د. عبد القادر نعناع

سقوط لندن: الحياة عقب الخروج من الاتحاد

د. عبد القادر نعناع • ٢٩ يونيو ٢٠١٦
الكاتب: آر. دانييل كيلمين
ترجمة: عبد القادر نعناع


في حدث تاريخي لإيذاء الذات، اختار الناخبون البريطانيون مغادرة الاتحاد الأوروبي، ضمن ما عُرِف اختصاراً بمصطلح Brexit، وهو ما سيُلحِق أضراراً بالغة باقتصاد المملكة المتحدة ومصالحها الاستراتيجية، ويُشكِّل ضربة قوية لمشروع التكامل الأوروبي. سينجو الاتحاد الأوروبي من ذلك، لكنه لن يعود كما كان سابقاً، فيما هلّل قادة الأحزاب اليمنية المتطرفة في أوروبا لنتيجة الاستفتاء، وكذا فعل دونالد ترامب، وتسلّل الخوف لحلفاء المملكة المتحدة، فيما تراجعت الأسواق المالية في البلاد وفي مختلف أنحاء العالم.

وباتت كثير من الأمور غير واضحة، بانتظار المفاوضات حول شروط مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد، غير أنّ هناك أمراً واحداً واضحاً بالفعل، أنّ الحملة الإعلانية للخروج من الاتحاد، والتي قامت على فكرة أنّ الاتحاد الأوروبي قد سلب المملكة المتحدة سيادتها، هي حملة زائفة، إذ أظهرت نتائج الاستفتاء أنّ البلد كان يتمتع بالسيادة طيلة الفترة السابقة، وأنّه كان حراً في اتخاذ قرارات كارثية.


الحملة المسمومة
ويمثِّل انتصار الخروج تتويجاً للجدالات المسمومة، رغم أنّ حملة البقاء ضمن الاتحاد كانت مسؤولة عن بعض الانحرافات من تلقاء نفسها –كالادعاء بأنّ الخروج سيكلف الأسر البريطانية 4300 جنيه إسترليني (5000 دولار) في كل عام، ويجعلها أشد فقراً-، فيما استندت حملة الخروج على أكاذيب ووعود فارغة، وزعم أنصارها أنّ مهاجري الاتحاد الأوروبي هم الملامون عن الضغوط التي تعرّضت لها الخدمات العامة في بريطانيا، في حين أنّهم كانوا سبباً بمساهمات صافية لوزارة المالية، بلغت قيمتها 20 مليار جنيه إسترليني (أكثر من 27 مليار دولار) خلال الفترة 2000-2011. وقد غذّت المغادرة ما يعرف بـ الرهاب من الأجانب xenophobia، في إشارة إلى أنّ الاتحاد الأوروبي كان قد فتح المملكة المتحدة أمام طوفان المهاجرين، وأنّه سيسمح قريباً بتدفق ملايين المهاجرين الأتراك إلى بريطانيا. وهذا لم يكن دقيقاً، ففي الواقع، كان للندن سيطرة كاملة على عدد اللاجئين الذين تمّ قبولهم في المملكة المتحدة، فيما تركيا ليست مستعدة بعد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي –كما روّج أنصار حملة المغادرة-، عدا عن أنّه كان لبريطانيا حقّ الاعتراض على انضمامها.

وقد استند قادة معسكر المغادرة على تحفيز النزعة القومية بشكل مستمر، من خلال مقارنة الاتحاد الأوروبي بألمانيا النازية، حيث شهدت بريطانيا حملة موازية للاستفتاء، أطلقها زعيم حزب الاستقلال UKIP ناجيل فيريج Nigel Farage، عبر ملصقه "نقطة الانهيار"، والتي تشبه إلى حد كبير البروبوغاندا النازية من خلال تصويرها عموداً من اللاجئين.

في المقابل، كانت حملة البقاء ضمن الاتحاد حملة باهتة، رغم حديث رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون David Cameron بحماس عن استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، غير أنّه ورفاقه المحافظين المؤيدين للبقاء ضمن الاتحاد يفتقرون إلى المصداقية، بعد سنوات من الضعف عقب ضربات بروكسل. فيما أعلن زعيم حزب العمال جيرمي كوربين Jeremy Corbyn، والمتشكِّك من الاتحاد الأوربي منذ فترة طويلة، أنّه يرى أن فرص البقاء تتمثل في 7 من أصل 10، فيما كشفت استطلاعات الرأي السابقة للتصويت على أنّ ما يقارب نصف مؤيدي حزب العمال غير متأكدين من موقف حزبهم من الاستفتاء.


بضاعة الاتحاد الأوروبي
خسر معسكر البقاء ضمن الاتحاد، رغم تمتّعه بدعم من: النقابات العمالية، وكبار رجال الأعمال، والجامعات والأطباء، وحكومات جميع حلفاء المملكة المتحدة، ومشاهير المجتمع من ديفيد بيكهام David Beckham إلى جيه كيه رولينج J.K. Rowling، وقيادة كل حزب باستثناء حزب الاستقلال. وقد حذّر بنك إنجلترا وصندوق النقد الدولي وغالبية الاقتصاديين من أنّ الخروج من الاتحاد سيُلحِق أضراراً شديدة بالاستثمار والنمو وفرص العمل في بريطانيا، ولم يهتم غالبية المصوتين لذلك. ويبدو ذلك من تصريح مؤيد الخروج ميشيل جوف Michael Gove، حين قال: "أعتقد أنّ الناس في هذا البلد يمتلكون ما يكفي من الخبراء".

فيما كان معسكر المغادرة مدعوماً بحركة اجتماعية مناهضة للنخب، رغم أنّ الحملة نفسها يقودها نخب من حزب المحافظين، من أمثال محافظ لندن السابق بوريس جونسن Boris Johnson ووزير العدل جوف. كما أنّ المزاج العام المناهض للمأسسة الأوروبية لم يكن موجَّهاً للناخبين الشباب، فالغالبية العظمى من الناخبين دون سن الخمسين قد صوّتت للبقاء ضمن الاتحاد، في حين أنّ من هم فوق سن الخمسين هم من صوتوا لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد. وهو ما دفع لشعور كثير من الناخبين الشباب بالإحباط، وبأنّ حنين كبار السن للماضي قد سلبهم مستقبلهم الأوروبي.

وأكثر من أي شيء آخر، كان التصويت للمغادرة تصويتاً موجّهاً ضد الهجرة، حيث كشفت الأيام الأخيرة من الحملة وبشكل صارخ أكثر من أي وقت مضى، أنّ المعارضة المركزية للهجرة كانت عماد حملة المغادرة. وأظهر استطلاع أولي أنّ ما يقارب ثلاثة أرباع المصوتين يرون أنّ قضية الهجرة هي أهم قضية تواجه بريطانيا، وأنّهم يفضلون الخروج من الاتحاد بسببها، في حين أنّ من يرون أن القضايا الاقتصادية هي الشاغل الرئيس قد دعموا البقاء ضمن الاتحاد.

في اليوم التالي من التصويت، استيقظ البريطانيون –الذين لم يحصلوا على أي قسط من النوم- على مشهد إعلان كاميرون بأنّه سيتنحى عن منصب رئيس الوزراء في توقيت مؤتمر حزب المحافظين في تشرين الأول/أكتوبر القادم، رغم أنّ كاميرون كان قد وعد أصلاً بالبقاء بغض النظر عن النتيجة. وسواء حلّ بوريس جونسون Boris Johnson مكانه أم لا، فمن الواضح أنّ القيادة الجديدة ستكون من ضمن جناح الخروج من الاتحاد في حزب المحافظين. وعليه يكون كامرون قد خسر مقامرة حياته، بعد أن دعا إلى الاستفتاء على أمل تهميش حزب الاستقلال والجناح المعارض للاتحاد الأوروبي ضمن حزبه، قائلاً إنّه سينهي مراسم تسليمهم السلطة في نهاية المطاف. في حين أنّ حزب العمال في حالة اضطراب كذلك، حيث يواجه كوربين Corbyn تحدياً على زعامة الحزب من المقاعد الخلفية للحزب.

غير أنّ الانقسامات داخل حزبي المحافظين والعمال هي أضعف مخاوف المملكة المتحدة حالياً، مع هبوط الجنيه الإسترليني إلى أدنى قيمة له منذ عقود، وتهاوي أسواق المال في جميع أنحاء العالم، وتخطيط مؤسسة ستنادرد آند بورز إلى تخفيض تصنيف المملكة المتحدة وتجريدها من وضع AAA، عدا عن أنّ العواقب الاقتصادية على المدى القصير الناجمة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي باتت واضحة بالفعل، في حين تبقى العواقب الاقتصادية والسياسية على المدى الطويل أكثر غموضاً، ويحتمل أن تكون مثار القلق أكثر من سواها.

كما استيقظ الناخبون على مملكة مفككة: إذ كشفت خريطة الاستفتاء انقساماً حاداً مع تصويت اسكتلندا وإيرلندا الشمالية ولندن لصالح البقاء في الاتحاد بأغلبية ساحقة، في حين صوت باقي إنجلترا لصالح المغادرة. وأعلن القادة الاسكتلنديون مباشرة بأنّه لا ينبغي انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبي وفقاً لتصويت الناخبين البريطانيين ضدّ إرادتهم، داعين إلى استفتاء آخر على استقلال اسكتلندا. وفي شمال إيرلندا أيضاً، دعا قادة حزب الشين فين للتصويت على مغادرة المملكة المتحدة وللدخول في اتحاد مع جمهورية إيرلندا.

وحيث بدأت المملكة المتحدة بالشعور بالمصاعب الاقتصادية لخروجها من الاتحاد الأوروبي، والتفكير الجدي بتفكك محتمل لها، فمن الممكن أن يبدأ بزوغ مشهد لمؤيدي الخروج، يوحي بأنّ حملة الخروج قد باعتهم بضاعة زائفة. حتى قبل تناول وجبة الإفطار في الصباح التالي للتصويت، أعلن فريج Farage أنه ارتكب خطأً حين صرح بأنه من الممكن توفير مبلغ 450 مليون جنيه إسترليني على المملكة لمتحدة لصالح دائرة الصحة الوطنية عوضاً عن دفعها لخزانة الاتحاد الأوروبي (فقد هذا الرقم مصداقيته على نطاق واسع). وأوضح عضو حملة الخروج وعضو البرلمان الأوروبي دانييل هنان Daniel Hannan للناخبين، بأنّ الخروج من الاتحاد الأوروبي قد لا يعني نهاية الهجرة الأوروبية إلى بريطانيا، وعوضاً عن ذلك، فإنّ الحكومة ستمتلك السيطرة من الآن على كل من يأتي، ولن يتمتع المهاجرون بحقوق مواطني الاتحاد الأوروبي. في نهاية المطاف، فإنّ مصوتي الخروج عبّروا عن غضبهم على انعدام الأمن الاقتصادي، وانخفاض مستوى المعيشة، وستكشِف التخفيضات الأخيرة في الخدمات العامة أنّ التغيرات البنيوية في الاقتصاد وفي سياسات حكومة المحافظين –وليس الاتحاد الأوروبي أو المهاجرين- كانت جذور تلك المشاكل.


في مأزق؟
من الناحية القانونية، فإنّ نتيجة الاستفتاء غير ملزمة للحكومة، لكن من الناحية السياسية، سيكون من المستحيل عملياً تجاهل نتيجة الاستفتاء من قبل الإدارة الجديدة التي ستحلّ محلّ كاميرون. وبعبارة أخرى، فإنّ المملكة المتحدة ستحدِّد قريباً إجراءات مغادرة الاتحاد الأوروبي.

وقد وضعت معاهدات الاتحاد الأوروبي إجراءات واضحة /المادة 50/ للدول التي ترغب بمغادرة الاتحاد، ووفقاً لها، فإنّ على المملكة المتحدة إبلاغ المجلس الأوروبي عن نيتها مغادرة الاتحاد، وهو ما سيُطلق عملية تفاوض حول ذلك تستمر لمدة عامين أو أكثر، في حال وافقت جميع الدول الأعضاء على تحديد شروط الانسحاب. وقد أعلن كاميرون بعد الاستفتاء مباشرة بدء إجراءات /المادة 50/، غير أنّه في إعلان استقالته، أعلن أنّ تنفيذ /المادة 50/ سيبدأ مع خليفته في الخريف المقبل. في حين يأمل نشطاء حملة الخروج بتجنب تلك الإجراءات (ومنها تجنب مصادقة البرلمان الأوروبي على أية صفقة قد تعقد)، والتفاوض بشكل غير رسمي مع الاتحاد الأوروبي. غير أنّ زعماء الاتحاد الأوروبي اتخذوا موقفهم بشكل قاطع: على المملكة المتحدة أن تتّبع إجراءات /المادة 50/، وعليها أن تبدأ ذلك في أقرب وقت ممكن.

لا يستطيع أحد أن يتنبأ بنتائج تلك المفاوضات، عدا عن أنّ حملة المغادرة كانت غامضة بشأن ذلك، غير أنّ هناك خيارات محدودة حولها، وذلك بمعالجة كل إشكالية تعترض طريقها. فأولاً: إن كانت المملكة المتحدة ترغب بالاحتفاظ بوصول كامل إلى كل السوق الأوروبية الواحدة، فإنّ عليها اتباع الخيار النرويجي وأن تختار التعامل مع المنطقة الاقتصادية الأوروبية EEA، وهو ترتيب موجود يربط بعض دول الجوار بالسوق الأوروبية الواحدة. وهناك طريقة أخرى، حيث يمكن للمملكة المتحدة اتباع النمط السويسري من خلال إنشاء اتفاق ثنائي مع الاتحاد الأوروبي على غرار ترتيبات المنطقة الاقتصادية الأوروبية.

ولكن في هذه النماذج، فإنّ على المملكة المتحدة حتى تحصل على حرية الولوج إلى السوق الأوروبية، أن تسمح بحرية انتقال العمالة، والمساهمة في ميزانية الاتحاد الأوروبي، واتباع لوائح التنظيم الأوروبية، وهي أمور وعد أنصار حملة المغادرة بإنهائها عقب الخروج من الاتحاد. وباختصار، فإنّ المملكة المتحدة ستظل خاضعة لقواعد السوق الواحدة، ولكنها ستفقد أي دور في صياغة محدداتها. في المقابل، إن اختارت المملكة المتحدة مغادرة السوق الأوروبية نهائياً، فإنّه بإمكانها اتباع نمط التجارة مع الاتحاد الأوروبي كأي بلد آخر عضو في منظمة التجارة العالمية (خيار منظمة التجارة العالمة WTO). لكن في هذا الخيار، ستواجه المملكة المتحدة رسوماً جمركية وحواجز عديدة غير جمركية على التجارة مع الاتحاد الأوروبي، وبالنظر إلى أن 44% من الصادرات البريطانية تذهب إلى السوق الأوروبية، فإنّ مثل هذه النتيجة ستُلحِق أضراراً كبيرة بالاقتصاد البريطاني.

فيما سيواجه الاتحاد الأوروبي ضغوطاً متناقضة في عملية التفاوض مع المملكة المتحدة. فمن ناحية، ونظراً لحجم وأهمية الاقتصاد البريطاني، سيرغب الاتحاد الأوروبي بالاحتفاظ بعلاقات تجارية حيوية، ومن شأن ركود عميق داخل بريطانيا معزولة اقتصادياً أن يصيب القارة الأوروبية كذلك. ومن ناحية أخرى، يحتاج الاتحاد الأوروبي لصياغة صفقة قاسية مع بريطانيا؛ لإحباط أي تطلع لأعضاء آخرين للانسحاب من الاتحاد، وعليه أن يرسل إشارة قوية بأنّ للخروج عواقب مكلفة، وذلك كما عبر عنه جان كلود يونكر Jean-Claude Juncker، عشية الاستفتاء: "خارجاً أي خارجاً".


عقب الخروج من الاتحاد الأوروبي
تبقى عواقب الخروج البريطاني أعظم من المشاكل الأخرى التي تقلق الاتحاد الأوروبي: مشاكل اقتصادية ونقدية، اللاجئين، التراجع الديمقراطي في الشرق. حيث انخفض دعم الاتحاد الأوروبي إلى أدنى مستوياته، وهلّل قادة اليمين المتطرف لانتصار الخروج من الاتحاد، من ماريين لوبان Marine Le Pen في فرنسا إلى جيرت فيلدرز Geert Wilders في هولندا، داعين إلى استفتاء خاص بهم كذلك، ورغم المخاوف المتصاعدة من احتمال تفكك مفهوم الاتحاد الأوروبي، إلا أنّه من المرجّح أن يظلّ متماسكاً.

وسيُشكِّل الخروج البريطاني ضربة كبرى للهيبة الدولية التي حظي بها الاتحاد وزعزعة للثقة بما تبقى من المشروع الأوروبي، وقد يستفيد قادة الاتحاد الأوروبي من ضغط الشعبويين ومن الدروس المستخلصة من خروج بريطانيا، عن طريق وضع مزيد من القيود على الوصول إلى المنافع الاجتماعية أمام المهاجرين في الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع، فإنّ هناك دعماً متزايداً لمثل هذه الإجراءات من مختلف الأطياف السياسية في ألمانيا. وإن كان الاتحاد الأوروبي يتطلّع لاستعادة مكانته، فعلى قادته أيضاً السيطرة على أزمة اللاجئين، والابتعاد عن الترويج لفكرة التقشف، والتي كانت بمثابة تدمير ذاتي للاتحاد ولم تحظَ بدعم شعبي في معظم أنحاء أوروبا. وفي نهاية المطاف، فليس من المرجّح أن تغادر دولة أخرى الاتحاد، فبالنسبة لأولئك الذين هم أعضاء في منطقة اليورو، فإنّ الخروج منها سيكون مكلفاً للغاية، فيما يعتمد الأعضاء الجدد في أوروبا الشرقية على تمويل الاتحاد الأوروبي بشكل كبير، ما يجعلها تفكر ملياً قبل الخروج من الاتحاد. ويبقى احتمال الخروج قابلاً للتصور في حالتي السويد والدنمارك فقط، إلا أنّه يبقى غير مرجح، حيث ما زالت الأغلبية الكبرى في البلدين تعتقد أنهم بحال أفضل داخل الاتحاد من خارجه.

علاوة على كل ما تقدّم، لن يتفكّك الاتحاد الأوروبي بل سيستمر رغم كل المشاكل الحالية، وكما غرد بيتر ألتماير Peter Altmaier كبير موظفي طاقم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل: "إنّه أفضل ما حدث لنا خلال أكثر من 200 عام". ففي حال لم يقم الاتحاد الأوروبي، فإنّ القادة الأوروبيين كانوا سيسعون لإيجاد شيء مماثل له. وبالتأكيد، فإنّ الكثير من سياسات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، والصدوع التي تشهدها أنظمة منطقتي اليوور والشنغن، بحاجة إلى الإصلاح (إصلاح من خلال حظر بعض الحكومات). ورغم كل هذه العيوب، فقد قام الاتحاد الأوروبي بدور رئيس في تعزيز السلام والازدهار والديمقراطية في جميع أنحاء أوروبا لأكثر من ستة عقود. ورغم أنّ الناخبين محبطون من الاتحاد الأوروبي، إلا أنّ أغلب مسبِّبات إحباطهم تنبع من حكوماتهم الوطنية، فيما تستمر الأحزاب السياسية الرئيسة في جميع أنحاء أوروبا بالالتزام العميق بالاتحاد الأوروبي، ويمكننا أن نتوقع تأكيداً من القادة الأوروبيين على هذا الالتزام في الأيام المقبلة.

في المقابل، لطالما كانت المملكة المتحدة عضواً متردداً في الاتحاد، وكان لها بمثابة زواج مريح بأوروبا، وليساً حباً. حيث تردّدت بالانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية منذ البداية، وألحّت على خيار البقاء خارج منطقة اليورو ومنطقة حرية الحركة (شنغن). وابتعدت عن الاتحاد لسنوات، حتى سعى شركاؤها الأوروبيون لقبولها، فيما دعم مواطنو الاتحاد بقاء المملكة المتحدة فيه بأغلبية ساحقة، كما فعل قادتهم.
 
وفي الأيام الأخيرة من حملة الاستفتاء، حاول سكان القارة الأوروبية إظهار حبهم للمملكة المتحدة بكل معنى الكلمة، من خلال حملاتهم الشعبية من مثيل (#HugaBrit) والتي أظهرت عناق الأوروبيين بأصدقائهم البريطانيين، والتوسّل إليهم بعدم الذهاب، وفي المحصلة، أخفقت كافة تلك الأحضان والتنازلات السياسية.

لام السياسيون والعديد من الناخبين البريطانيين الاتحاد الأوروبي على مشاكله، لسنوات، وأمامهم الآن شيء جديد ليعلِّقوا عليه الانكماش الاقتصادي وزيادة الضغوط السياسية الناجمة عن الرحيل، وسيكتشفون قريباً جداً ما إن كانوا فعلاً يفضلون الحياة خارج الاتحاد، أو أنّهم قد تسرّعوا بذلك.


منشور في مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

للاطلاع على النص الأصلي، انظر:
London Falling: Life After Brexit
R. Daniel Kelmen
Foreign Affairs
https://www.foreignaffairs.com/articles/united-kingdom/2016-06-27/london-falling
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: