية السابقة، في القمع والإقصاء والتهميش.
وحيث أن النظام الملالي حديث الولادة ما كان بتلك القوة التي تمكنه من الهيمنة على كافة مفاصل الحكم في الدولة، وفرض أجنداته السياسية الدينية-القومية، في ظل وجود معارضة علمانية ليبرالية وشيوعية ناشطة، إضافة إلى حركات قومية تعمل في كافة الأقاليم المحيطة بالمركز (طهران)؛ فإن النظام المستحدث دفع باتجاه إدارة البلاد عبر منهج الإدارة بالأزمة، من خلال استدعاء حرب خارجية –كما هو مسار كثير من الثورات الكبرى في التاريخ- لتكون مخرجاً سياسياً وقمعياً لأزمة الشرعية التي بدأت تلوح في البلاد.
وحيث إن الثورة تأتي على النظام القديم وعلى مقوماته الأساسية، ولا يمكن أن يعود هذا النظام، ولا أن تعود هذه المقومات. وما يعود إلى الظهور، هو غير هذا النظام وغير هذه المقومات. فقد تظهر نزعة جديدة إلى الجحود، تحل محل النزعة القديمة التي قضت عليها الثورة، وقد ينقلب التحرير إلى عبودية. وقد تبرز صور جديدة للاستبدادية القومية والمحافظة تخالف المعتقدات الثورية. ولكن علاقة الشعب بالحكومة تظل مختلفة عما كانت عليه من قبل، ويحتدم صراع الفئات والأحزاب في جبهة جديدة، وإذا ظهرت في هذا الصراع المواقف والتقاليد القديمة، فإنها تعبر عن نفسها بصور جديدة (2).
وعليه تم استحداث نظرية تصدير الثورة الخمينية إلى المحيط العربي، باستغلال الفورة الدينية التي غذاها النظام الوليد، عبر استحضار الموروث الديني للصراع السني-الشيعي في العالم الإسلامي، وربطها بالموروث التاريخي للصراع العربي-الفارسي، وتحديداً تجاه العراق. وأدت شيطنة النظام العراقي السابق في الشارع الإيراني ما هو مرجو منها، لناحية حشد جمهور تابع أكبر خلف القيادة الملالية، وحرف المسار السياسي الثوري عن الأزمات الكبرى التي كانت تتعايش مع انطلاقة الثورة في إيران، ومنه خلق شرعية دينية-قومية، أو بالأصح فرضها على عديد من مكونات المجتمع الإيراني، وخاصة الفرس والأكراد، ومن ثم على امتداداتها عابرة الحدود إلى الشيعة العرب في العراق والخليج العربي، لتشكل وعياً مجتمعياً إقليمياً حاضناً للمشروع الفارسي المتجدد تجاه العالم العربي.
إن عملية الدفع باتجاه الحرب مع العراق، يمكن اختصارها في فكر خميني بما صرح به بأنها "نعمة الله لإيران"، حيث أدت هذه الحرب إلى إطلاق يد النظام في الداخل الإيراني أولاً، من خلال عملية تصفية واسعة للمعارضين، سواء بالقتل أو التهجير أو الاعتقال، ومن ثم فرض عملية الأدلجة للمجتمع الإيراني بوتيرة سريعة، تسمح بإقصاء كثير من شرائح المجتمع، كما ساهمت هذه الحرب في التخلص من القيادات العسكرية المؤهلة لإدارة البلاد، عبر استحداث منظمة "الحرس الثوري"، التي أُوكِل إليها كافة المهام القذرة في الداخل الإيراني وخارج إيران، ومن ثم استيلاؤه على كافة مقدرات البلاد الاقتصادية والطبيعية، وبالمحصلة تم تعظيم الإيديولوجية الخمينية لتشكل عماد السياسة الإيرانية تجاه المحيط العربي طيلة العقود اللاحقة لتلك الحرب.
إن المغالاة في تعظيم وظيفة الإيديولوجية في البناء الاجتماعي، سواء كان العمل فيه محافظاً أم إصلاحياً أم ثورياً، كالمغالاة في تحجيمها وتهميشها، فالإيديولوجية تؤدي وظيفتها أو بالأحرى وظائفها في البناء الاجتماعي، وهي نمط من أنماط التفكير الاجتماعي، أو نوع من أنواعه، ينزع طبيعياً إلى أن يهيمن على الأنماط والأنواع الأخرى التي تفاعل معها، فيمتد حيناً وينتشر ويطغى، وينكمش حيناً آخر ويتقلص وينزوي، بحسب الخصائص التاريخية المتعينة لجدلية تفاعله مع القوى الناشطة في المجتمع (3).
وقد أدى هذا التعظيم الإيديولوجي الديني-القومي في إيران، إلى استمرار حالة الاحتراب ورفض كافة المبادرات الإقليمية والدولية لإيقاف الحرب، فالمجتمع أصبح حاضناً للعنف، دافعاً إليه، متقبلاً نتائجه رغم الخسائر الفادحة التي طالته. أي أن كثيراً من شرائح المجتمع الإيراني غدت متطرفة وإرهابية تسعى خلف مزيد من العنف الإقليمي، من خلال دعم نظرية إسقاط الأنظمة العربية المجاورة في العراق والخليج العربي، وهو ما كانت تحتاج إليه سلطة خميني وخلفاؤه ليتم بناء سياسة خارجية عدوانية، أفرزت حروباً متواصلة لم تنتهِ بانتهاء الحرب العراقية-الإيرانية، بل كانت تلك الحرب مجرد مقدمة لغزو إيراني للعراق وسورية ولبنان واليمن.
وقد ترافقت حرب الخليج الأولى، ببيئة دولية مواتية لاستمراريتها، فشكل النظام القطبي الثنائي، المترافق بحرب باردة واسعة، وسباق نووي، بل وفي ظل سياسة حرب النجوم التي ابتدعها ريجان، كان لإيران أن تعمل على كافة المحاور الدولية، ما بين الشرق والغرب، ففي حين كانت منظومة سلاحها تُحدَّث شرقياً من الصين والاتحاد السوفييتي، كانت الولايات المتحدة عبر ما عرف بـ "فضيحة إيران- إيران جيت" عام 1986، مصدراً آخر للسلاح، إضافة إلى الدور الإسرائيلي البارز في تزويد طهران بكم كبير من الأسلحة بالاشتراك مع نظام الأسد الأب، بل وتجاوزت إسرائيل ذلك إلى المشاركة فعلياً في الحرب على العراق، عبر قصف المباني المخصصة لإنشاء مفاعل تموز النووي العراقي عام 1981.
حيث كانت هذه الحرب بمثابة التقاء مصالح بين الشرق والغرب، في تصفية القوة العراقية من جهة، وإعادة تشكيل الأطر السياسية في الشرق الأوسط، وحرف مسارات الصراعات فيه (الصراع-العربي-الإسرائيلي خصوصاً)، إلى صراعات بديلة مضبوطة دولياً، وقادرة على استنزاف كافة القدرات العربية، مالياً وعسكرياً، ومنه إخراج العراق كلياً من دائرة النفوذ العربي، بعد إخراج مصر منها عبر اتفاقية السلام مع إسرائيل، وإخراج سورية عبر التعاون السري بين نظام الأسد وإسرائيل.
استطاع نظام خميني قراءة الوضع الدولي بامتياز، والدفع إلى استغلاله في أقصى حدوده، عبر مشاركة المنافع بينه وبين القوى الدولية، في حرب بالوكالة أهّلته للبقاء في الحكم، وأفسحت المجال أمامه لأول اختراق معاصر للبيئة العربية، سواء بالتحالف مع نظام الأسد خارج الأطر العربية، أو بتدمير منافسه الأقوى آنذاك، العراق، في عملية ترسيخ أركان النظام الديني-القومي، وخلق الهوية الإيرانية المرجوة.
حيث يرى بول براس Paul R. Brass أن الهويات الإثنية والقومية تصبح أدوات مناسبة في أيدي النخب المتنافسة لتوليد الدعم الجماهيري في المسعى الشامل من أجل الوصول إلى الثروة والسطلة والمكانة. وتؤكد هذه النخب أن الارتباطات الإثنية والقومية تخضع باستمرار لعملية إعادة تحديد وتعريف وتشديد استجابة للظروف المتغيرة ومخططات النخب السياسية المراوغة. ويعتمد إطار براس النظري على عدد من الافتراضات الأساسية. يتعلق الأول بقابلية الهويات الإثنية للتغير والتبدل. ففي رأي براس، لا يوجد شيء حتمي فيما يتعلق بنهوض الهويات الإثنية وتحولها إلى قومية. بل على العكس، لا يمكن تسييس الهويات الثقافية إلا تحت ظروف محددة يجب تعريفها وتحليلها بعناية. ثانياً، لا تنبثق النزاعات الإثنية من الفوارق والاختلافات الثقافية، بل من بيئة سياسية واقتصادية أوسع تشكل أيضاً طبيعة التنافس بين جماعات النخب. ثالثاً، سوف يؤثر هذا التنافس أيضاً في تعريف الجماعات الإثنية المعنية ومثابرتها وإصرارها. ويرجع ذلك إلى أن الأشكال والقيم والممارسات الثقافية للجماعات الإثنية تصبح مصادر سياسية للنخب، تستغلها في مسعاها للتمتع بالسلطة والمكانة والاعتبار. وهي تتحول إلى رموز يمكن أن تسهل خلق هوية سياسية وتوليد دعم أكبر، أخيراً تظهر هذه الافتراضات كلها أن عملية تشكل الهوية الإثنية وتحولها إلى قومية عملية قابلة للعكس (4).
لقد أدت هذه الحرب في المحصلة إلى نسف مشروع التحول الديمقراطي في إيران، والاستعاضة عنه بنظام ديمقراطي-ديني مشوّه يخضع لسلطة المرشد مطلقاً، وأطلقت يد النظام في قمع المعارضة والقوميات، وخاصة العربية في الأحواز، وتأصيل سلطة الحرس الثوري، وترسيخ هوية عدوانية تجاه محيطها.
كان لخميني أطماع في توسيع إطار هذه الحرب، عبر فرض شرط إسقاط النظام العراقي أولاً، ومنه إنشاء سلطة دينية على غرار سلطته، وتستند إليه كمرجعية سياسية وعقائدية، ومن ثم تحويل القدرات العسكرية تجاه باقي المنطقة العربية، وتحديداً دول الخليج العربي، لكن مفرزات الحرب لم تسنح آنذاك بتحقيق المشروع الفارسي في إحياء امبراطورية فارس، حيث أعاقها صمود النظام العراقي، واستطاعته فرض مسارات عسكرية على إيران، لكن القراءات المتعجلة للمتغيرات الإقليمية والدولية من قبل العراق، بل والمتهورة أيضاً، دفعته إلى احتلال الكويت، عقب عامين فقط من خروجه منتصراً في حربه مع إيران، وبالتالي فتح المجال واسعاً لعملية تدمير دولي للعراق بمشاركة إيرانية، ما كانت تستطيع تحقيقها سابقاً.
صحيح أن إيران قد خرجت من حرب الخليج الأولى، في حالة استنزاف كبيرة لقدراتها العسكرية والاقتصادية والديموغرافية، لكن هذا الاستنزاف، كان ضمن سياق "توازن الاستنزاف"، حيث ألحقت بالعراق خسائر لا تقل فداحة عن تلك التي طالتها، لكنها استطاعت توظيف مخرجات الحرب ومتغيرات البيئة الدولية، وعبر تجميد مشروع "تصدير الثورة" مؤقتاً، فترة حكم رفسنجاني وخاتمي، على عكس العراق.
كانت تلك الحرب مقدمة لما سيليها منذ تولي نجاد السلطة، إذ أنها أصلت الفكر التوسعي الاحتلالي، وخلقت صدوعاً مذهبية في العالم العربي، استطاعت الاشتغال عليها طويلاً، قبل أن تدفع بها إلى حالة التأزم والصدام، ومن ثم إلى أداة إيرانية في عملية غزو واسعة للدول العربية. كما أن تلك الحرب بإخراجها العراق من دائرة النفوذ الإقليمي، أزالت البوابة الشرقية الحامية للمنطقة العربية، وأفسحت المجال أمام النظام الإيراني، للتسلط على الخطاب القومي العربي، وتحديداً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فتمت إعادة صياغة هذا الخطاب وأدلجته برعاية مثقفين قوميين عرب في سورية ولبنان، وتجييره لصالح التوسعية الإيرانية، عبر مناورات عسكرية باهتة مع الكيان الإسرائيلي، ومنه خلق بيئات عربية جديدة متقبلة للتوسعية الإيرانية بداية، ثم العمل على أدلجة تلك المجموعات السكانية من خلال مشروع التشييع الذي بدأ من لبنان واتسع في سورية، ليطال لاحقاً كثيراً من الدول العربية.
مشروع التشييع ذاته هو من أبرز مخرجات تلك الحرب، إذ اعتبر الذراع الأخرى للقوة الإيرانية "القوة الناعمة"، عبر تصدير خطاب تهادني يتبنى كثيراً من قضايا الشعوب العربية، فترة الكمون الأيديولوجي (رفسنجاني-خاتمي)، مترافقاً مع خطاب "حوار الحضارات" لصاحبه خاتمي، في ترويج لفكرة المعتدلين مقابل المتطرفين داخل النظام الإيراني. بعد خلق بروبوغاندا واسعة حولمشروع "محور الممانعة"، والذي ما كان له أن يتم إلا بإقصاء العراق وتفكيكه كلياً من خلال تعاون إيراني-غربي مستمر، وخصوصاً تلك التسهيلات التي قدمتها حكومة نجاد للقوات الأمريكية عام 2003.
لم تكن نتائج تلك الحرب محدودة الزمان 1980-1988، ولا الجغرافيا (العراق-إيران)، بل كانت عملاً تأصيلياً لمشروع فارسي سيمتد لعقود في الجغرافيا العربية، بالاستناد إلى المحاور السياسية التي أفرزتها تلك الحرب (إيران- نظام الأسد- الميليشيات في لبنان والعراق)، في عملية تفتيت سياسي وأيديولوجي وعسكري للبنية العربية، متقاطعاً مع المصالح الإسرائيلية والدولية في تفتيت الشرق الأوسط وإعادة تشكيله.
مراجع:
(1) للمزيد، انظر: كرين برينتن، تشريح الثورة، ترجمة: سمير الجلبي (بيروت: دار الفارابي، الطبعة الأولى، 2009).
(2) روبرت م. ماكيفر، تكوين الدولة، ترجمة: حسن صعب (بيروت: دار العلم للملايين، الطبعة الثانية، 1984)، ص 359.
(3) ناصيف نصار، الإيديولوجيا على المحك (بيروت: دار الطليعة، 1994)، ص 65.
(4) أولمرت أوزكيريملي، نظريات القومية: مقدمة نقدية، ترجمة: معين الإمام (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2013)، ص 166، 168.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والبحوث