لا يمكن مقاربة الحدث التاريخي وفق حتمية استمراريّته أو نهائيّته، فهو حدثٌ مدفوعٌ بالتغيير والتحرك نحو الأمام، اعتماداً على متغيّراتٍ محدَّدةٍ تعمل معاً على تحديد مساره وتحريكه. غير أنّ التغيُّر داخل المسار التاريخي يبقى فعلاً طويل المدى يحتاج إلى عقودٍ أو أكثر لإنتاجه، مؤثّراً ومتأثّراً بكافّة البيئات المرتبطة به.
فقد اعتُبِر من مسلَّمات علم العلاقات الدولية قبل انتهاء الحرب الباردة، أنّ التغييرات الكبرى التي تحصل في النظام الدولي International Order والتي تدفع به إلى شكلٍ جديدٍ، تأتي عقب حروبٍ كبرى بين أقطاب النظام السابق، نتيجة تغيّراتٍ في موازين القوى القائمة بينها، وسعيها من خلال قوتها المكتسبة لتأكيد فعاليتها الدولية، وتوسيع مصالحها على الساحة العالمية. وهو ما شهده النظام الدولي -على سبيل المثال- أثناء التحوّل من التعدّدية القطبية Multipolarity إلى الثنائية القطبية Bipolarity عقب الحرب العالمية الثانية.
غير أنّ ما حصل بين عامي (1989–1991)، يُعتبر سابقةً تاريخيةً في تحوّلات النظام الدولي، إذ لم يكن انهيار حلف وارسو وجدار برلين، ولاحقاً سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكُّكه، نتيجةَ حربٍ مباشرةٍ مع المعسكر الغربي، بقدر ما كان انهياراً داخلياً للمنظومة الاشتراكية. وهو ما تجلّى في فتراتٍ لاحقةٍ، بالتخلي طوعاً عن النظام الاشتراكي في معظم الدول التي كانت تتبناه.
فلم يعد بالإمكان الاستمرار في نظام دولي، قد اختلّت موازين القوى فيه بشكلٍ كبيرٍ لصالح الولايات المتحدة (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية)، ولم يعد فيه للقوى الأخرى قدرةٌ على منافسة الولايات المتحدة على المصالح في المستوى الدولي، وبالتالي رغبةٌ في تلك المنافسة. حيث إنّ تلك القوى إما أنّها انكفأت على ذاتها في إعادة هيكلةٍ شاملةٍ –الاتحاد السوفييتي/ روسيا– أو أنّها توافقت مع التوجّهات الأمريكية الجديدة.
غير أنّ حالة الحرب تلك، المُغيِّرة لشكل النظام الدولي ومؤسَّساته وبِنيانه، تتأثّر بدورها بجملة عوامل، منها داخليةٌ تتعلق بالتطورات الحاصلة في مجموعة دول. كالثورات الداخلية التي تعيد هيكلة الدولة وتشكيل نظامٍ سياسيٍ أكثر حداثةً من سابقه، بل وقد تعمل على تصدير ثورتها إلى محيطها الإقليمي. وينشأ عن عملية التصدير تلك حروبٌ قد تتطوّر إلى عملية إعادة إنتاج النظام الدولي ذاته.
حيث تدفع الثورات على المدى المتوسط، إلى إعادة تشكيل مقوّمات الدولة والنهوض بها، وإلى إعادة تعريف الدولة في المجال الدولي، من خلال هيكلةٍ جديدةٍ للمصالح تتوافق مع التغيّرات التي تلحق بقوة الدولة بعد ثورتها. فالثورة في الأساس عملية استعادة الدولة من نظامٍ سياسيٍ استبدّ بها وأطاح مقومات استمراريتها، وإعادة خلقها داخلياً وخارجياً.
وحيث يؤثّر شكل النظام الدولي وتوزيع القوى فيه، في مسار التغيير الثوري وقدرته على تصدير نموذجه؛ إلاّ أنّه يترافق بأثرٍ متبادلٍ معاكسٍ للسابق، من خلال تأثيرٍ ثوريٍ في المحيط الإقليمي بدايةً، وفي العلاقات الدولية ونمط القوة فيها، وصولاً إلى شكل النظام الدولي.
إذ أطاحت الثورة الفرنسية من خلال امتدادها الأوروبي عسكرياً، بتوزيع القوى الدولية، وأدّت إلى تغيُّرٍ في شكل النظام متعدّد الأقطاب، بتراجع أدوار هولندا والبرتغال وبروسيا والنمسا، لصالح فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى روسيا، ولاحقاً ألمانيا. كما أدّت حرب الاستقلال الأمريكية (ثورة التحرّر من الاستعمار) والحرب الأهلية (ثورة التحرّر من العبودية) إلى إعادة تعريف الدولة الأمريكية وبروزها على الساحة الدولية. كما أدّت الثورة اليابانية (ميجي آشن) ذات الوظيفة ببروز القوة اليابانية آسيوياً، وتحوّلها لقوة احتلالٍ ساهمت في صراعاتٍ دوليةٍ غيّرت شكل النظام الدولي. فيما كانت ثورات أخرى (أوروبا الشرقية) نتيجة لتغيُّر شكل النظام الدولي.
ووفق هذا السياق، تأتي الثورات العربية في مرحلةٍ تشهد سيولةً في شكل النظام أحاديّ القطبية، عمد إلى التأثير في مسارها الثوري داخلياً وإقليمياً، وفق تقاطعات مصالح الدول ذات التأثير الفاعل. وأفسحت المجال لإعادة خلق تدخلاتٍ دوليةٍ تمسّ بالأساس بِنيَة النظام الدولي، وإن كانت في طور أدوات المناورة والمساوة والتوافق فيما بين قوى قانعةٍ تهيمن على النظام الدولي أو تتحالف معها، وقوى لم تعد قانعةً بتوزيع المصالح وشكل القوى داخل هذا النظام.
غير أنّ حركة التاريخ التي تشهدها المنطقة العربية، هي بدورها ذات اتجاهين اثنين متضادّين كمثيلاتها، إذ لابدّ أن تنعكس هذه الثورات على المدَيَيْن المتوسط والبعيد على حجم قوّة القوى الإقليمية والدولية، وعلى حجم مصالحها بالتالي، دافعةً إلى إعادة تشكيل التوازنات الدولية باتجاه نظامٍ دوليٍّ جديد. وإن كانت ما تزال في بدايتها، إلاّ أنّها غالباً ما ستستمرّ على شكل موجات تحولٍ ديمقراطيٍ متتاليةٍ، تتصارع مع موجاتٍ ارتداديةٍ تسعى للعودة إلى الحالة السابقة للفعل الثوري.
لتنزيل الدراسة كاملة