تشهد العلاقات الأمريكية-الكورية الشمالية مزيداً من التقدم، ليكون الرئيس ترامب أول رئيسٍ أمريكيٍ يطأ أرضاً كوريةً شماليةً منذ الحرب الكورية في خمسينيات القرن العشرين، بل وأول تقاربٍ أمريكيٍ-كوريٍ شماليٍ بهذا الشكل والمستوى.
بالتأكيد، فإن مقدّماتٍ كثيرةً قادت كوريا الشمالية إلى تنحية خطابها الأيديولوجي الشعبوي، الرافض مطلقاً للحوار مع “الإمبريالية العالمية”، وأخرى قادت الولايات المتحدة إلى الحوار مع واحدٍ من ألد الأنظمة عداءً لها، على مستوى العالم.
تتشكّل هذه المقدّمات، في عوامل اقتصاديةٍ وأخرى سياسيةٍ متنوّعة، ورغم حضور هذه المقدّمات طيلة الفترات السابق، إلا أن وجود إدارةٍ أمريكيةٍ غير تقليديةٍ (وبغضّ النظر عن نتائج هذه الإدارة) دفع إلى وقوع اختراقٍ ملحوظٍ أوصل بالمحصلة إلى هذه النتيجة.
ويمكن هنا اقتباس حالة إدارة ترامب للمسألة الكورية، للتدليل عن نهج ترامب العالمي، منذ عام 2017، والقائم على ما يمكن تسميته نهج “المكاسب الكليّة”، حيث يتعمّد ترامب تصعيد خطابه إلى حدوده القصوى (حافة الهاوية الخطابية)، وإيهام الخصم أو الإيحاء له بأنه بات تحت تهديد القوة العسكرية الجادة، أو الحصار حادّ الفعالية، أو حتى تدخلٍ أمريكيٍ غير مباشر، بهدف الإطاحة بالنظام السياسي ككل (كما حصل في فنزويلا مثلاً).
هذا النهج، وإن كان واضحاً لكثيرٍ من المراقبين أنه نهج لا يتعدّى حدود الخطاب مع بعض الإجراءات غير العسكرية، إلا أنه مقلقٌ للدول غير المستقرة، وخاصةً تلك التي تمرّ بمرحلة انتقاليةٍ/استثنائية، من الممكن توظيفها في خدمة المصالح الأمريكية.
يضاف إلى ذلك، أن ترامب ذاته، لم يكن حتى الآن رجل حرب، كما كان لكل رئيسٍ أمريكيٍ حربه الخاصة منذ الحرب العالمية الثانية، بل هو أقرب ما يكون إلى تاجرٍ يجيد استخدام خطاب القوة لتحقيق مصالح بلاده بأعلى المكاسب الممكنة (وغير الممكنة إن استطاع).
وهنا، استطاع ترامب بنهجه هذا، إقناع (أو إجبار) الرئيس الكوري الشمالي، على قبول الحوار مع الولايات المتحدة، وبدء مسار تقديم تنازلاتٍ متتالية، دون حتى أن يحصل كيم جون على أية وعودٍ بمكاسب حقيقية. وذلك نتيجة الأزمة (السياسية والاقتصادية) التي بات نظام كوريا الشمالية يدرك أنه ما عاد قادراً على إدارتها بذات العنجهية السابقة.
نتيجة أخرى يحقّقها ترامب من خلال هذا النهج، وهي تحويل الحالة الكورية الشمالية، إلى نهجٍ أمريكيٍ عالميٍ، يضبِط به سلوك القوى المشابهة في النظام الدولي، وإن لم يحقق كثير نتائج بعد، إلا أنه استطاع أن يفرض مساراتٍ شبيهةً على فنزويلا وإيران، من خلال الضغط عالي الحدية، ثم ترك مسار وحيد أمام تلك الأنظمة (المسار الكوري الشمالي)، من خلال دعوتهم للحوار، بل ومحاولة تصوير أنهم يرغبون بالحوار لكنهم متردّدون وغير قادرين على اتخاذ قرارٍ نهائيٍ بهذا الخصوص.
ما يحاول أن يفعله ترامب من خلال الحالة/النموذج الكوري الشمالي، هو الاستفادة من حجم العسكرة الأمريكية (دون استخدامها) في إقناع خصومه بضرورة تقديم تنازلاتٍ في مقابل سلامتهم/سلامة أنظمتهم أو دولهم.
الجديد أيضاً في نهج ترامب، أن المكاسب هذه المرة، غير مقترنةٍ بخسائر بشريةٍ كما فعل كل أسلافه منذ فرانكلين روزفلت. ولا يمكن أن نقول إن هناك خسائر ماديةً أيضاً، فكلفة التهديد بالحرب، يتمّ تعويضها لاحقاً، سواء من خلال المكاسب التي يجنيها هذا النهج، أو من خلال فرض أتاواتٍ على دول أخرى لتمويل هذا النهج.
ربما ما يزال هذا النهج قيد التأسيس أمريكياً، وتسعى إدارة ترامب إلى تحويله إلى نهجٍ عالميٍ دائم، وخاصةً إذا أثبت فعاليته مع إيران، وأدى إلى جلوسها إلى طاولة مفاوضات مع الولايات المتحدة، دون شروطٍ مسبقة، مع تقديم تنازلاتٍ في ثلاثة محاور رئيسة (الاتفاق النووي والبالستي، الاستثمارات النفطية، أمن إسرائيل)، وإن كان من الصعب حتى الآن (من الصعب وليس من المستحيل) تخيّل وقوع هذا السيناريو في القريب العاجل، ولعل ترامب يدرك صعوب ذلك في هذا الوقت الضيق، لذا يحاول الاستمرار في استخدام أدوات الضغط والتهديد والعقوبات المنفردة (فقط)، مع ترك المجال مفتوحا كما أشار إليه.
لكن في حال تحوّل هذا النهج إلى نهجٍ ثابتٍ في السياسة الخارجية الأمريكية، وخصوصاً في ولاية ترامب الثانية، والتي يبدو أن فوزه فيها سهل حتى الآن، فإن مخاطر ذلك تكمن في القدرة على تحدي هذا النهج من قبل قوى أكبر بكثيرٍ من كوريا الشمالية وإيران، كالصين مثلاً أو روسيا، وهي القوى غير القانعة بالنظام الدولي ككل.
ودون استخدام قوةٍ عسكريةٍ للدفاع عن هذا النهج، وإثبات أنّ التهديد حقيقي، فإنّ عدة دولٍ ستتجرأ على المصالح الأمريكية في المرحلة التالية، ما قد يدفع إلى أحد نهجين بديلين، أولهما استخدام القوة العسكرية للدفاع عن المصالح الأمريكية (ولكن في وقتٍ متأخرٍ عمّا كان يجب أن يتم)، أو أن يتحول النهج إلى تقديم تنازلاتٍ متبادلةٍ لإقناع الخصم بدل الضغط عليه وتهديده.
ومرة أخرى، وبغض النظر عن نتائج سياساته، فإن ترامب يستفيد من الحالة الكورية كثيراً حتى الآن، في ترسيخ نهجه غير المعتاد في السياسة الدولية أمريكياً، وفي ضبط سلوك خصومه، وتقديم مساراتٍ يختارها لهم وحده.
د. عبد القادر نعناع
منشور أيضاً في مركز المزماة للدراسات والبحوث