يمكن وصف المشهد الإسباني الحالي، بأنه نتاج لتداعيات الحراك الانفصالي الكاتالوني، وإخفاقاته، والارتدادات التي قامت عقب ذلك، سواء على مستوى كاتالونيا، أو على مستوى العلاقات السياسية البينية المحلية، المتمثلة في التحالفات الحزبية والأوزان النسبية السياسية التي تتبلور حالياً قبيل الانتخابات القادمة.
فقد أثار الزعماء الانفصاليون مواجهة مع السلطة في مدريد، بعد محاولة دفع عملية انفصال الإقليم، قدماً في خريف عام 2017، مما أشعل أسوأ أزمة سياسية في البلاد منذ استعادة الديمقراطية في سبعينيات القرن الماضي.
ونتيجة لذلك، علقت الحكومة المركزية الحكم الذاتي في المنطقة، وأمرت بإجراء انتخابات إقليمية في ديسمبر 2017، لتفوز الأحزاب الانفصالية مرة أخرى بالسيطرة على المجلس التشريعي الكاتالوني (70 مقعداً من أصل 135)، في انتخابات شهدت مشاركة شعبية واسعة وصلت إلى (82٪)، وكانت هذه القوى بصدد العمل من جديد على تشكيل حكومة إقليمية جديدة في نهاية العام.
وإلى جانب المواجهة الحادة للمحاولة الانفصالية، عمدت الحكومة المركزية في مدريد إلى اعتقال عدد من الزعماء الانفصاليين وتقديمهم إلى المحاكمة.
فقد أشارت محطة CNN، في منتصف فبراير الفائت، إلى أنه قد مثل اثنا عشر زعيماً كاتالونياً أمام المحكمة العليا للبلاد في مدريد بتهمة التمرد وانتهاك أوامر المحكمة، من بين آخرين.
فيما يرفض الانفصاليون الكاتالونيون المحاكمة، وبرأيهم أنها مهزلة وأن نتيجتها قد تم تقريرها مسبقاً، ويمكن ملاحظة مستوى الحدة بين الطرفين، من خلال التناقض الحاد في الموقف من المحاكمات، حيث اعتبرها رئيس المحكمة العليا الإسبانية بأنها "أهم محاكمة أجريناها في الديمقراطية"، ووفقاً له فإن هذه المحاكمات ستمتد لقرابة ثلاثة أشهر.
وقد أشارت صحيفة The Guardian البريطانية، في تقرير لها في فبراير الماضي أيضاً، إلى أن هذه المحاكمات تُظهِر أن الحكومة الإسبانية قلقة، وتخشى أن تؤلّب الرأي العام الأوروبي ضدها، واتهامها بأنها تسعى لاستخدام الأساليب القضائية لقمع المطالب الكاتالونية بالاستقلال/الانفصال.
وقارن التقرير بين جهود مسؤولي وزارة الخارجية الكاتالونية، الذين توجهوا إلى المملكة المتحدة لشرح قضيتهم أمام البرلمان البريطاني، وطلب التدخل لصالحهم. في مقابل الحملة التي أطلقتها مدريد بعنوان "هذه هي إسبانيا الحقيقية"، لتسليط الضوء على تنوع البلاد، ومواجهة ادعاء النزعة الانفصالية الكاتالونية.
ويرى التقرير أن إسبانيا تتجه إلى ما قد يكون شهوراً من عدم اليقين السياسي بعد أن دعا رئيس وزرائها الاشتراكي إلى انتخابات عامة مبكرة لشهر أبريل - وهي الثالثة في البلاد في أقل من أربع سنوات - على خلفية أزمة انفصالية كاتالونية مستمرة.
في ظل المعطيات السابقة، يظهر واحد من أبرز تداعيات القضية الكتالونية، حيث دعا رئيس الوزراء الإسباني إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة في 28 إبريل المقبل، بعد أن سحب أعضاء البرلمان الكتالونيين القوميين دعمهم للحكومة الاشتراكية.
وترجّح استطلاعات الرأي أنه لن يتمكن أي حزب من الحصول على أغلبية المقاعد في البرلمان، بينما يُتوقَّع أن تسجل الأحزاب المحافظة وحزب اليمين المتطرف فوكس، نتائج جيدة في الانتخابات المبكرة.
ويبدو أن أزمة كتالونيا تطل برأسها من جديد، إذ رفض أعضاء البرلمان الكتالونيين من ذوي الميول الانفصالية خطة الموازنة العامة التي طرحها رئيس الوزراء سانشيز، علاوة على رفض فتح باب المناقشة ثانية في حق الإقليم في تقرير مصيره.
وتشير الصورة الحزبية الحالية إلى أن لحزب العمال الاشتراكي الإسباني 84 مقعداً في مجلس النواب، بينما يشغل حلفاؤهم من حزب بوديموس، المناهض لإجراءات التقشف، 67 مقعداً.
في المقابل، يحتل الحزب الشعبي الإسباني المحافظ، وهو حزب المعارضة الأساسي، 134 مقعداً.
وأعرب سانشيز، عن استيائه من أن الحزب الشعبي وحزب "المواطنون" اعترضوا طريق عدد من مشروعات القوانين في البرلمان. وتأتي هذه التطورات في المشهد السياسي الإسباني بعد ثمانية أشهر من تولي سانشيز حكومة أقلية بدعم من الأعضاء الكتالونيين في البرلمان.
وربما يكون المشهد القادم قريباً من المشهد الذي حل في استطلاع أكتوبر الماضي الذي أجرته Europe Elects، والذي أظهر تراجع الأحزاب الكبرى، مع تقدم اليمين القومي المتطرف VOX، واليمين القومي Cs.
وتمتد تداعيات قضية كاتالونيا، إلى القضية الباسكية، والتي تأثرت بشكل واضح بهذه النتائج، وستترك بالتأكيد تأثيرها في نتائج الانتخابات القادمة.
وخصوصاً، أن إقليم الباسك، وعلى خلاف كاتالونيا التي يقترب دعم الانفصال فيها من 50٪ من سكانها، فإن هذه النزعة تنخفض في الباسك إلى حدود 15٪ وفقا لاستطلاعات الرأي.
ووفق تقرير مطول لمحطة BBC، في مايو 2018، فإن إعلان جماعة إيتا الانفصالية/الذراع المسلح لمنظمة الباسك، حل نفسها رسمياً، بعد قرابة 50 عاماً من العمل المسلح، هو بمثابة مرحلة جديدة في التاريخ الإسباني.
وكانت المنظمة قد نشرت قبل ذلك على صفحتها في إبريل 2018، ما نصه: "فرصة جديدة بشكل نهائي لإنهاء دورة الصراع"، وأعلنت أنها تعترف بـ "المعاناة الناجمة عن نضالها". وفي رسالتها، تؤكد إيتا أن نزاع الباسك مع إسبانيا وفرنسا لم ينته بعد، لكن ذلك لن يكون عبر إيتا.
وتضغط جماعات ضحايا الإرهاب، وفصائل حزب الشعب (PP)، ووسائل الإعلام المحافظة جميعها، من أجل انتهاج سياسة متشددة ضد إيتا، ويبدو أن تغير الحكومة لموقفها هو احتمال ضعيف.
وقد غطت صحيفة The Irish Times في مايو الماضي، في تقرير لها، بعض التطورات التي شهدها إقليم الباسك، حيث أشارك إلى أن برلمان الإقليم أشار إلى أن شعب الباسك "شعب له هويته الخاصة"، وله "تراث لغوي وثقافي وقانوني-مؤسسي استمر عبر التاريخ".
وترى الصحيفة أنه بينما يناقش الباسك نوع النموذج الإقليمي الذي يودون تقديمه إلى مدريد للتفاوض في نهاية المطاف، يبدو أن تداعيات قضية كاتالونيا، قد أبقت طموحات الباسك تحت السيطرة، ومنعتها من الاندفاع نحو مطالب انفصالية مماثلة.
لكن بعض القوميين يدّعون أن لا إرث إيتا ولا التطورات في كاتالونيا، قد تعيق احتمال ارتفاع مستوى تعزيز السيادة في إقليم الباسك.
عدا عن أن التداعيات، أدت إلى تخفيض مستوى ميل الباسك للتحالف مع الكاتالونيين، وأصبحوا أكثر ميلاً لمراقبة الأحداث عن بعد، دون الانخراط فيها بشكل مباشر، سواء بحراك انفصالي مشابه، أو بدعم للحراك الانفصالي الكاتالوني.
وهنا يسجل أرنالدو أوتيجي، زعيم التحالف اليساري المؤيد للاستقلال، Bildu، النقاط التي قد تمنع الإقليم من الدفع نحو الاستقلال/الانفصال:
- لن تتمكن إيتا، من الحصول على نسبة 50٪ من الدعم الشعبي، رغم وجود أغلبية تؤيد الاستقلال في الإقليم.
- لن يتمكنوا من الحصول على دعم المجتمع الدولي.
- ليس هناك توافق بين القوى الباسكية حول من يسيطر على الإقليم بعد إعلان الاستقلال.
بدورها، فإن ماريا سيلفستر، عالمة الاجتماع في جامعة دوستو، ترى أن 17-20٪ فقط من سكان إقليم الباسك يتطلعون إلى الاستقلال، وأن هذه النسبة لم تتغير كثيراً في الأشهر الأخيرة. رغم وجود دوافع سابقة بالانضمام إلى حراك كاتالونيا، لكنهم اليوم يفضلون البقاء بعيداً عن المشهد الكالتالوني.
مجمل هذا المشهد وتداعياته، ترفع من أسهم القوميين المتطرفين في مدريد، وهو أمر بدأت الأطراف العرقية الباسكية والكاتالونية تعبر عن قلقها من تداعياته على الانتخابات القادمة، وما قد يحمله من ارتفع حدة المركزية في النظام الإسباني، وتقليص حجم الصلاحيات التي تتمتع بها الأقاليم، وخصوصاً إقليمي الباسك وكاتالونيا.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والبحوث