تُعتَبر مسألة القوميات في إيران، من أكثر الإشكاليات الداخلية فيها، التي تنذر بتفتت الدولة أو انهيار نظامها القائم في ظلّ ظروف مواتية. حيث لم يستطع نظاما الملكية والملالية إيجاد حلول حقيقية لها، وذلك نابع في الأساس من تعامل القومية الفارسية مع القوميات الأخرى، بأسلوب الإدارة عبر الاحتلال. ويأتي هذا الأسلوب تطبيقاً عملياً منذ النصف الأول من القرن الفائت، وعبر أساليب القمع والإرهاب للمجتمعات التي تمّ احتلالها، ومعاقبة جماعية لهذه القومية على أدنى سلوك فردي أو مجتمعي يحفظ الهوية لأصحابها.
كما أنّ الإدارة بالاحتلال هي نهج فكري يتمّ ترسيخه في الذات الفارسية منذ نشأتها، من خلال الاستعلاء على الآخر، ورفض التعامل معه، أو رفض إقرار حق المساواة معه، وإنكار أدواره التاريخية وحقوقه الشرعية، ما أدّى بالنتيجة إلى تماهي السلطة الفارسية بالمجتمع الفارسي، لناحية العدوانية والاستعلائية وعدم القابلية للانفتاح والتصالح مع الآخر.
ويؤدّي انعدام المساواة إلى انتظام الحياة الاجتماعية لكافة القوميات حول حدود تفصِلها، بحيث تختلف كلياً في الفرص المتاحة لها في الحياة. وعليه فإنّ إحداث انتقال ديمقراطي يبقى مستحيلاً، إذ إنّ أي نهج لإقامة الديمقراطية يعتمِد ليس بالضرورة على الإقلال من التفاوت الاجتماعي والهوياتي، بل على انعزال السياسة العامة عن هذا التفاوت.
وفيما تعتبر المساواة من أولى المطالب المركزية التي تطرحها القوميات الواقعة تحت الاحتلال الفارسي، فإنّ هذه المساواة تشتمل حتماً على إحقاق العدالة بكافّة تصنيفاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعدالة الإثنية الثقافية، بُغية تحقيق اندماج اجتماعي بين كافة المكونات الثقافية للمجتمع، باعتبار أنّ الاندماج أحد أهم المُخرَجات المنشودة من العدالة.
إنّ البديل المحتمل عن عمليات الاندماج الثقافي والسياسي كأحد مُخرَجات العدالة، سيكون غالباً مُخرَجاً عُنفيّاً بين المكوِّنات المجتمعيّة في إيران، وهو قائم فعلياً. إذ فيما تعمد الإثنية الفارسية إلى عملية هيمنة سياسية وثقافية على الإثنيات الأخرى، فإن نخب هذه الأخيرة تُعزِّز مواقفها المُواجِهَة للفرس، من خلال توظيف أكبر للظلم الواقع عليها، وتحشيد مجتمعي لإبراز تمايزها عن الفرس، ومن ثمّ الدفع إلى أشكال من العلاقة البينيّة بدأت باحتجاجات ذات منهج مسلح محدود، وصولاً إلى محاولة الاستقلال الذي يتمّ توظيف كافة الإمكانات الداخليّة المتاحة (العرق والتاريخ الجغرافيا واللغة والاقتصاد)، والعلاقات الخارجية المتقاطعة مع ذلك، وحينها فإنّ مستوى العنف والعنف المضاد قد يصل إلى درجات عليا من المواجهة بين الطرفين.
عملية الإدماج والاندماج تتطلب كمقِّوم رئيس لها، تحقيق المساواة، والعدالة الاجتماعية، والمشاركة السياسية. وهي مطالب أساسية في غالبية برامج القوميات في إيران، والتي تشتغل على تحقيقها سواء ضمن مسار سلمي سياسي، أو حتى عبر فعل مقاوم. إذ يكاد يغيب ممثلو القوميات عن غالبية مراكز صنع القرار، بل يمتد الأمر إلى أسوأ من ذلك، من خلال الإدارة المحلية التي توكل إلى أفراد من خارج الأقاليم الأقوامية، غالبيتهم من الفرس.
كما ننوِّه إلى ضرورة تحقيق توزيع عادلة للموارد الاقتصاديّة، وخاصة أن بعض الأقاليم (وخاصة إقليم الأحواز العربي) هو المسؤول الأكبر عن غالبية ثروات الدولة، فيما يشهد الإقليم حالة تفقير وتجهيل متعمّدة، رغم امتلاكه أكثر من 90% من الموارد النفطية الإيرانية، عدا عن الموارد الزراعية والمائية.
وحيث إنّ التركيبة السياسية العرقية/الدينية للسلطة الملالية، تعني حتماً رفض كافة المداخل السابقة، وعدم القدرة وعدم الرغبة على إحداث أي تغيير لصالح عمليات الاندماج الاجتماعي وإقرار حقوق كافة المكونات، عدا عن أنّ التاريخ المتبادل بين الطرفين (النظام والقوميات) لا يسمح ببناء قواعد ثقة تؤسِّس لإنتاج نظام سياسي جديد، بل يضع إيران أمام خيارات باتت محدودة، وتضيق يوماً بعد يوم. فإمّا أن تنشط المعارضة داخل المركز الفارسي، كما شهدنا إبان احتجاجات الحركة الخضراء في انتخابات 2009، إلى الدرجة التي تسمح لها بإسقاط النظام، والبناء بالتعاون مع باقي القوميات نظام ديمقراطياً تشاركياً للجميع، أو أن يستمر النظام المتصلب والمتهالك، دافعاً ذاته نحو هاوية الانهيار، تأثراً بانهيار الأنظمة المحيطة به.
وفي حال بقاء النظام وإصراره على سلوكياته (وهو السلوك المتوقع)، فإنّ الخيارات البديلة تتمثل في حقّ تقرير المصير لهذه القوميات، حقاً أصيلاً كفلته التشريعات الدولية، ويتجلّى في أربعة أشكال رئيسة أمام السلطة والاجتماع القومي في إيران، لحل إشكالية العلاقة البينية فيما بينهما. تتمثل هذه الخيارات في: اللامركزية السياسية، والحكم الذاتي، والفدرالية، وأخيراً الانفصال أو الاستقلال عن الهيمنة الفارسية على السلطة وعلى الأقاليم الأقوامية.
على أن يكون تحديد توجّه حقّ تقرير المصير مناطاً في الدرجة الأولى بالتوجهات المجتمعية للقومية المنشودة، وليس مفروضاً عليها من قبل المركز الفارسي، أو من قبل أطراف محلية (النخب القومية)، بل عبر استفتاء شامل لأفراد القومية، ولا يمكن كذلك فرضه من قبل قوى خارجية، إذ سيدفع ذلك إلى مزيد من تعقيد المسألة وليس إلى إيجاد حلول لها، بل يجب دعمه من القوى الخارجية. ونحن إذ نطرح هذه الخيارات، مع علمنا بتوجهات غالبية النخب القومية الاستقلالية، إلا أنّ ذلك لدراسة ما هو متاح أمامها، والمعيقات التي تمنع ذلك.
اللامركزية السياسية:
وتعني منح كل إقليم قومي درجة عالية من الاستقلال في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة، بعيداً عن سلطة طهران وبالتنسيق معها. ويمكن تحقيق اللامركزية عبر أدوات الديمقراطية التوافقية، وأهمها الحكم من خلال ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين لكافة القوميات في إيران، عوضاً عن الحكم من أعلى عبر المرشد في نظام شديد المركزية. وذلك سواء من خلال تحويل النظام الثيوقراطي إلى نظام برلماني وليس رئاسياً خاضعاً للمرشد، وتشكيل حكومة ائتلافية موسعة، أو عبر المحافظة على النظام الرئاسي مع إسقاط نظام المرشد الثيوقراطي، وإقامة تحالف واسع للرئيس مع القوى القومية في إيران.
كما بالإمكان تحقيقها، من خلال حكم "الأغلبية المتراضية"، بمعنى منح فيتو متبادل لكل من القوميات والحكومة من جهة، بحيث تحفظ كل مجموعة حقوقها، ولا تتيح الاعتداء عليها. على أن يترافق ذلك باعتماد النسبية أساساً في التمثيل السياسي في كافة مؤسسات الدولة، وفي التوزيع المالي للموازنة.
لكن هذا الشكل يتطلب موقفاً معتدلاً ومستعداً للحلول الوسط من قبل السلطة والمجتمع الفارسي بداية، ومن قبل المجتمعات القومية كذلك. وخاصة أن كلا الطرفين –النظام والقوميات- يعانون من حالة عدم ثقة كبرى، عدا عن حالة العداء بين السلطة والقوميات، والتي تجعل النخب القومية متشككة في كل سلوك سلطوي لا يراعي مصالحها، ولا يمكن حلّ هذه الإشكالية إلا من خلال حكومة تمثيلية تشمل كافة الأطياف.
الحكم الذاتي:
ينطوي الحكم الذاتي على منح سلطات منفصلة من الإدارة الداخلية للأقاليم الأقوامية، حيث يتمّ منح السلطة السياسية والحكومية للسلطة المحلية، ويمكن أن يُفهم بأنه استقلال العمل على الصعيد الداخلي أو المحلي. وهو الطريقة الأكثر فعالية في استيعاب القوميات غير الفارسية، بحيث يتمّ إدماج كل قومية في أرضها التاريخية، ضمن إطار الدولة الإيرانية. وقد أثبتت التجربة الديمقراطية الليبرالية الغربية، أنها الأكثر فعالية في عملية تعايش مجتمعين ثقافيّين أو أكثر مع بعضهما البعض، وخاصة في كندا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا، من خلال ترتيبات إقليمية كالاتحادات متعددة القوميات، والحكم الذاتي شبه الاتحادي، وأنظمة الحكم الذاتي الواسعة.
لكن هذه العملية تتطلب نُظماً قانونية وسياسية منفصلة عن تلك القائمة في المركز (طهران)، لحماية الهياكل المجتمعية من التدخُّلات الحكومية. وتشترط قيام استقلال ثقافي كإنشاء مجلس تعليم للقومية، مع تحديد اللغة المستخدمة في المناهج الدراسيّة في المدارس الحكومية التي يكون غالبية طلابها من القوميات غير الفارسية، وهي غالباً لغة القومية الحاصلة على حكم ذاتي (العربية في الأحواز مثلاً).
ومهما كان نوع الحكم الذاتي، فإنّه يتطلب الاتفاق بين السلطة الفارسية والقوميات على حل بعض الإشكاليات الناشئة عنه، من مثيل: مجالات سيادة الدولة والإقليم داخلياً وخارجياً، وآليات توزيع الاختصاصات فيما بينهما، وكيفية تدبير موارد الإقليم، سواء تلك التي تنتجها الأقاليم الغنية (كالأحواز)، أو عبر المعونات التي من المفترض أن تُقدَّم للأقاليم الفقيرة.
على أنّ هذا الأسلوب في إدارة التنوع القومي في إيران، سيخلق إشكالية الشخصية الدولية، إذ تبقى الشخصية الدولية والاعتراف الدولي مناطاً بالدولة ككل (إيران)، وليس بالأقاليم المكونة لها، وعليه فإنّه يبقى بيد السلطة الفارسية إمكانية إلغاء الاستقلال الذاتي لأحد الأقاليم أو الافتتاء على بعض حقوقه. عدا عن محدودية وسائل القوة والدفاع التي سيمتلكها أي من هذه الأقاليم، مثل أجهزة الشطرة محدودة الصلاحيات.
هنا تبرز إشكالية التصادم الأمني والقانوني بين الأجهزة العسكرية في الدولة، بما يعني ضرورة تقليص الأدوار المناطة بالجيش الإيراني والحرس الثوري، إلى خارج هذه الأقاليم، أي إلى حدود الدولة الخارجية. بل يتطلب في الأصح إعادة هيكلة الجيش الإيراني، من خلال دمج الحرس الثوري فيه، وإعادة تعريف أدواره الداخلية والخارجية، وإنهاء حالة التدخل أو الاحتلال التي يقوم بها في الدول العربية.
الفدرالية:
ينطوي مفهوم الاتحاد أو الفدرلة، على تقسيم أراضي السلطة بين الوحدات المكوِّنة –والتي تُدعى بالمحافظات أو الكانتونات أو المقاطعات أو الولايات- وتشكيل حكومة مشتركة، وعادة ما يُرسَّخ هذا التقسيم للسلطة في الدستور، ولا يمكن لأحد أعضائه أو للحكومة تغييره بشكل منفرد. ويكون لكلّ من الحكومة والوحدات الأعضاء تأثير مباشرٌ على المواطنين الأفراد المؤلِّفين للأمّة، وتُنتَخب السلطات على المستويين مباشرة.
وبالتالي، فإن وجود مستويين من الحكومة أو أكثر هو أقل خطراً على الحريات منه في المستوى الواحد، حيث إن زيادة عدد الحكومات يضاعف فرص تقييد إكراه الحكومة المركزية والحدّ من القيود التي تفرضها على الحريات. وبشكلٍ أكثر صلة، فإنّ الفدرالية تمنح إمكانية الحدّ من حجم الحكومة المركزية واضطهاداتها. وتخفيف حدّة الصراعات الإثنية وحماية الأقليات الضعيفة من الظلم.
وتثير الفدرالية إشكالية التعدُّد اللغوي في الدولة، في حال كانت قائمة بين مجموعات لغوية مختلفة (كما هو الحال في إيران)، مما قد يدفع الدولة إلى تبني عدَّة لغات باعتبارها لغات رسمية. وهنا تبرز أربعة حلول يمكن تبني إحداها بشكل توافقي بين كافة الأطراف، وهي:
- اعتماد لغة واحدة رسمية للدولة، مع الاحتفاظ بالحقوق اللغوية المحلية للقوميات غير الفارسية.
- اعتماد لغة رسمية واحدة، مع اعتماد اللغات الأخرى، لغات رسمية محلية، أي في الأقاليم الأقوامية، بحيث يجري تداولها في مؤسسات الإقليم، وليس المؤسسات المركزية للدولة.
- خيار اعتماد كافة اللغات الموجود في الفضاء الإيراني، لغات رسمية، وعليه فإنّ على المؤسسات الحكومية المركزية والفرعية، التعامل مع الأفراد بلغاتهم.
- ويبقى الخيار الأمثل، وهو اعتماد اللغات المحلية لغات رسمية للدولة، لكلنها خاصة بكل إقليم، وخاصة أنّ هذه اللغات تتطابق مع حدود الأقاليم الأقوامية.
جميع هذه الخيارات الثلاث، تتطلب إسقاطاً لنظام الملالي وذراعه الحرس الثوري، قبل البدء في آلياتها الإجرائية؛ وهو نتيجة لعدم قدرته أو رغبته في تحقيق أي منها. ليغدو الخيار الوحيد المتاح نهاية، هو الاستقلال بشكل قاطع ونهائي عن السلطة والدولة الإيرانية، غير أنّ هذا الاستقلال سيعني حتماً مواجهة مسلحة مع الجيش الإيراني والحرس الثوري. لذا ينبغي الاشتغال على هذا الخيار بتنسيق عالٍ بين كافة القوى السياسية والعسكرية لكل قومية، وبين القوميات الباحثة عن استقلالها، ليكون متزامناً؛ بغية تشتيت قدرات الجيش الإيراني المنهك أصلاً في احتلالاته الخارجية، والمثقل بالسلاح الخردة. أي تكون إعلانات الاستقلال القومية متزامنة مع بعضها، ومع التحضيرات العسكرية لمواجهة رد الفعل السلطوي.
كما يجب ضمان الوعود الدولية بالاعتراف أولاً بهذا الاستقلال (الركن الرابع من إنشاء الدول بعد الأرض والشعب والسلطة)، وتقديم الدعم السياسي والقانوني لتثبيته، وتوفير آليات حماية الدول الجديدة. حيث سيؤدّي غياب الدعم والاعتراف الخارجي إلى تحويل عملية الاستقلال قانونياً إلى عملية تمرّد على سلطة الدولة تتيح لها ضربها بكل ما تملك من قوة.
د. عبد القادر نعناع
منشور في صحيفة الوطن السعودية