د. عبد القادر نعناع

الوعود الزائفة بتغيير النظام: لماذا تستمر واشنطن بالفشل في الشرق الأوسط؟

5528656e-c70a-40cb-8d02-8c2b416b58b1 • ١٧ أكتوبر ٢٠٢٠
فيليب هـ. جوردن
ترجمة: د. عبد القادر نعناع

منذ خمسينيات القرن الماضي، تحاول الولايات المتحدة، استبدال حكومات في الشرق الأوسط، وسطياً مرة كل عقد. حيث فعلت ذلك في إيران، وفي أفغانستان (مرتين)، وفي العراق ومصر وليبيا وسورية، وهذا لا يشمل سوى الحالات التي كان فيها هدف الولايات المتحدة تنحية قادة دولة ما وتغيير نظامها السياسي، حيث بذلت واشنطن جهوداً متواصلة لتحقيق تلك الأهداف. 

وتباينت الدوافع الكامنة وراء هذه التدخلات على نطاق واسع، كما تباينت أساليب واشنطن في ذلك: ففي بعض الحالات تمت رعاية انقلابات، وفي حالات أخرى قامت الولايات المتحدة بغزو واحتلال دولة ما، وفي حالات ثالثة اكتفت بخطاب دبلوماسي، أو لجأت إلى جملة عقوبات.

ومع ذلك، فإن النتيجة في كل هذه المحاولات، كانت واحدة: وهي الفشل. حيث بالغ صانعو السياسة الأمريكيون في تقدير التهديدات التي تواجهه الولايات المتحدة، وقللوا من أهمية تحديات الإطاحة بالأنظمة، وفضلوا اعتماد التأكيدات المتفائلة من المعارضين المنفيّين أو الجهات الفاعلة المحلية، والتي كانت تشير إلى أن التغيير ممكن مع استخدام محدود للقوة العسكرية. 

وفي كل حالة، باستثناء حالة سورية (حيث تمسك النظام بالسلطة)، أعلنت الولايات المتحدة النصر قبل الأوان، وفشلت في توقّع الفوضى التي ستنجم حتماً بعد انهيار النظام، ووجدت نفسها في نهاية المطاف قد تحمّلت تكاليف بشرية ومالية ضخمة ستستنزفها لعقود قادمة.

فلماذا يعتبر تغيير النظام في الشرق الأوسط بالغ الصعوبة بهذا الشكل؟ ولماذا يستمر قادة وخبراء الولايات المتحدة في التفكير بأنهم قادرون على فهم الأمر بشكل صحيح؟ 

لا توجد إجابات سهلة لهذه الأسئلة، ومن المهم الاعتراف بأنه في كل حالة من تلك الحالات، كانت بدائل تغيير النظام غير جذابة. وبينما يفكر صانعو السياسة في الولايات المتحدة في تحديات التعامل مع هذه المنطقة المُضطَرِبة، يتوجب عليهم ملاحظة الأنماط التي قد تقودهم إلى خداع الذات وسوء التقدير، وهي ما جعل تغيير الأنظمة في المنطقة، مراراً وتكراراً، أمراً مُغرياً للغاية، لكنه في النهاية كارثي للغاية.


التمدد
في عام 2011، وبينما كان كبار المسؤولين يناقشون ما إن كان ينبغي على الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية ضد الزعيم الليبي معمر القذافي، ذكّر وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس -العضو الأكثر خبرة في فريق الأمن القومي للرئيس باراك أوباما- زملاءه، بأنه: "عندما تبدأ حرباً، فإنك لا تعرف أبداً كيف ستسير الأمور"، وقد أُهمِل هذا التحذير.

ففي كل حالة فردية، ومهما كان الإعداد يتم بعناية، كان لتغيير نظام في الشرق الأوسط، عواقب غير متوقعة وغير مرحّب بها. ربما أفضل مثال على ذلك، الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، عندما أنهت واشنطن حكم الزعيم العراقي صدام حسين، لكنها عزّزت دور إيران أيضاً -عن غير قصد-، وغذّت الحركة الجهادية في المنطقة، وأظهرت للديكتاتوريين في جميع أنحاء العالم، القيمة المحتملة لامتلاك أسلحة نووية (لردع مثل هذه الغزوات)، فيما زادت الشكوك في جميع أنحاء العالم حول "النزعة الأمريكية للخير العالمي"، وأثارت استياء الرأي العام الأمريكي بشأن التدخل العسكري، طيلة العقود التالية.

لم يكن العراق الحالة الوحيدة في ذلك، ففي كل حالة أخرى، كانت العواقب غير المقصودة هي الأكثر أهمية. ففي إيران عام 1953، ساعدت وكالة المخابرات المركزية في الإطاحة برئيس الوزراء القومي "المزعج": محمد مصدّق، آملة أنه بخروج مصدّق من الصورة، سيكون الشاه الإيراني: محمد رضا بهلوي، حليفاً إقليمياً أكثر موثوقية، وسيعمل على إبعاد إيران عن المعسكر السوفيتي. لكن فساد الشاه الممنهج وشدّة قمعه –وطبعاً ذلك كان بتحريض من الأمريكيين المستفيدين من ذلك- أدى في النهاية إلى ثورة 1979، التي جلبت إلى السلطة نظاماً إسلامياً معادياً بشدة للولايات المتحدة، وقام برعاية الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة مذ ذلك الحين. 

أما في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، فقد ساعد دعم الولايات المتحدة للمجاهدين الإسلاميين في تقويض تدخل الاتحاد السوفيتي، لكنه ساهم أيضاً في التوجّه نحو عقد من الفوضى والحرب الأهلية، وصعود حكومة طالبان، وتمكين الحركة الجهادية العالمية. وقاد في النهاية، إلى التدخل العسكري الأمريكي، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، والتي خطط لها إرهابيو القاعدة المتمركزون في أفغانستان. 

وفي مصر، وبعد الانتفاضة الشعبية عام 2011، استخدمت الولايات المتحدة نفوذها الدبلوماسي للمساعدة في إنهاء الحكم القمعي الذي استمر لعقود من الزمن، تحت حكم الرئيس حسني مبارك. لكن الوضع تدهور في السنوات التالية، ففي عام 2012، جلبت الانتخابات إلى السلطة حكومة إسلامية إقصائية. وفي العام التالي، تمت الإطاحة بتلك الحكومة بعنف، واستبدالها بنظام عسكري جديد بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، والذي ثَبُت أن نظامه أكثر قمعاً من نظام مبارك.

وفي عام 2011 أيضاً، أدت الإطاحة بالقذافي بدعم أمريكي، والانهيار اللاحق للدولة الليبية، إلى عنف واسع النطاق، سمح بانتشار الأسلحة في جميع أنحاء المنطقة، وتسبب في تفاقم عدم الاستقرار في تشاد ومالي المجاورتين، وعزز عزم روسيا على عدم السماح مرة أخرى لمجلس الأمن بإصدار قرار من شأنه تسهيل تغيير نظام سياسي، كما حصل في حالة ليبيا. 

وبينما كان المدافعون عن تغيير النظام في ليبيا يأملون، بأن يؤدي إسقاط القذافي إلى وضع دكتاتوريين آخرين أمام خيارين: إما الموافقة على ترك السلطة طواعية أو مواجهة مصير القذافي، فإن هذا التدخل أدى إلى تأثير معاكس. ففي سورية، على سبيل المثال، شاهد بشار الأسد القذافي وهو يُعذّب بوحشية ويُقتل على يد الثوار الليبيين، وقرر قمع خصومه بشدة، وخلق فرصة للجهاديين الذين امتدوا بعد ذلك إلى العراق المجاور وقوّضوا الحكومة هناك.

وقد أثبتت محاولة الولايات المتحدة وغيرها للإطاحة بالأسد، من خلال دعم بعض أطياف المعارضة، بأنها أكثر كارثية. فمع إصرار روسيا وإيران على إبقاء الأسد في السلطة، لم تؤدّ سنوات من المساعدة العسكرية الخارجية للمعارضة السورية إلى الإطاحة بالأسد على النحو المنشود، بل أدّت بدلاً من ذلك إلى تعزيز نظامه ورعاته الأجانب، وهو ما قاد إلى تأجيج حرب أهلية شرسة، ومأساة إنسانية، وتدفق للاجئين على نطاق لم نشهده منذ الحرب العالمية الثانية (وهو ما تسبب برد فعل شعبوي عنيف في أوروبا)، وانفجار التطرف الجهادي.

كانت الرغبة في إسقاط الأسد المجرم مفهومة، لكن عواقب المحاولة والفشل في القيام بذلك –نسبياً بسبب عدم رغبة أحد في الولايات المتحدة بغزو واحتلال سورية بعد أقل من عقد من وقوع كارثة العراق- هذه النتائج أثبتت أنها كانت أسوأ من عدم المحاولة على الإطلاق.


الطبيعة تكره الفراغ
جوهر المشكلة، أنه كلما تم تدمير نظام قائم (أو حتى إضعافه بشكل كبير من قبل قوى خارجية، كما هو الحال في سورية)، ينشأ فراغ سياسي وأمني، ويبدأ صراع على السلطة. ففي ظل غياب الأمن، لا يشعر الناس بأي بديل سوى تنظيم وتسليح أنفسهم، والاعتماد على شبكات القرابة والقبائل والطوائف بحثاً عن الأمان، وهو ما يفاقم الطائفية والخصومات الداخلية، ويؤدي أحياناً إلى بروز النزعات الانفصالية.

ففي الفترة التي تسبق التدخل الخارجي، تشكّل الجماعات التي لديها شيء من القواسم المشتركة، ائتلافات ملائمة، لكن بمجرد سقوط النظام، سرعان ما تنقبل تلك الجماعات على بعضها البعض، وفي كثير من الأحيان، تتسيد المشهد الجماعات الأكثر تطرفاً أو عنفاً، ويتم تهميش القوى الأكثر اعتدالاً أو براغماتية، فيما يعمل المُستَبعَدُون عن السلطة على تقويض القوى التي هيمنت على المشهد.

فعندما حاولت الولايات المتحدة ملء الفراغ بنفسها، كما فعلت في العراق ونسبياً في أفغانستان، وجدت نفسها هدفاً للسكان المحليين والدول المجاورة التي تقاوم التدخل الأجنبي، وانتهت بالتضحية بآلاف الأرواح وإنفاق مليارات الدولارات، لكنها ما زالت تفشل في خلق الاستقرار.

ولا يؤدي الفراغ الأمني الناجم عن تغيير النظام إلى نشوء صراع على السلطة داخل الدول فحسب، بل يولّد دائماً منافسة لا هوادة فيها بين الخصوم الإقليميين أيضاَ. فعندما تسقط الحكومات (أو تظهر ملامح سقوطها)، فإن القوى الإقليمية وحتى العالمية، تندفع بالمال والسلاح، وفي بعض الأحيان عبر استخدام القوة العسكرية المباشرة، لوضع وكلائها في السلطة وجذب البلاد إلى فلكها. 

فتأكيد وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق: كوندوليزا رايس، المتكرر حتى وقت قريب من غزو العراق، بأن واشنطن تسعى لتحقيق "الاستقرار على حساب الديمقراطية" في الشرق الأوسط، لم يكن صحيحاً بشكل كبير، واتّضح أن له نتيجة أخرى حتمية، وهي أن السعي لتحقيق الديمقراطية على حساب الاستقرار، لن ينتج عنه أي منهما، فيما تكون التكلفة أعلى بكثير.

ويفضل الأمريكيون الاعتقاد بأن تدخلاتهم الخارجية سخية وحميدة ويتم تقديرها على نطاق واسع، لكن اتضح أنه حتى عندما يساعد الأمريكيون في الإطاحة بالأنظمة غير الشعبية، فإنه لا يتم الترحيب بهم بالضرورة باعتبارهم محرِّرين، وفي الواقع، حتى التدخلات الأمريكية حسنة النية في الشرق الأوسط أدّت غالباً إلى مقاومة عنيفة. 

فبعد انقلاب 1953 في إيران، اشتدت الكراهية تجاه الولايات المتحدة بسبب تمكين الشاه الديكتاتوري، وقادت إلى معاداة شديدة للولايات المتحدة تستمر حتى يومنا هذا. وفي أفغانستان، حيث تتعمّق الشكوك حول الغرباء، لم يستطع حامد كرزاي، الزعيم الذي فضّلته واشنطن بعد غزو أفغانستان عام 2001، أن يتفادى الانطباع السائد بين الأفغان بأن كرزاي تم وضعه في السلطة بدعم من الأجانب، ولا يزال تخليص البلاد من القوات الأمريكية المحتلة هو المطلب المركزي لحركة طالبان المعارضة. كما تبيّن أن تنبؤ نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بأن القوات الأمريكية "سيتم الترحيب بها كمحررين" في العراق، بأنه خاطئ بشدة، فقد أعقبت الغزو سنوات من التمرد الدموي ضد الولايات المتحدة.

حتى الزعماء "الأصدقاء المزعومون" الذين عينتهم الولايات المتحدة، لم يتصرفوا دائماً وفقاً لرغبات واشنطن، حيث أن لديهم مصالحهم المحلية الخاصة بهم، ودواعي القلق الخاصة، وغالباً ما يتعين عليهم الوقوف في وجه القوى الخارجية لتعزيز شرعيتهم. وفي كثير من الأحيان، تحدّوا واشنطن في مجموعة من القضايا المحلية والدولية، في وقت لم يكن فيه أمام الرعاة الأمريكيون من سبيل سوى الاستمرار في دعمهم.

وبعيداً عن ممارسة التأثير الإيجابي في هؤلاء القادة ومساعدة الولايات المتحدة في التغلب على هذه التحديات، فإن العديد من الفاعلين الإقليميين والعالميين قاموا بالعكس تماماً. فعلى مدى عقود، ساعدت باكستان في إحباط جهود الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار في أفغانستان. وقوّضت إيران الجهود الأمريكية في العراق من خلال دعم الميليشيات الشيعية العنيفة. فيما تمزّقت ليبيا بسبب تنافس قوى خارجية تدعم وكلاء متنافسين. وفي سورية، اتفقت روسيا وإيران، وعقدتا العزم على تقويض مشروع تغيير النظام الذي ترعاه الولايات المتحدة جزئياً، خشية أن يقوم الأمريكيون بنقل التجربة يوماً ما إلى موسكو أو طهران. وقامت الدولتان بالرد على كل تصعيد أمريكي بتصعيد مضادِّ من جانبهما. 

وغالباً ما ينجح هؤلاء المخرّبون الإقليميون؛ لأن لديهم نفوذاً محلياً أكبر، ومصالح أكثر عرضة للخطر من الولايات المتحدة، ومن الأسهل لهم إحداث الفوضى بدلاً من منعها.

لقد سعت التدخلات الأمريكية الأخيرة في الشرق الأوسط، إلى استبدال الأنظمة الأوتوقراطية بحكومات ديمقراطية. ولكن حتى امتلكت الولايات المتحدة طريقة ما، لتجنب المخاطر التي تشكلها الفراغات الأمنية والمقاومة الشعبية والوكلاء غير الموثوق بهم، فمن غير المرجح أن يتم رعاية الديمقراطيات الجديدة. ففيما توجد وجود وصفات واضحة للتطور الديمقراطي، فتشير الأبحاث العلمية المكثفة إلى أن المكونات الرئيسة تشمل درجة عالية من التنمية الاقتصادية، وتجانساً عرقياً وسياسياً وثقافياً كبيراً (أو على الأقل مشتركات وطنية)، ووجوداً سابقاً للمعايير والممارسات والمؤسسات الديمقراطية. لكن للأسف، تفتقر دول الشرق الأوسط المعاصر إلى كل هذه السمات. 

لا يعني أي من هذا، أن الديمقراطية مستحيلة هناك، أو أن الترويج للديمقراطية يجب ألا يكون طموحاً أمريكياَ. لكن يشير إلى أن السعي لتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط على أمل أن يؤدي ذلك إلى تطور ديمقراطي هو تفكير قائم على الرغبات في أقصى الحدود.



التعلّم بالطريقة الصعبة:
إن الرغبة الأمريكية عميقة الجذور في حلّ مشاكل الشرق الأوسط، هي رغبة نزيهة من نواحٍ كثيرة، لكنها قد تكون خطيرة أيضاً. وتتمثّل الحقيقة الصعبة -التي أظهرتها عقود من التجارب المؤلمة في المنطقة- بأن هناك بعض المشاكل التي لا يمكن حلّها بالكامل، بل إنّ محاولة حلها في بعض الأحيان تجعل الأمور أكثر سوءاً.

جزء من هذه المشاكل، هو أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة، غالباً ما يفتقرون إلى فهم عميق للبلدان المعنية بهذه التوجهات، مما يجعلهم عرضة للتلاعب من قبل الأحزاب التي لها مصالحها الخاصة. وأشهر مثال على ذلك المنفي العراقي أحمد الجلبي، الذي ساعد في إقناع كبار المسؤولين في إدارة جورج دبليو بوش بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وأن القوات الأمريكية سيتم الترحيب بها كقوة تحرير في العراق. وبعد سنوات من الغزو، ألقت السلطات العراقية القبض على الجلبي بتهمة التزوير والعمل على خدمة مصالح إيران في العراق. وطبعاً حدثت سيناريوهات مماثلة في ليبيا وسورية وأماكن أخرى، حيث قام المنفيون –بمن فيهم أولئك ذوو النوايا الحسنة- بإخبار الأمريكيين وغيرهم بما يريدون سماعه؛ بهدف كسب دعم أقوى دول العالم. وفي كل حالة من تلك الحالات، أدى ذلك إلى حسابات خاطئة وجسيمة حول ما سيحدث في أعقاب التدخل الأمريكي، وكانت تلك التوقعات تتجه دائماً نحو التفاؤل المفرط.

في المقابل، يواصل الأمريكيون أيضاً، وضع آمال على التجربة عندما يتعلق الأمر بسياسة الشرق الأوسط؛ بسبب الميل المستمر إلى التقليل من قدر: الموارد، والالتزام اللازم للتخلّص من نظام معادٍ، وتحقيق الاستقرار للوضع، بمجرد إزالة النظام. لكن عقوداً عديدة من الخبرة تظهر أن الأنظمة الاستبدادية لا تتخلى عن السلطة أبداً بسبب مواجهة العقوبات الاقتصادية وحدها (التي تضرّ العامة أكثر من القيادة)، أو حتى في مواجهة عمليات محدودة من القوة العسكرية. 

فقد كان العديد من حكام الشرق الأوسط، على استعداد للمخاطرة، بل وحتى فقدان حياتهم بدلاً من التخلي عن سلطتهم طواعية. والنتيجة هي: أنه عندما ترغب الولايات المتحدة في التخلص من هؤلاء القادة، يجب أن تذهب إلى ما هو أبعد من العلاجات منخفضة التكلفة، التي يقترحها غالباً مؤيدو تغيير النظام، مثل: تطبيق مناطق حظر الطيران، وشن ضربات جوية، وتوفير أسلحة للمعارضة، وبدلاً من ذلك، هناك حاجة لعمليات نشر قوات عسكرية أمريكية كبيرة، لإزاحة مثل هؤلاء القادة. 

وحتى بعد رحيلهم، ثبت دائماً أن التعامل مع التداعيات أكثر تكلفة بكثير مما يقترحه أنصار تغيير النظام. ورغم أن المسؤولين في واشنطن يفترضون غالباً أن الشركاء الإقليميين أو الدوليين سيساعدون في تحمل الأعباء وتحمل تكاليف تغيير النظام، إلا أن هذا نادراً ما يحدث في الواقع.

وسيكون من الممكن التعامل مع بعض هذه المشكلات إذا كان التزام الجمهور الأمريكي وصبره وقدرته على الدعم بلا حدود، لكنها ليست كذلك. خاصةً أن قادة الولايات المتحدة وأنصار تغيير الأنظمة نادراً ما يعترفون بالتكاليف الباهظة المحتملة، أثناء قيامهم بطرح الحجج لاتخاذ إجراء ما، وبمجرد انتهاء الأزمة المباشرة وتقلص التصورات العامة عن التهديدات المطروحة، يتضاءل الدعم العام. فقد أيد معظم الأمريكيين في البداية غزو كل من أفغانستان والعراق، ومع مرور الوقت، استنتجت الأغلبية أن كلا التدخلين كان خطأً، وبالتالي بالكاد نجد أي دعم عام للتدخل العسكري أو عمليات حفظ السلام في ليبيا وسورية، ففي كل حالة، مع تصاعد المشاكل وارتفاع التكاليف، يختفي الدعم الشعبي اللازم لنجاح المهمة.



قل: لا، فحسب
مستقبلاً، ربما تكون هناك حالات يكون فيها الإرهاب الجماعي، أو الإبادة الجماعية، أو الهجوم المباشر على الولايات المتحدة، أو ظهور دولة تستخدم أو تنتشر أسلحة نووية، ربما تساهم هكذا حالات في جعل منافع إزالة الأنظمة تتجاوز التكاليف. ولكن إن كان التاريخ هو دليلنا في ذلك، فإنّ مثل هذه الحالات ستكون نادرة أو غير موجودة، وحتى في حالة وجودها، فالمطالبة ستكون باتجاه الحذر والتواضع والصدق بشأن التكاليف والعواقب المحتملة.

إن تغيير النظام سيغري واشنطن على الدوام، فطالما أن هناك دولاً تهدد المصالح الأمريكية وتسيء معاملة شعوبها، سينجذب القادة والمحللون الأمريكيون -بشكل دوري- نحو فكرة أن الأمريكيين يمكنهم استخدام قوتهم العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، التي لا مثيل لها، للتخلص من الأنظمة السيئة واستبدالها بنظام أفضل منها. 

ومع ذلك، فإن التاريخ الطويل والمتنوع والمأساوي لتغيير الأنظمة، بدعم من الولايات المتحدة، في الشرق الأوسط، يشير إلى أن مثل هذه الإغراءات، كما معظم الحلول السريعة التي تحدث في الحياة والسياسة، يجب مقاومتها. وفي المرة القادمة التي يقترح فيها قادة الولايات المتحدة التدخل في المنطقة للإطاحة بنظام معاد، يمكن الافتراض بسهولة، أن مثل هذا المشروع سيكون أقل نجاحاً وأكثر تكلفة، بل وأكثر ملئاً بالعواقب غير المقصودة، وذلك بشكل أكثر حدّة مما يدركه المؤيدون أو يعترفون به.


منشور في نينار برس


للعودة إلى النص الأصلي، انظر:
Philip H. Gordon, "The False Promise of Regime Change: Why Washington Keeps Failing in the Middle East", October 7, 2020, Foreign Affairs:
https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2020-10-07/false-promise-regime-change

بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: