تشهد عدّة دولٍ عربيّة، مرحلة تفكّكٍ وانهيار، طالت البنى السياسية والاقتصادية، بل والهُويّتية أيضاً، جعلتها تشهد مرحلة نزاعٍ بين إثنياتها (تحوّل في حالاتٍ منه إلى صراع وجود)، على تحديد هُويّة الدولة بشكلٍ فردي/جماعاتي إقصائي، أو بشكلٍ تفكيكي، يُنذِر بمزيدٍ من الاضطرابات العابرة للجماعات، سواءً أظلّت تلك الجماعات ضمن إطار دولةٍ واحدة، أو دفعت نحو انفكاكٍ دولتيٍّ قهريٍّ غير مُتّفقٍ حوله.
هذه الحالات العربية، هي تكرارٌ لحالات طالما شهدها التاريخ البشري، ولعلّ أوروبا الشرقية وإفريقيا جنوب الصحراء، كانت شواهد قريبةً للمشهد العربي.
وأدى الاندفاع التفكيكي هذا، سواءً الهُويّتي أو الدَولَتي، إلى نزاعاتٍ مسلّحة، راح ضحيّتها عشرات أو مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، لمجرد انتمائهم الهُويّتي أو السياسي لطرفٍ من أطراف النزاع/الصراع.، قبل أن يدرك أصحاب النزاع/الصراع، عدم إمكانية حلّ معضلتهم، إلا بتوافقٍ (على مضض)، على هُويةٍ مشتركة، تَقبَل الآخر، وتتشارك معه في إعادة بناء الدولة المنهارة/المفكّكة، ضمن مسار عدالةٍ انتقالية، استغرق سنواتٍ قبل أن يثمر بشكلٍ حقيقيٍ في كثير من حالات النزاع/الصراع سابقة الذكر.
أي إنّ هذه القوى، ما كان لها أن تعبُر من مرحلة النزاع/الصراع المسلّح، إلى مرحلة إعادة البناء، إلا بعد الإقرار بضرورة التسامح عابر الجماعات، بمعانيه الواسعة، والتي تشمل: قبول الاختلاف مع الآخر، وتجاوز مسبّبات النزاع، والعفو عمّا يمكن العفو عنه وعمّا يجوز العفو عنه (وسنعود لذلك ختاماً)، وإفساح المجال للحوار بين الجَمَاعَتِيّ، والبحث المشترك عن مخرجٍ للأزمة المستعصية، ووضع برنامج عملٍ مشترك، وتحدد أسس هُويّةٍ مشتركة.
فالتسامح كان أساساً للانطلاق في مرحلة البناء، وهنا نستند إلى تعريف التسامح الذي أشار إليه معالي الشيخ عبد الله بن بيه، إلى أنّ التسامح في اللغة العربية هو الجود والكرم والسخاء والمساهلة والسِعَة، وعليه فقد وُصِفت الشريعة بأنها سمحة، أي سهلة ميسّرة. في حين يقابله لدى الغرب معاني احترام حرية الآخر، وطريقة تفكيره وتصرّفاته وآرائه السياسيّة والدينيّة.
فيما يشير حسام درويش، في عدد سابق من هذه المجلة، إلى أنّ مفهوم التسامح يدلّ على قيام طرفٍ بما يتراوح بين القبول الإرادي على مضض، على الرغم من وجود نفورٍ نفسيٍّ تجاه هذا الأمر أو الطرف، أو وجود تقييمٍ أخلاقيٍّ أو معرفيّ، سلبيٍّ له، لدى الطرف الأول، وعلى الرغم من امتلاك الطرف الأول القدرة الفعلية على عدم التسامح مع الطرف الثاني، أو عدم السماح بحدوث هذا الأمر أو بوجوده.
ونضيف على ذلك بعداً آخر للتسامح، يتضمن وجوباً، معنى إحقاق العدالة بين أطراف النزاع/الصراع، حتى يكون التسامح مقبولاً باعتباره عملية تشاركية بينهم، وليس مِنَّةً مؤقّتةً يتفضّل بها طرفٌ قويٌّ مهيمنٌ على طرف ضعيف، في لحظة انتصارٍ/انكسارٍ تاريخي.
فإحقاق العدالة، يعني قبول كلّ طرفٍ بأن يتمتّع نظيره (خصمه في النزاع/الصراع)، بحقوقٍ وواجباتٍ مساويةٍ له -رغم كراهية هذا الأمر للطرف الأول، أو لكليهما-، وبالتالي الإقرار بمبدأ المساواة، على اعتبارهما شريكين، لا خصمين. ففي الخصومة تكون الدولة والسلطة والمجتمع، خاضعة لمبدأ الغلبة والإقصاء، ولا يمكن بالتالي إحقاق عدالةٍ فعليّةٍ بين الجماعات. ونؤكد على أنّ هذا الأمر ليس بالهيّن مطلقاً، في الدول مفكّكة الهُوية، حيث يبقى فعل الاستعلاء واصطفاء الذات مُحدِّداً أساسياً لدى أفراد الجماعة ونخبها، باعتبار هذه الجماعة أعلى شأناً، وأرقى حضارياً، وأقوَم أخلاقياً، وبالتالي فإنّ قبول المساواة، يعني وجود جماعات أخرى تتشارك معهم هذه الحالة الاصطفائية من جهة، وتُشكِّك في الاصطفائيّة ذاتها من جهةٍ أخرى.
وتتجلّى صعوبة هذا الأمر أيضاً، حين تكون الجماعة منتصرةً أو مهيمنةً على مقدرات الدولة (سواء أكانت الجماعة أقليّةً أو أكثريّة، إثنيّةً أو سياسيّة)، إذ لا مبرّر حينها لتقديم تنازلاتٍ للجماعات الأخرى، وفق ما تعتقد هي، أو للتسامح معهم، أو للقبول بمساواة الذات وإياهم. وخصوصاً أنّ الطبيعة البشريّة تميل غالباً إلى استخدام أداة مقارنة الذات بالآخرين، في تحديد موقفها منهم، وهي مقارنة مشروعةٌ وطيّبةٌ في حال كان الهدف منها استدراك مواقع الخلل، والبحث عن آليّات للنهضة الحضارية، في إطار التنافس المشروع. لكن الجماعات والأفراد، لديهم أيضاً، أشكال سلبيّةٌ من تلك المقارنات، غالباً ما تتمّ بشكل شعبوي، ومنها:
- مقارنة الاستعلاء (وصولاً إلى العنصرية الرافضة للآخر)، القائمة على اعتبار الذات أكثر تحضراً.
- مقارنة التبرير، وهو شكلٌ أكثر سلبيّة، حيث يُستخدَم هذا الشكل، في تبرير السلبيّات القائمة لدى الجماعة/الأفراد، باعتبارها أمراً طبيعيّاً، مقارنةً بسلبيّات الآخرين الأكثر سوءاً، وهي كذلك تقود بالمحصلة، إلى الشكل السابق (الاستعلاء).
وعليه فإنّ الوصول إلى شكل العدالة المنشود هنا، وخصوصاً في الدول مفكّكة الهوية، نتيجة نزاعات/صراعات أهلية، لا يمكن دون المرور بمرحلة عدالةٍ انتقالية، أو ما يمكن أن نطلق عليه تسامحاً انتقالياً، يقودنا إلى مرحلة التسامح الواسعة المُقَنّنة والمرسّخة اجتماعيّاً وهُويتياً ودستوريّاً.
حيث تُعتَبر العدالة أحد أهمِّ المداخل في عمليّات إدارة الدولة، وخاصّةً في مراحلها الانتقاليّة، سواءً أكان المقصود بها: العدالة لعموم المواطنين، أو العدالة الخاصّة بالجماعات الثقافيّة المتعدِّدة في الدولة (العدالة الإثنيّة). وترتبط العدالة بدورها بعدِّة آليات أساسيّةٍ تُرسِّخ قيامها، كالحرّيّة، وتقرير الحقوق، والمساواة، والمشاركة السياسية، والاندماج، والتي يجب العمل على تأطيرها قانونيّاً ودستوريّاً، حتّى يمكن الانتقال إليها في عمليات ترسيخ النظام السياسيّ. بل وتُشكِّل آليّةً رديفةً للآليّة الديمقراطيّة، فيما تُشكِّل آلية العدالة الانتقاليّة رديفاً لمرحلة الانتقال الديمقراطيّ. ومن أبرز الطروحات التي تناولت أهميّة العدالة ومكوِّناتها طروحات كلٍّ من: رولز، وسِن، وكيملكا.
ولعل مما يعيق الوصول إلى هذه المرحلة، وجود انحرافٍ في الأيديولوجيّات الدينية أو السياسية، يمنع صنّاع القرار داخل الجماعات، من قبول الأخر، نتيجة موقفٍ عقيديٍّ/أيديولوجي، باعتبار وجود الآخر تهديداً هُويتياً، ليس للأفراد فقط، بل للجماعة وأيديولوجيّتها بأسرها. وهم الموسومون دائماً بمتطرّفي اليمين القومي أو الديني، وغالباً ما يهدف هؤلاء المتطرّفون، إلى احتكار المنافع القائمة في المجتمع/الدولة، لصالح جماعتهم، وهي فعليّاً لصالحهم الشخصي، أو لصالح استمرار هيمنتهم على جماعتهم، من خلال المحافظة على وعيٍ زائف، يستعلي ويرفض الآخر، وهو استعلاءٌ ورفضٌ لتقديم مصالح لمنافسيهم المتمثلين في نخب/قادة الجماعات الأخرى، بما يصل بنا إلى الأنانيّة السياسيّة في عمليّة بناء الدولة، ومحاولة احتكار منافعها إثنياً، وبما يتطلّبه ذلك من عداءٍ مع الآخر.
وقد قسَّم جون رولز المجتمع حدِّيّاً إلى جماعتين: الأكثر والأقلّ انتفاعاً. الأمر الذي يظلّ معتمِداً في فهم مردود مبدأ المنفعة المُقيَّدة في أثناء مقارنته بمردود مبدأ الفرق المُقيّد، أي بين مردودهما على الجماعتين في ظلّ تأمين الحدّ الاجتماعيّ الأدنى والمساواة المنصفة في الفرص. وما يُراد تأكيده هنا، يتمثَّل في تخلُّص المجتمع من الأيديولوجيا، بصفتها وعياً زائفاً، وهو ما يتحقَّق عندما يُقرّ المواطنون بالحقائق العامَّة على الأساس الذي اعتمدت عليه الأطراف في انتقاء المبادئ. بمعنى أنّ المواطنين يجدون ما يُسوِّغون به مبادئ العدالة حتّى لو لم يجدوا ما يُسوِّغونها به داخل عقائدهم (الإجماع المتشابك)، فهم يجدون ذلك في "الثقافة العموميّة" والتقاليد الديمقراطيّة، لأنّ وعيهم الأيديولوجيّ الذي تُمثِّله عقائدهم لا يُمكِّنهم من الإجماع إلّا إذا كان بالمعنى غير الزائف. فالوعي الزائف يبدي لغير المتمتِّع بالمعقوليّة والعقلانيّة أنّ سياسة ما تَحقَّق عدالة، في حين تُخفي ظُلماً كبيراً (جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، 269-271).
ونجد مقابلاً لطروحات رولز، لدى الشيخ عبد الله ابن بيه، من خلال منهجه القائم على العمل في ثلاثة اتجاهاتٍ متزامنةٍ ومتكاملة:
- العمل التربوي: من خلال الوعي بمسؤولية رجال الدين ورجال التربية لمعالجة التطرّف والغلوّ الداخلي، وتبنّي مقاربةٍ تصالحيةٍ ضمن أتباعهم، لتجاوز العداوات والكراهيّة بكل أصنافها وأشكالها.
- العمل القانوني: وهو ما يؤكّد الجهود التربوية بنصوصٍ قانونيةٍ ملزِمة، تسمح للأقليّات بممارسة حقوقها دون خشيةٍ أو انتقاص، بناءً على أسسٍ متينة من الحقوق المتبادلة.
- العمل الاجتماعي، سعياً للوصول إلى عقدٍ اجتماعيٍّ للمواطنة يقوم على تحقيق مجموعةٍ من الموازنات قانونيّاً ونفسيّاً ودينياً.
وهو مقاربٌ أيضاً، للآليّتين الرئيستين اللتين حدّدهما نويل كالهون، في عمليّة التحوُّل الديمقراطيّ، وهي حزمةٌ من الأسس لاستخدامها في تقويم سلوك الدولة. مُرتكِزاً على تجارب الموجة الديمقراطيّة الثالثة في أواخر القرن العشرين في أمريكا اللاتينيّة وأوروبّا الشرقيّة وإفريقيا. وهاتين الآليتان هما: الإنصاف القانوني، والمصارحة/البوح بالحقيقة (نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديموقراطية، 22-27).
هنا ننتقل إلى بعد آخر من أبعاد التسامح، وهو ما يمكن أن ينساق في إطار نقد الذات البنّاء، أي إقرار الذات الإثنية، بأنّها: تجاوزت ما هو مسموح قِيَمِيّاً وسياسياً، في سلوكها مع الآخر، وأنّها انتهكت حقوقهم، وأنّها فرضت رؤيتها الخاصّة على الآخر. ويمكن أن نستخدم معياراً واضحاً هنا، في قياس الانتهاك، من خلال قبول وقوع ذاك السلوك الموجّه نحو الآخر، على الذات، ففي حال رفضه على الذات، توجّب الإقرار بانحرافه، وضرورة تصحيحه.
كما يُقدِّم ويل كيملكا، مفهوماً أكثر تخصيصاً يتَّسم بطابعٍ هُوِيّتيّ، ويختصّ بإدارة العدالة على مستوى الجماعات الثقافيّة، وهو مفهوم (العدالة الإثنيّة الثقافيّة Etnocultural Justice)، والتي يرى أنّها "غياب علاقات الاضطهاد والإذلال ما بين مختلف الجماعات الإثنيّة الثقافيّة، بحيث يتحقَّق فيها التكامل ما بين إنصاف شتّى الجماعات الإثنيّة الثقافيّة عن طريق حقوق الأقليّة، والعمل على حماية الحقوق الفرديّة ضمن المجتمع السياسيّ لكلٍّ من الأكثريّة والأقليّة عن طريق حقوق الإنسان التقليديّة (Will Kymlicka, Politics in the Vernacular: Nationalism, Multiculturalism, and Citizenship، 72-78).
لكن من الضروريّ الانتباه، إلى أنّ عملية التسامح المتبادل بين الجماعات المتنازعة/المتصارعة، بحثاً عن عدالةٍ انتقاليّةٍ أو عدالةٍ دائمةٍ مرسّخة، لن يكون دون جبر ضررٍ وقع على طرفٍ منكسر. فالذاكرة الجمعِيّة للمجتمع بأسره أو لجماعةٍ إثنية، ستبقى محتَفِظَةً لفتراتٍ طويلة، بما وقع من ظلمٍ على طرفٍ دون آخر، ونرى شواهد في تاريخنا المعاصر، تؤكِّد أنّ هذه الذاكرة قابلة للحفظ لقرونٍ عديدة، كما أنّها قابلةٌ للتشويه والتحريف، طالما أنّه لم تقم عمليّة تصحيحٍ وجبر ضرر، وإعادة بناء لها.
وقد أخذت الأغلبيّة الساحقة لتجارب العدالة الانتقاليّة، شكل تأسيس "لجان الحقيقة والمصالحة"، حيث تستهدف غالباً تحقيق ثلاث غاياتٍ أوّليّة (النويضي، إشكالية العدالة الانتقالية):
- حماية الحقائق التاريخيّة من التزييف ومعرفة حقيقة الانتهاكات: لماذا حصلت؟ ما هي حدود مسؤوليّة الأطراف الفاعلة (رجال السياسة، أجهزة الأمن، الجيش، القضاء، الإعلام، ...)، وكيف حصلت؟ ومن هم الضحايا؟ وما مصيرهم اليوم؟
- جبر ضرر الضحايا وعائلاتهم: بالاستماع لمظلمتهم، والاعتراف بمعاناتهم، والاعتذار لهم، وتعويضهم وذويهم، وإعادة تأهيلهم، كلّ ذلك تسهيلاً للمصالحة والعفو.
- القيام بإصلاحاتٍ سياسيّةٍ ومؤسَّستيّة: لضمان عدم تكرار الانتهاكات وتأسيس الديمقراطيّة عبر إصلاحٍ دستوريّ، ومن خلال إصلاح القوانين وإصلاح المنظومة الأمنيّة والقضائيّة والإعلاميّة.
جميع النظريّات التي تقدم في هذا الإطار، تسعى إلى استدراك أفضل السبل لتحقيق اندماجٍ اجتماعيٍّ بين كافّة المكوِّنات الثقافيّة للمجتمع، بما يصون الهُوِيّة الجامعة للدولة ويمنع تفتُّتها، باعتبار أنّ الاندماج أحد أهمِّ المُخرَجات المنشودة من العدالة، أي أننا يمكن أن نضيف عنصراً آخر إلى مخرجات التسامح، وخصوصاً أنّ الاندماج، يحقق المعاني المنشودة التي تمّ ذكرها سابقاً.
فالبديل المحتمل عن عمليّات الاندماج الثقافيّ والسياسيّ كأحد مُخرَجات العدالة، سيكون غالباً مُخرَجاً عُنفيّاً بين المكوِّنات المجتمعيّة للدولة، إذ فيما تعمد الأكثريّة الهُوِيّتيّة/السياسية إلى عمليّة هيمنةٍ سياسيّةٍ وثقافيّةٍ على الجماعات الأقلّويّة، فإنّ نخب هذه الأخيرة ستُعزِّز مواقفها المُواجِهَة للأكثريّة، من خلال توظيفٍ أكبر للظلم الواقع عليها، وتحشيدٍ شعبويٍّ لإبراز تمايز الذات عن الآخر، ومن ثمّ الدفع إلى أشكالٍ من العلاقة البينيّة قد تبدأ باحتجاجاتٍ ذات منهجٍ عنفيٍّ محدود، وصولاً إلى محاولة الاستقلال الانفصاليّ الذي سيتمّ توظيف كافّة الإمكانات الداخليّة المتاحة والعلاقات الخارجيّة المصلحيّة المتقاطعة مع ذلك، وحينها فإنّ مستوى العنف والعنف المضادّ قد يصل إلى درجاتٍ عليا من المواجهة بين الطرفين، تمنع وجود أيّ شكلٍ من أشكال التسامح عابر الجماعات.
لكن، هنا لابدّ أن نضبط حدود التسامح المنشود بين الجماعات، في عمليّة بناء العدالة المرسّخة أو الانتقاليّة ذات الطابع السياسي، فغياب حدود الضبط هذا، وخصوصاً في حال وقوع جرائم ضدّ الإنسانيّة أو جرائم حرب، أو انتهاكاتٍ بالغة الحدّة، مع عدم قيام أيّ نوعٍ من أنواع المحاسبة عليها، سيقود إلى إمكانيّة تكراراها من قبل ذات الجاني، أو من قبل جانٍ آخر (من أمن العقوبة أساء الأدب). وهذا ما كنّا نقصده في مقدّمة مقالنا، بالتسامح والعفو عمّا يمكن العفو عنه وعمّا يجوز العفو عنه؛ ضبطاً لسلوكيات الجماعات مستقبلاً، وصوناً للدولة من الانزلاق ثانية إلى مسبّبات النزاع/الصراع.
وختاماً، نؤكّد أنّه يمكن لإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي (يناير 2016)، بمبادئه التسعة عشر، أن يشكل أحد المراجع الأساسية التي يمكن البناء عليها، في إعادة صياغة العلاقات بين-الجماعاتية في الدول العربية مفككة الهوية.
د. عبد القادر نعناع