تُعتَبر الشرعيّة أحد أهمّ مقاييس دراسة استقرار النظام السياسي، ومدى اتّساقه مع البنى المجتمعيّة، وبالتالي حجم الحاضن الاجتماعي الذي يَسنِد السلطة أو النظام أو الفرد الحاكم. ومنه، فإنّ انتقاص تلك الشرعية أو قيام افتراقٍ بينها وبين حواضنها، أو تأخُّرِها عن تلبية متغيّرات المجتمع، وعجزها عن أن تكون تعبيراً عن مصالحه، هو بالمحصلة إيذانٌ بأنّ السلطة تفقد حواضنها المجتمعيّة الداعمة لاستمراريتها. وعليه فإنّ هذا المسار، في حال عدم تصحيحه، هو بالحتميّة التاريخيّة يتّجه نحو تقويض النظام، وتفكيكه وصولاً إلى إسقاطه أو سقوطه من داخله.
ما حصل مع النظام الشاهنشاهي في إيران، كان كما يحصل مع أيّ نظام لا تعود شرعيته كافيةً لاستمراره، ففقدان نظام الشاه قدرته التعبويّة الأيديولوجية من جهة، وانخفاض أداء مؤسّساته من جهةٍ أخرى، أفسح المجال لبروز قوى جديدة، تمثَّلت في القوى الدينية التي طرحت شرعيّةً جديدةً تقوم على التعبئة النفسية-المذهبية، لجمهور كان يشهد اضطراب هوية، وعليه استطاع رجالات الدين الإيرانيون بناء نظامٍ سياسيٍّ ودولةٍ دينية، وفق هذه الشرعية.
بالعودة إلى مفهوم الشرعية، فهو هنا يُشِير إلى بُعدَيْن أساسيّين، يمكن أن نُطلِق على الأول، البُعد السيكولوجي/النفسي، والذي يقوم على فكرة التعبئة الأيديولوجية المُسبقَة، وهو النمط الأول أو الكلاسيكي أو العتيق من الشرعيّات السياسية، والذي لم يعد سائداً بمفرده في كثير من الدول المعاصرة، أو أنّه يترافق مع الشكل الآخر من الشرعية، الذي يمتدّ لقياس أداء النظام نفسه، وهو ما يُمكِن تسمِيَته بالبُعدِ الأدائيّ أو العَمَلِيّاتيّ للنظام السياسي.
بالطبع، لم تتجاوز عقلية نظام الملالي، البعد العتيق، القائم على الحشد الشعبوي، وهو بُعدٌ نجحت فيه حكومات إيران المتتالية منذ عام 1979، نتيجة عوامل مساعدة عديدة، سواءً أكانت الحرب مع العراق، أو التصفيات الواسعة في الداخل، والانفتاح في التسعينيات، والمواجهة مع الغرب، وتطوّرات القرن الحالي. وكلها عوامل ساعدت في تأجيل استحقاق الأداء، وظلّت الحاضنة الفارسية مُلتفّةً حول السطلة.
تغاضى المجتمع عن كثير من إخفاقات السلطة، وخصوصاً مع الآمال التي عُقِدَت على الاتفاق النووي، في إحداث انفتاح اقتصادي يليه تَحسُّنٌ في مستويات المعيشة، بما ينعكس إيجاباً على كافة مناحي الحياة. هذا الانفتاح أو أمل الانفتاح، ساعد في مزيد من التحفيز السياسي للمجتمع، وبالتالي نقل المجتمع نفسياً إلى مرحلة ينتظرها منذ عقود، لكن النكوص الذي حصل لاحقاً سواء من خلال محدودية المنافع التي طالت إيران عقب الاتفاق النووي، وتصعيد ترامب لسياساته وصولاً إلى الانسحاب من الاتفاق، خلق ضغوطاً جديدة على المجتمع والنظام الإيرانيين.
أي أن المجتمع (وتحديداً الجماعة الفارسية)، أدرك متأخراً وبشكلٍ جماعيّ، محدوديّة البعد السيكولوجي التعبوي، في تبرير استمراريّة نظام، وأن النظام لم يستطع تحقيق منافعَ من الاتفاق النووي، ولم يستطع الحفاظ عليه، بل ويصرّ على رهن المجتمع بأسره لسياساتٍ عدوانيّةٍ خارجية، تستنزف مقدّرات الدولة.
نستطيع القول إنّ الهتافات التي خرجت تطالب بالموت لخامنئي ذاته، وترفض ما كان يُقال عن حماية لآل البيت في دول الإقليم، هي تعبير عن حجم الإنهاك الذي طال شرعية النظام السيكولوجية، وحاجتها إلى إسنادٍ فعليٍّ حتى تظلّ مبرراً لاستمرار النظام، وهي النقطة الأولى التي تحاول هذه الدراسة تبيانها.
وهنا لابد من التمييز بين عدّة شرعيات سيكولوجية استند إليها النظام الإيراني:
- الشرعيّة الفارسيّة-الشيعيّة، وهي التي تُشكِّل الحاضن الأساس والمرتكز الاجتماعي الأوّل للنظام.
- الشرعيّة الشيعيّة، وهي وإن كانت قد نجحت في فترات سابقة في الحفاظ على ائتلاف الجماعات الشيعيّة (على اختلافاتها القوميّة) حول النظام، إلّا أنّ إحساسها اللاحق بالغبن والإهمال، بل وإدراك بعضها لحجم الاستنزاف الذي يطالها لصالح الفئة الأولى، جعلها تسحب شيئاً فشياً تلك الشرعية عن النظام.
- وتبقى الشرعيّة الثالثة، مختصّةً بالقوميّات غير الفارسية عامّة، وبشكلٍ أخصّ تلك القوميّات غير الشيعيّة، والتي قد تتداخل مع الفئة الثانية هُوِيّاتياً، لكنّها تتمايز عنها سياسيّاً، وهي في الأساس لم تُقِرّ بهيمنة السلطة على أقاليمها، بل يمكن القول إنّها في حالة نضالٍ/نزاعٍ/صراعٍ سياسيٍّ متقطع منذ قيام دولة إيران ذاتها، وهو ما ستختَصّ به بحوثٌ لاحقة في هذا الكتاب.
- كما يُحاول النظام استقدام شرعيّةٍ خارجيّة، من خلال تدخّلاتٍ عسكريّةٍ (تحت شعاراتٍ مذهبيّة)، وَفَّرَت له في بعض الأحيان ما يلزمه من اجتماعٍ داخليٍّ حوله، لكنّها هي الأخرى بدأت تشهد استنزافاً حادّاً مع تراجُعٍ مضطردٍ في مستوى المعيشة في الداخل، وهو ما ستختصّ به أيضاً بحوثٌ لاحقة.
غير أنّ الإسناد الفعّال للنظام، لن يكون إلا عبر شرعية الأداء، وهنا تتَّجِه الدراسة إلى تناول جملةٍ واسعةٍ من المؤشِّرات الاقتصادية والسياسية، وبناءِ نمطٍ يُوضِّح مسار هذه الشرعيّة (قياس كمي). وهنا بالضرورة، لابدّ من تفنيد حُججِ النظام حول الدمقرطة، وتبيان الأزمة التي تحوّلت إلى إشكاليّة ضمن جملة إشكاليّاتٍ في بِنيَة النظام، غير قابلةٍ للحل. أي أنّ هذه الدراسة تحاول توضيح النقاط التالية:
- إشكاليّة الشرعيّة الأيديولوجيّة للسلطة.
- إشكاليّة شرعيّة الأداء للسلطة (مؤشِّراتٌ سياسيّةٌ واقتصاديّة).
- إشكاليّة الدمقرطة واستعصاؤها في ظلّ النظام الحالي.
لتنزيل الدراسة كاملة: