يعاني الشرق الأوسط بأسره من اضطرابات مستمرة، تدفع إلى البحث من جديد في مفهوم (إعادة البناء)، وهو المفهوم المخصّص للدول المُدمَّرة نتيجة الحروب والكوارث، إلى طرح مفهوم آخر حول (إعادة البناء)، يخصّ العلاقات الإقليمية وبِنيَة التفاعلات بين الدول، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، التي أدّى تداخل إثنياتها العرقية والمذهبية، إلى تداخلٍ مصلحي، حوّل المنطقة بأسرها إلى واحدة من أبرز خطوط الصدع والنزاع الإقليمي والدولي، بالاستفادة من معطياتها الداخلية بداية.
أبرز محدّدات التدخل الإقليمي، وهنا الحديث عن التدخلين الإيراني والتركي، هو الفرضية التي وضعتها الأطراف الخارجية، وحاولت تكريسها، من خلال افتراض أنّ منطقة الشرق الأوسط "العربي تحديداً"، تشهد فراغاً استراتيجياً (لا قوة تضبطه من داخله)، وتَعزَّز هذا الطرح بعد نهاية الحرب الباردة، ليرى أنّ المنطقة أصبحت متاحة لتحصيل منافع منها، على حساب دولها وشعوبها.
وحيث أنّ هذه الفرضية لم تكن صحيحة، لناحيتين اثنتين، الأولى وجود مصالح دولية تتعلق بالقطبيين، ثم بالولايات المتحدة منفردة، فرضت ذاتها على التفاعلات الإقليمية، حيث أصبحت تفاعلات المنطقة في بعض منها انعكاساً للبيئة الدولية. أما الآخر فهو وجود مراكز قوى أربعة كانت تدير العلاقات الإقليمية العربية (السعودية، مصر، العراق، سورية)، دون أن يعني ذلك غياب أدوار القوى العربية الأخرى.
وحيث لم تكن فرضية الفراغ الاستراتيجي حقيقية في الشرق الأوسط، التي اشتغل عليها الخارج الفارسي أولاً، واقتنصها الخارج التركي لاحقاً، لذا عملت القوى الخارجية (الإقليمية)، على تحقيق ما يمكن من هذا الفراغ، يتيح لها مد نفوذها وبناء جملة مصالح (غير شرعية).
وهنا رغم الاختلاف الشكلي بين الطرفين الإيراني والتركي، في هذه التوجهات، بحيث فضّل الإيراني الانطلاق من القوة الصلبة مباشرة تحت شعارات دينية، مع حرب الخليج الأولى، فإن التركي حاول بناء علاقاته بشكل متأخر مع العالم العربي عبر أدوات اقتصادية وثقافية تحت شعار "صفر مشاكل". إلا أن هذا الاختلاف لم يمنع كلا الطرفين، والذين هما على تنسيق مستمر لم ينقطع طيلة العقود الماضية، أن يكون لهما ملامح تخريب واحدة:
- الحرص على وجود دول جوار عربية مفككة، غير قادرة على النهوض بذاتها، ومضطرة إلى الاعتماد على الجوار الإقليمي، بحيث تضمن كل منهما، مد نفوذهما في العراق وسورية، لكلٍّ نصيب من هاتين الدولتين، والحفاظ على مستوى مضبوط من الفوضى داخلها.
- وحيث أن التوجّه السابق، عارٍ بمفرده عن أية شرعية تدخلية، لذا تم استخدام شرعيات مؤقتة، تعيد فرز سكان هذه الدول، وفق الانتماء المذهبي والعرقي، وأصبح التدخل تحت شعارات دينية وقومية وتحررية، تغري السكان الذي يشعرون بالتهديد الهوياتي (والأمني أيضاً)، حتى يضطروا إلى اختيار حامٍ إقليمي، في ظل عجز نظامي العراق وسورية عن ذلك.
- كلا الدولتين، وضعتا جملة أدوات محلية لتحقيق هذه التوجهات، سواء عبر ميليشيات مسلحة، هي في حقيقتها ميليشيات إرهابية، تهدف إلى تصعيد مستوى التعصب الإثني، وتساهم في زرع حالة القلق والخوف والإحباط الدائم بين الجمهور، وإقناعهم بضرورة التجائهم إلى القوى الخارجية. أو في شكل آخر، كانت فيه الأداة/الوكيل، عبارة عن دول صغيرة تبحث عن مصالح لها في المنطقة.
هنا الحديث عن قطر تحديداً (والتي أصبحت نموذجاً للدول متناهية الصغر التي تبحث عن أدوار إقليمي)، حيث باتت دولة وظيفية (خادم/وكيل) لدى كلا القوتين الإقليميتين معاً (وكيل/عميل مزدوج)، نتيجة عدة أسباب، نستذكر منها:
- الوهم السياسي الذي اختلقه قادة قطر بأنهم مستهدفون من جوارهم العربي، وهو وهم تم تكريسه لعقود، بغية تبرير العلاقات الوظيفية المشبوهة لقادة قطر.
- التضخم المالي الذي عايشته قطر منذ مطلع هذا القرن، والذي أغراها بالتحول إلى أداة تدخلية، تخريبية أو وظيفية، تساهم في بناء محيط عربي مفكك حولها، يُحقّق هدف النقطة السابقة.
بالمجمل، أدى التدخل الإقليمي (الإيراني والتركي)، إلى تخريب البنيات المجتمعية والسياسية، والمساهمة في خلق فوضى دائمة، ودفع عموم الشرق الأوسط العربي إلى أزمات متتالية.
بل وخلق تشوّهاً بات بنيوياً في توجّهات التيارات الفكرية العربية، حيث انحاز القوميون العرب واليساريون (وهما تياران علمانيان) إلى نظرية الولي الفقيه الطائفية المتأزمة تاريخياً تجاه العرب. فيما تأرجح تيار الإسلام السياسي بين إيران الطائفية المتطرفة، وتركيا ذات النظام العلماني المتطرف (وإن تم تلطيفه مؤخراً)، بل إن الانحياز كان لشخص أردوغان تحديداً ولإرث سياسي-ديني انتهى منذ قرن، رغم أن العرب هم أصحاب هذا الإرث في الأساس وليس الأتراك.
أي أن التدخلين لم يقتصر علمها على البيئات المجتمعية والسلطوية والميليشياوية، بل اندفعا إلى داخل البنى الفكرية الحاضنة للثقافة العربية، والعمل على تهديمها، وإعادة توجيهها (وليس بنائها) بما يتفق مع مصالح الدولتين هاتين، وكان دوماً التمويل القطري جاهزاً لاستقطاب هذه النخب وإعادة توجيهها، سواء على شكل تمويل مباشر، أو عبر توفير منافذ إعلامية وفكرية، أو من خلال السطو على القضايا العربية واستخدامها أداة جذب.
إن عملية إعادة بناء الشرق الأوسط (العربي)، بعلاقاته الإقليمية المقصودة، لا يمكن لها أن تتم إلا وفق جملة شروط، نضع هنا أساسات لها، يتم البناء عليها مع كل تقدم:
- بداية، لابد أن نقر أننا اليوم بحاجة إلى كتلة عربية، سبق وأن تم المطالبة بها طيلة الفترة الماضية، تحت مسمى الكتلة التاريخية، تكون عماد العملية بأسرها، تستند إلى الدول العربية الفاعلة والمستقرة.
- لا يمكن لهذه الكتلة العمل على تصحيح مسارات الهوية والدولة العربية، دون اشتغال نخبوي في إطار هذه الكتلة، والعمل على تخليص الفكر العربي (بكافة تياراته) من حالة التبعية للخارج أو للتمويل المشبوه.
- كما أننا بأمس الحاجة إلى استدراك نقاط الخلل البنيوية التي سمحت لهذه القوى باستخدامها للتدخل في دولنا، والإقرار بها، والعمل على تصحيحها، وفي مقدمتها حقوق المواطن وإشكاليات الهوية.
- محاصرة الأطراف/الأدوات التي تستخدمها هذه القوى داخل دولنا، سياسياً وقانونياً، والعمل على استئصالها.
ختاماً، إن تعزيز العلاقات العربية-العربية، وبناء موقف متقارب من التدخلات الإقليمية، يبقى هو أساس أية مواجهة مع القوى الخارجية، سواء أكان هذا التعزيز سياسياً أو حتى ثقافياً أو رياضياً، ويخلق بيئة عربية أكثر اتساقاً مع ذاتها. وهو واحد من أكثر ما تخشاه إيران وتركيا، وتعمل على تخريب العلاقات العربية البينية إعلامياً وسياسياً بكل ما استطاعت، لمنع النهوض به.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والنشر