د. عبد القادر نعناع

أهمية التسامح في الوصول إلى العدالة

د. عبد القادر نعناع • ١٥ نوفمبر ٢٠١٩
تشهد عدّة دولٍ عربيّة، مرحلة تفكّكٍ وانهيار، طالت البنى السياسية والاقتصادية، بل والهُويّتية أيضاً، جعلتها تشهد مرحلة نزاعٍ بين إثنياتها (تحوّل في حالاتٍ منه إلى صراع وجود)، على تحديد هُويّة الدولة بشكلٍ فردي/جماعاتي إقصائي، أو بشكلٍ تفكيكي، يُنذِر بمزيدٍ من الاضطرابات العابرة للجماعات، سواءً أظلّت تلك الجماعات ضمن إطار دولةٍ واحدة، أو دفعت نحو انفكاكٍ دولتيٍّ قهريٍّ غير مُتّفقٍ حوله.

هذه الحالات العربية، هي تكرارٌ لحالات طالما شهدها التاريخ البشري، ولعلّ أوروبا الشرقية وإفريقيا جنوب الصحراء، كانت شواهد قريبةً للمشهد العربي.

وأدى الاندفاع التفكيكي هذا، سواءً الهُويّتي أو الدَولَتي، إلى نزاعاتٍ مسلّحة، راح ضحيّتها عشرات أو مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، لمجرد انتمائهم الهُويّتي أو السياسي لطرفٍ من أطراف النزاع/الصراع.، قبل أن يدرك أصحاب النزاع/الصراع، عدم إمكانية حلّ معضلتهم، إلا بتوافقٍ (على مضض)، على هُويةٍ مشتركة، تَقبَل الآخر، وتتشارك معه في إعادة بناء الدولة المنهارة/المفكّكة، ضمن مسار عدالةٍ انتقالية، استغرق سنواتٍ قبل أن يثمر بشكلٍ حقيقيٍ في كثير من حالات النزاع/الصراع سابقة الذكر.

أي إنّ هذه القوى، ما كان لها أن تعبُر من مرحلة النزاع/الصراع المسلّح، إلى مرحلة إعادة البناء، إلا بعد الإقرار بضرورة التسامح عابر الجماعات، بمعانيه الواسعة، والتي تشمل: قبول الاختلاف مع الآخر، وتجاوز مسبّبات النزاع، والعفو عمّا يمكن العفو عنه وعمّا يجوز العفو عنه (وسنعود لذلك ختاماً)، وإفساح المجال للحوار بين الجَمَاعَتِيّ، والبحث المشترك عن مخرجٍ للأزمة المستعصية، ووضع برنامج عملٍ مشترك، وتحدد أسس هُويّةٍ مشتركة.

فالتسامح كان أساساً للانطلاق في مرحلة البناء، وهنا نستند إلى تعريف التسامح الذي أشار إليه معالي الشيخ عبد الله بن بيه، إلى أنّ التسامح في اللغة العربية هو الجود والكرم والسخاء والمساهلة والسِعَة، وعليه فقد وُصِفت الشريعة بأنها سمحة، أي سهلة ميسّرة. في حين يقابله لدى الغرب معاني احترام حرية الآخر، وطريقة تفكيره وتصرّفاته وآرائه السياسيّة والدينيّة.

فيما يشير حسام درويش، في عدد سابق من هذه المجلة، إلى أنّ مفهوم التسامح يدلّ على قيام طرفٍ بما يتراوح بين القبول الإرادي على مضض، على الرغم من وجود نفورٍ نفسيٍّ تجاه هذا الأمر أو الطرف، أو وجود تقييمٍ أخلاقيٍّ أو معرفيّ، سلبيٍّ له، لدى الطرف الأول، وعلى الرغم من امتلاك الطرف الأول القدرة الفعلية على عدم التسامح مع الطرف الثاني، أو عدم السماح بحدوث هذا الأمر أو بوجوده.

ونضيف على ذلك بعداً آخر للتسامح، يتضمن وجوباً، معنى إحقاق العدالة بين أطراف النزاع/الصراع، حتى يكون التسامح مقبولاً باعتباره عملية تشاركية بينهم، وليس مِنَّةً مؤقّتةً يتفضّل بها طرفٌ قويٌّ مهيمنٌ على طرف ضعيف، في لحظة انتصارٍ/انكسارٍ تاريخي.

فإحقاق العدالة، يعني قبول كلّ طرفٍ بأن يتمتّع نظيره (خصمه في النزاع/الصراع)، بحقوقٍ وواجباتٍ مساويةٍ له -رغم كراهية هذا الأمر للطرف الأول، أو لكليهما-، وبالتالي الإقرار بمبدأ المساواة، على اعتبارهما شريكين، لا خصمين. ففي الخصومة تكون الدولة والسلطة والمجتمع، خاضعة لمبدأ الغلبة والإقصاء، ولا يمكن بالتالي إحقاق عدالةٍ فعليّةٍ بين الجماعات. ونؤكد على أنّ هذا الأمر ليس بالهيّن مطلقاً، في الدول مفكّكة الهُوية، حيث يبقى فعل الاستعلاء واصطفاء الذات مُحدِّداً أساسياً لدى أفراد الجماعة ونخبها، باعتبار هذه الجماعة أعلى شأناً، وأرقى حضارياً، وأقوَم أخلاقياً، وبالتالي فإنّ قبول المساواة، يعني وجود جماعات أخرى تتشارك معهم هذه الحالة الاصطفائية من جهة، وتُشكِّك في الاصطفائيّة ذاتها من جهةٍ أخرى.

وتتجلّى صعوبة هذا الأمر أيضاً، حين تكون الجماعة منتصرةً أو مهيمنةً على مقدرات الدولة (سواء أكانت الجماعة أقليّةً أو أكثريّة، إثنيّةً أو سياسيّة)، إذ لا مبرّر حينها لتقديم تنازلاتٍ للجماعات الأخرى، وفق ما تعتقد هي، أو للتسامح معهم، أو للقبول بمساواة الذات وإياهم. وخصوصاً أنّ الطبيعة البشريّة تميل غالباً إلى استخدام أداة مقارنة الذات بالآخرين، في تحديد موقفها منهم، وهي مقارنة مشروعةٌ وطيّبةٌ في حال كان الهدف منها استدراك مواقع الخلل، والبحث عن آليّات للنهضة الحضارية، في إطار التنافس المشروع. لكن الجماعات والأفراد، لديهم أيضاً، أشكال سلبيّةٌ من تلك المقارنات، غالباً ما تتمّ بشكل شعبوي، ومنها:
  • مقارنة الاستعلاء (وصولاً إلى العنصرية الرافضة للآخر)، القائمة على اعتبار الذات أكثر تحضراً.
  • مقارنة التبرير، وهو شكلٌ أكثر سلبيّة، حيث يُستخدَم هذا الشكل، في تبرير السلبيّات القائمة لدى الجماعة/الأفراد، باعتبارها أمراً طبيعيّاً، مقارنةً بسلبيّات الآخرين الأكثر سوءاً، وهي كذلك تقود بالمحصلة، إلى الشكل السابق (الاستعلاء).
وعليه فإنّ الوصول إلى شكل العدالة المنشود هنا، وخصوصاً في الدول مفكّكة الهوية، نتيجة نزاعات/صراعات أهلية، لا يمكن دون المرور بمرحلة عدالةٍ انتقالية، أو ما يمكن أن نطلق عليه تسامحاً انتقالياً، يقودنا إلى مرحلة التسامح الواسعة المُقَنّنة والمرسّخة اجتماعيّاً وهُويتياً ودستوريّاً.

حيث تُعتَبر العدالة أحد أهمِّ المداخل في عمليّات إدارة الدولة، وخاصّةً في مراحلها الانتقاليّة، سواءً أكان المقصود بها: العدالة لعموم المواطنين، أو العدالة الخاصّة بالجماعات الثقافيّة المتعدِّدة في الدولة (العدالة الإثنيّة). وترتبط العدالة بدورها بعدِّة آليات أساسيّةٍ تُرسِّخ قيامها، كالحرّيّة، وتقرير الحقوق، والمساواة، والمشاركة السياسية، والاندماج، والتي يجب العمل على تأطيرها قانونيّاً ودستوريّاً، حتّى يمكن الانتقال إليها في عمليات ترسيخ النظام السياسيّ. بل وتُشكِّل آليّةً رديفةً للآليّة الديمقراطيّة، فيما تُشكِّل آلية العدالة الانتقاليّة رديفاً لمرحلة الانتقال الديمقراطيّ. ومن أبرز الطروحات التي تناولت أهميّة العدالة ومكوِّناتها طروحات كلٍّ من: رولز، وسِن، وكيملكا.

ولعل مما يعيق الوصول إلى هذه المرحلة، وجود انحرافٍ في الأيديولوجيّات الدينية أو السياسية، يمنع صنّاع القرار داخل الجماعات، من قبول الأخر، نتيجة موقفٍ عقيديٍّ/أيديولوجي، باعتبار وجود الآخر تهديداً هُويتياً، ليس للأفراد فقط، بل للجماعة وأيديولوجيّتها بأسرها. وهم الموسومون دائماً بمتطرّفي اليمين القومي أو الديني، وغالباً ما يهدف هؤلاء المتطرّفون، إلى احتكار المنافع القائمة في المجتمع/الدولة، لصالح جماعتهم، وهي فعليّاً لصالحهم الشخصي، أو لصالح استمرار هيمنتهم على جماعتهم، من خلال المحافظة على وعيٍ زائف، يستعلي ويرفض الآخر، وهو استعلاءٌ ورفضٌ لتقديم مصالح لمنافسيهم المتمثلين في نخب/قادة الجماعات الأخرى، بما يصل بنا إلى الأنانيّة السياسيّة في عمليّة بناء الدولة، ومحاولة احتكار منافعها إثنياً، وبما يتطلّبه ذلك من عداءٍ مع الآخر.

وقد قسَّم جون رولز المجتمع حدِّيّاً إلى جماعتين: الأكثر والأقلّ انتفاعاً. الأمر الذي يظلّ معتمِداً في فهم مردود مبدأ المنفعة المُقيَّدة في أثناء مقارنته بمردود مبدأ الفرق المُقيّد، أي بين مردودهما على الجماعتين في ظلّ تأمين الحدّ الاجتماعيّ الأدنى والمساواة المنصفة في الفرص. وما يُراد تأكيده هنا، يتمثَّل في تخلُّص المجتمع من الأيديولوجيا، بصفتها وعياً زائفاً، وهو ما يتحقَّق عندما يُقرّ المواطنون بالحقائق العامَّة على الأساس الذي اعتمدت عليه الأطراف في انتقاء المبادئ. بمعنى أنّ المواطنين يجدون ما يُسوِّغون به مبادئ العدالة حتّى لو لم يجدوا ما يُسوِّغونها به داخل عقائدهم (الإجماع المتشابك)، فهم يجدون ذلك في "الثقافة العموميّة" والتقاليد الديمقراطيّة، لأنّ وعيهم الأيديولوجيّ الذي تُمثِّله عقائدهم لا يُمكِّنهم من الإجماع إلّا إذا كان بالمعنى غير الزائف. فالوعي الزائف يبدي لغير المتمتِّع بالمعقوليّة والعقلانيّة أنّ سياسة ما تَحقَّق عدالة، في حين تُخفي ظُلماً كبيراً (جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، 269-271). 

ونجد مقابلاً لطروحات رولز، لدى الشيخ عبد الله ابن بيه، من خلال منهجه القائم على العمل في ثلاثة اتجاهاتٍ متزامنةٍ ومتكاملة:
  1. العمل التربوي: من خلال الوعي بمسؤولية رجال الدين ورجال التربية لمعالجة التطرّف والغلوّ الداخلي، وتبنّي مقاربةٍ تصالحيةٍ ضمن أتباعهم، لتجاوز العداوات والكراهيّة بكل أصنافها وأشكالها.
  2. العمل القانوني: وهو ما يؤكّد الجهود التربوية بنصوصٍ قانونيةٍ ملزِمة، تسمح للأقليّات بممارسة حقوقها دون خشيةٍ أو انتقاص، بناءً على أسسٍ متينة من الحقوق المتبادلة.
  3. العمل الاجتماعي، سعياً للوصول إلى عقدٍ اجتماعيٍّ للمواطنة يقوم على تحقيق مجموعةٍ من الموازنات قانونيّاً ونفسيّاً ودينياً.
وهو مقاربٌ أيضاً، للآليّتين الرئيستين اللتين حدّدهما نويل كالهون، في عمليّة التحوُّل الديمقراطيّ، وهي حزمةٌ من الأسس لاستخدامها في تقويم سلوك الدولة. مُرتكِزاً على تجارب الموجة الديمقراطيّة الثالثة في أواخر القرن العشرين في أمريكا اللاتينيّة وأوروبّا الشرقيّة وإفريقيا. وهاتين الآليتان هما: الإنصاف القانوني، والمصارحة/البوح بالحقيقة (نويل كالهون، معضلات العدالة الانتقالية في التحول من دول شمولية إلى دول ديموقراطية، 22-27).

هنا ننتقل إلى بعد آخر من أبعاد التسامح، وهو ما يمكن أن ينساق في إطار نقد الذات البنّاء، أي إقرار الذات الإثنية، بأنّها: تجاوزت ما هو مسموح قِيَمِيّاً وسياسياً، في سلوكها مع الآخر، وأنّها انتهكت حقوقهم، وأنّها فرضت رؤيتها الخاصّة على الآخر. ويمكن أن نستخدم معياراً واضحاً هنا، في قياس الانتهاك، من خلال قبول وقوع ذاك السلوك الموجّه نحو الآخر، على الذات، ففي حال رفضه على الذات، توجّب الإقرار بانحرافه، وضرورة تصحيحه.

كما يُقدِّم ويل كيملكا، مفهوماً أكثر تخصيصاً يتَّسم بطابعٍ هُوِيّتيّ، ويختصّ بإدارة العدالة على مستوى الجماعات الثقافيّة، وهو مفهوم (العدالة الإثنيّة الثقافيّة Etnocultural Justice)، والتي يرى أنّها "غياب علاقات الاضطهاد والإذلال ما بين مختلف الجماعات الإثنيّة الثقافيّة، بحيث يتحقَّق فيها التكامل ما بين إنصاف شتّى الجماعات الإثنيّة الثقافيّة عن طريق حقوق الأقليّة، والعمل على حماية الحقوق الفرديّة ضمن المجتمع السياسيّ لكلٍّ من الأكثريّة والأقليّة عن طريق حقوق الإنسان التقليديّة (Will Kymlicka, Politics in the Vernacular: Nationalism, Multiculturalism, and Citizenship، 72-78).

لكن من الضروريّ الانتباه، إلى أنّ عملية التسامح المتبادل بين الجماعات المتنازعة/المتصارعة، بحثاً عن عدالةٍ انتقاليّةٍ أو عدالةٍ دائمةٍ مرسّخة، لن يكون دون جبر ضررٍ وقع على طرفٍ منكسر. فالذاكرة الجمعِيّة للمجتمع بأسره أو لجماعةٍ إثنية، ستبقى محتَفِظَةً لفتراتٍ طويلة، بما وقع من ظلمٍ على طرفٍ دون آخر، ونرى شواهد في تاريخنا المعاصر، تؤكِّد أنّ هذه الذاكرة قابلة للحفظ لقرونٍ عديدة، كما أنّها قابلةٌ للتشويه والتحريف، طالما أنّه لم تقم عمليّة تصحيحٍ وجبر ضرر، وإعادة بناء لها.

وقد أخذت الأغلبيّة الساحقة لتجارب العدالة الانتقاليّة، شكل تأسيس "لجان الحقيقة والمصالحة"، حيث تستهدف غالباً تحقيق ثلاث غاياتٍ أوّليّة (النويضي، إشكالية العدالة الانتقالية):
  • حماية الحقائق التاريخيّة من التزييف ومعرفة حقيقة الانتهاكات: لماذا حصلت؟ ما هي حدود مسؤوليّة الأطراف الفاعلة (رجال السياسة، أجهزة الأمن، الجيش، القضاء، الإعلام، ...)، وكيف حصلت؟ ومن هم الضحايا؟ وما مصيرهم اليوم؟
  • جبر ضرر الضحايا وعائلاتهم: بالاستماع لمظلمتهم، والاعتراف بمعاناتهم، والاعتذار لهم، وتعويضهم وذويهم، وإعادة تأهيلهم، كلّ ذلك تسهيلاً للمصالحة والعفو.
  • القيام بإصلاحاتٍ سياسيّةٍ ومؤسَّستيّة: لضمان عدم تكرار الانتهاكات وتأسيس الديمقراطيّة عبر إصلاحٍ دستوريّ، ومن خلال إصلاح القوانين وإصلاح المنظومة الأمنيّة والقضائيّة والإعلاميّة.
جميع النظريّات التي تقدم في هذا الإطار، تسعى إلى استدراك أفضل السبل لتحقيق اندماجٍ اجتماعيٍّ بين كافّة المكوِّنات الثقافيّة للمجتمع، بما يصون الهُوِيّة الجامعة للدولة ويمنع تفتُّتها، باعتبار أنّ الاندماج أحد أهمِّ المُخرَجات المنشودة من العدالة، أي أننا يمكن أن نضيف عنصراً آخر إلى مخرجات التسامح، وخصوصاً أنّ الاندماج، يحقق المعاني المنشودة التي تمّ ذكرها سابقاً.

فالبديل المحتمل عن عمليّات الاندماج الثقافيّ والسياسيّ كأحد مُخرَجات العدالة، سيكون غالباً مُخرَجاً عُنفيّاً بين المكوِّنات المجتمعيّة للدولة، إذ فيما تعمد الأكثريّة الهُوِيّتيّة/السياسية إلى عمليّة هيمنةٍ سياسيّةٍ وثقافيّةٍ على الجماعات الأقلّويّة، فإنّ نخب هذه الأخيرة ستُعزِّز مواقفها المُواجِهَة للأكثريّة، من خلال توظيفٍ أكبر للظلم الواقع عليها، وتحشيدٍ شعبويٍّ لإبراز تمايز الذات عن الآخر، ومن ثمّ الدفع إلى أشكالٍ من العلاقة البينيّة قد تبدأ باحتجاجاتٍ ذات منهجٍ عنفيٍّ محدود، وصولاً إلى محاولة الاستقلال الانفصاليّ الذي سيتمّ توظيف كافّة الإمكانات الداخليّة المتاحة والعلاقات الخارجيّة المصلحيّة المتقاطعة مع ذلك، وحينها فإنّ مستوى العنف والعنف المضادّ قد يصل إلى درجاتٍ عليا من المواجهة بين الطرفين، تمنع وجود أيّ شكلٍ من أشكال التسامح عابر الجماعات.

لكن، هنا لابدّ أن نضبط حدود التسامح المنشود بين الجماعات، في عمليّة بناء العدالة المرسّخة أو الانتقاليّة ذات الطابع السياسي، فغياب حدود الضبط هذا، وخصوصاً في حال وقوع جرائم ضدّ الإنسانيّة أو جرائم حرب، أو انتهاكاتٍ بالغة الحدّة، مع عدم قيام أيّ نوعٍ من أنواع المحاسبة عليها، سيقود إلى إمكانيّة تكراراها من قبل ذات الجاني، أو من قبل جانٍ آخر (من أمن العقوبة أساء الأدب). وهذا ما كنّا نقصده في مقدّمة مقالنا، بالتسامح والعفو عمّا يمكن العفو عنه وعمّا يجوز العفو عنه؛ ضبطاً لسلوكيات الجماعات مستقبلاً، وصوناً للدولة من الانزلاق ثانية إلى مسبّبات النزاع/الصراع.

وختاماً، نؤكّد أنّه يمكن لإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي (يناير 2016)، بمبادئه التسعة عشر، أن يشكل أحد المراجع الأساسية التي يمكن البناء عليها، في إعادة صياغة العلاقات بين-الجماعاتية في الدول العربية مفككة الهوية.

د. عبد القادر نعناع
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٣ مارس ٢٠٢٥
رغم بعض الجوانب المهمة في الإعلان الدستوري المؤقت، مثل تجريم دعوات الانفصال أو الاستقواء بالخارج أو تشكيل فصائل مسلحة أو تأييد جرائم النظام البائد. إلا أن هذا الإعلان الدستوري أبعد ما يكون عن بناء نظام ديموقراطي. حيث يركز الإعلان السلطة التنفيذية بيد الرئيس (غير المسؤول أمام أحد)، كما يمنحه تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، فيما يمنح صلاحية اختيار الثلثين للجنة يتم تعيينها من قبل الرئيس، ولا يملك المجلس أية صلاحيات رقابية أو حسابية على السلطة التنفيذية، ما يعطي النظام طابعاً استبدادياً. أي أن الرئيس يملك صلاحيات واسعة تشبه تلك التي في الأنظمة السلطوية، وخصوصاً مع محدودية دور البرلمان، والقيود المفروضة على التشريعات وتعيين الأعضاء، كلها تشير إلى ضعف استقلالية البرلمان مقارنة بالديمقراطيات الحقيقية. وفيما تمتلك السلطة القضائية بعض الاستقلالية، لكن هيمنة الرئيس على تعيين القضاة وتشكيل المحاكم وإدارة قضايا الدولة تظل مؤشراً على وجود تأثير قوي للرئيس في السلطة القضائية. بالنظر إلى هذه العناصر، يُمكن وضع هذا الإعلان الدستوري في نقطة أقرب إلى الأنظمة الاستبدادية، وحيث لا يزال هناك بعض التعددية في السلطة في الجوانب الشكلية، مثل وجود برلمان ومحاكم، لكن هذه الهيئات تظل تحت رقابة شديدة من رئيس الجمهورية، مما يشير إلى وجود سلطوية واضحة مع القليل من التوازن الديمقراطي. وطالما أن الشعب لا ينتخب البرلمان، فليس له رقابة على البرلمان أبداً، وطالما أن البرلمان غير منتخب فهذا يبرر أنه لا يراقب الحكومة ولا يحاسبها (مجرد استجواب)، فلا سلطة له على الحكومة. وبالنتيجة لا مكان للشعب في إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية. الخطوة القادمة بالغة الأهمية أيضاً، هي سن القوانين بناء على هذه الدستور، وهذا السن قد يخلق إشكاليات على مستوى فهم النص الدستوري وتفسيره، وخصوصاً في قضايا العدالة الانتقالية، وإعادة بناء الاقتصاد، وقانون الأحزاب، والمشاركة السياسية، والمساواة في الفرص (هل تعني المساواة في الفرص عدم دستورية الاستئثار البيروقراطي الجاري حالياً)، وهنا نعود إلى فكرة أن المحكمة الدستورية التي عينها الرئيس هي من يقرر أن القوانين التي يقترحها الرئيس أو البرلمان المعين من قبل الرئيس، دستورية أم لا. أما الدعوة لتشكيل لجنة كتابة دستور دائم، فهذه يجب أن تنبع من مؤتمر وطني أكثر شمولاً واختصاصاً بعد إطلاق العملية السياسية، وليس بناء على تعيين أو تشكيل أو تكليف. هذا الإعلان خطوة باتجاه نظام الفرد القائد (الاستبداد)، وابتعاد كبير عن النهج الديموقراطي المنشود. وبالتالي هو إعلان بأن السلطة لن تكون راعية لإطلاق عملية انتقالية، وبالتالي تصبح المهمة مسؤولية النخب والقوى السياسية أن تبدأ في عملية إنشاء قوى وأحزاب وتكتلات سياسية، تطلق مرحلة نضال سياسي جديدة في مواجهة السلطة، بغية إحداث أسس أكثر صلة بالانتقال الديموقراطي، وبغية الاشتغال على مسار تنشئة سياسية مضادة للتنشئة السلطوية الموروثة أو المستجدة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١١ مارس ٢٠٢٥
أستاذ العلاقات الدولية، عبد القادر نعناع، يرى أنه من الطبيعي أن تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى استعادة مكانتها وفعاليتها في العالم العربي، كما أن ذلك يصبّ في صالح الدول العربية. ويقول في حديثه لـ "الترا سوريا": "رغم أن بعض الفتور كان ظاهرًا في الأسابيع الأولى من استلام الشرع بين سوريا ومصر، إلا أن من مصلحة مصر وكل الدول العربية أن تستعيد سوريا مكانتها من جهة، إلى جانب إخراجها من المحور الإيراني وموازنة النفوذ الإقليمي، وحيث إن القضية الفلسطينية تشهد واحدة من أكثر مراحلها خطورة، فإنها تحتاج إلى توافق عربي على آليات المرحلة". ويضيف: "هذا يستوجب الانفتاح على الحكومة السورية بغض النظر عن أية تحفظات لدى بعض الحكومات العربية، وبالنتيجة هو ما يجب أن يكون فعلًا، أي أن تشارك سوريا الجديدة في المحافل الإقليمية والدولية كافة، حتى ترسّخ شرعية التغيير الحاصل". وتعكس دعوة الإدارة السورية الجديدة للقمة رغبة عربية في استقرار سوريا وخروجها من أزمتها الطويلة، وفق ما يؤكد نعناع، لكنه يشير إلى أن هذه الرغبة تترافق بشيء من الترقب العربي والدولي لسلوكيات الحكومة الجديدة، وإن كانت دول مثل قطر والسعودية وتركيا أكثر انفتاحًا، إلا أن الجميع يراقب المشهد السوري ومآلاته. ويرى نعناع أن هناك توافقًا عربيًا حول ضرورة الاستقرار في سوريا وإنهاء الحرب والأزمات، لكن هذا التوافق قد يتردد في مزيد من الانفتاح على الحكومة الحالية مؤقتًا، بانتظار المزيد من السلوكيات المطمئنة. وتشكل عودة سوريا إلى الحاضنة العربية مكسبًا استراتيجيًا لها على عدة أصعدة، وفق ما يوضح أستاذ العلاقات الدولية، عبد القادر نعناع. فمن الناحية الدبلوماسية: "تسهم المشاركة الفعّالة في المنظمات الإقليمية والدولية بتعزيز سياسات سوريا الخارجية وترسيخ شرعية المرحلة الانتقالية، إضافة إلى أن قبول سوريا في محيطها العربي يعزز من مكانتها على الساحة الدولية". واقتصاديًا يمكن أن تحقق فوائد ملموسة، "مثل تعزيز التعاون التجاري، وجذب الاستثمارات المشتركة، والمساهمة في مرحلة إعادة الإعمار والعدالة الانتقالية". ويعدّ بناء كتلة إقليمية ودولية داعمة أمرًا ضروريًا لمواجهة التهديدات الأمنية الإيرانية والميليشياوية والإسرائيلية التي تتعرض لها سوريا، بحسب نعناع، خاصة وأن هذه التهديدات تؤثر في مصالح العديد من الدول العربية. بموازاة ذلك، تمثّل عودة سوريا إلى المنظومة العربية تحوّلًا استراتيجيًا يعزّز من الأمن القومي العربي. ويلفت عبد القادر نعناع إلى أنه "في السنوات الماضية، كانت سوريا منطلقًا للتهديدات الأمنية عبر الميليشيات الإيرانية وتهريب المخدرات ونشاط الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، لذا شهدنا انفتاحًا واضحًا من دول مثل السعودية والأردن ولبنان وقطر، بهدف القضاء على هذه المخاطر". ويؤكد أن عودة سوريا تُعدّ خطوة لتوسيع آفاق التعاون العربي، سواء عبر تعزيز التنسيق الأمني والاستخباراتي، أو من خلال دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، ما يسهم في موازنة القوى الإقليمية ضد التأثيرات الخارجية السلبية. يحذر نعناع من أن الطرفين الإيراني والإسرائيلي، يجتمعان اليوم على تغذية الفوضى في المشرق العربي عمومًا وسوريا خصوصًا، في محاولة من كل منهما لتوسيع مناطق نفوذه. ويضيف: "تحاول طهران إحياء مشروعها الذي تعرّض لانكسار بعد أحداث 7 من أكتوبر واغتيال الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، وهروب بشار الأسد، عبر وكلاء جدد، لكن بذات الآليات السابقة، وهي آليات زرع الفوضى". مداخلة حول: "عودة سوريا إلى الجامعة العربية.. مكاسب استراتيجية مهدَّدة"، ألترا سوريا، 2025/3/11، مع Ninar Khalifa على الرابط التالي: https://ultrasyria.ultrasawt.com/%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%83%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%87%D8%AF%D9%8E%D9%91%D8%AF%D8%A9/%D9%86%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%B1-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٤ فبراير ٢٠٢٥
لم تكن تصريحات نتنياهو الأخيرة خارج سياق ما يحصل في الشرق الأوسط منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أو في سياق انفجار النزاعات المسلحة في المنطقة. لكن اغتيال قيادات حماس وحزب الله، ثم سقوط نظام الأسد، كان بمثابة سقوط الشرق الأوسط الإيراني، وبالتالي هذا أحدث فراغاً استراتيجياً على مستوى المنطقة، تسارع إسرائيل لتعبئته منذ 8 كانون الأول/ديسمبر، مانعة ظهور قوى إقليمية منافسة جديدة، وهذا ما أسميناه حينها ببداية تبلور شرق أوسط إسرائيلي (تهيمن عليه إسرائيل). يتفق هذا الشكل من الشرق الأوسط، مع الطبيعة العدوانية المتطرفة لنتنياهو ومشروعه التوسعي، ومع وصول أقوى داعميه (ترامب) إلى البيت الأبيض، وفراغٍ متّسع، وضعف دول الجوار، وغياب القوى الموازنة، وانهيار الدولتين السورية واللبنانية. جميع هذه المتغيرات، عززت المطامع الإسرائيلية المستمرة بالتوسع من جديد، وخصوصاً أن إسرائيل لا تؤمن بالحدود الثابتة، وهذا جزء أصيل في مشروعها منذ ما قبل عام 1948. أي إن هناك تهديدات جدية بتوسع المشروع الإسرائيلي أكثر فأكثر في سورية، بما يتجاوز المنطقة العازلة، وربما تكون تهديدات نتنياهو، مؤشراً على مرحلة قادمة لا تمتلك فيها سورية القدرة على المواجهة إطلاقاً (أسوء من مرحلة النكسة عام 1967، حين لم تمتلك سورية مقومات المواجهة)، ونظن أن نتنياهو جاد في استهداف القوات السورية التي قد تشكل عائقاً أمام مطامعه. وحيث أن نتنياهو اعتبر أن القوات السورية هي (هيئة تحرير الشام)، فهو بشكل أو بآخر لم يعترف بعد بالحكومة السورية الجديدة، وما يزال ينظر إلى المجريات باعتبار أن جماعة إسلامية سيطرت على الحكم، محاولاً خلق متغيرات أمنية جديدة عبر استغلال ما تراه إسرائيل "فوضى" سورية. وهناك مساران محتملان للمشهد السوري، إما رغبة نتنياهو الشخصية في توسيع حدود إسرائيل، بشكل حزام أمني أو بشكل دائم، أو أن ما يجري هو نوع من ممارسة الضغوط القصوى بهدف دفع دمشق لمفاوضات سلام مباشرة. بالنتيجة، هذا يتطلب من الحكومة السورية جملة خطوات، تبدأ دبلوماسياً في العواصم الإقليمية والدولية، وتمر عسكرياً، عبر استكمال تحويل الفصائل إلى جيش سوري وطني، وربما عبر اتفاقيات دفاعية وتسليحية وتدريبية هي بأمس الحاجة لها، في ظل توحش إسرائيلي شرق أوسطي، وتنتهي سياسياً على المستوى الداخلي من خلال حكومة تتشارك فيها كل القوى السورية مسؤولية الدفاع عن الدولة. وربما قد يكون الوقت مناسباً لإطلاق مسار مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع تل أبيب. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: