يعاني لبنان من جملة إشكاليات سياسية ذات تأثير حاد للغاية في الأوضاع الاقتصادية، حيث لا يمكن قراءة تلك الأوضاع دون وضعها في هذا الإطار.
وفي مقدمتها مستوى استقرار/هشاشة الدولة، والذي وإن كان قد شهد بعض التقدم مؤخراً، إلا أن لبنان يبقى ضمن دائرة التوترات السياسية والعسكرية في المنطقة، مع تداخلات خارجية أيديولوجية، قد تدفع به إلى حافة الانهيار السياسي وبالتالي الاقتصادي، أو قريباً من ذلك.
الإشكالية الثانية المتعلقة مباشرة بالوضع الاقتصادي، هو ارتفاع مستوى الفساد في لبنان، وبقاؤه على هذا الحال لعدة سنوات. حيث أتى لبنان متأخراً على مؤشر إدراك الفساد، ليقع في الترتيب 138 عالمياً، وبقيمة إدراك فساد لم تتجاوز 28 نقطة (القيمة 100 هي الأقل فساداً).
والإشكالية الثالثة التي تضغط بحدة على الأوضاع الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، هو شكل الحركة السكانية في لبنان، حيث رصد مركز Pew هذه الحركة، والتي كانت لعام 2017، على الشكل التالي:
- هناك 1.94 مليون أجنبي يقيمون في لبنان.
- بينما هناك 820 ألف لبناني مقيم خارج لبنان.
أما الإشكالية الرابعة، ذات الأبعاد المتعددة، فهي موقع لبنان على مؤشر بازل لتمويل الإرهاب وغسيل الأموال، حيث أتى في الثلث الأدنى عالمياً، متراجعاً بمعدل 0.01 نقطة، وليكون في المرتبة 42.
هذه العوامل السابقة، إلى جانب العوامل الاقتصادية اللاحقة، جميعها تدفع لبنان إلى أن يسجل موقعاً أدنى من المتوسط بقليل على مؤشر جودة الحياة.
وعموماً، تبلغ درجة الحرية الاقتصادية في لبنان 51.1، مما يجعل اقتصادها في الموقع 154 عالمياً، على في مؤشر 2019. وانخفضت النتيجة الإجمالية بمقدار 2.1 نقطة، مع انخفاض في درجات الفعالية القضائية، والحرية التجارية، وحرية الاستثمار. ويحتل لبنان المرتبة 12 من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتأتي النتيجة الإجمالية أقل من المعدلات الإقليمية والعالمية.
وعموماً يعيش لبنان في ظل أوضاع غير مستقرة عامة، وإن كان الاستقرار نسبياً، إلا أن وضعه الاقتصادي مرتبط بشكل حاد للغاية بأوضاعه السياسية المحلية العصبوية، أو السياسية العربية والدولية التدخلية، وإشكالية النزاع المسلح الذي تحاول ميليشيا حزب الله الإرهابية أن تدفع به سواء مع إسرائيل أو في سوريا، أو ضمن مشروعها العام، وفرض توجهاتها على أية حكومة كانت.
ولا يمكن القول في ظل أي معطى كان، أن الحكومة اللبنانية، منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري، هي حكومة مستقلة بعيداً عن حزب الله، وبشكل أكثر تحديداً، منذ انقلاب ميليشيا حزب الله في بيروت. وتبقى قدرة الحكومات المتتالية اقتصادياً، وسياسياً وسوى ذلك، مرهونة بتدخل ميليشا حزب الله أولاً، وبتوافق البرنامج مع مصالحها الخاصة في لبنان، سواء لناحية الفساد الذي تديره داخل الاقتصاد اللبناني الرسمي، أو لناحية اقتصاد الميليشيا الموازي لاقتصاد الدولة.
لذا ففي حال ثبات المعطيات الحالية على ما هي عليه، ودون نشوب مزيد من النزاعات المسلحة، أو دون حدوث ضغط دولي حقيقي، أو دون متغيرات دخيلة على المشهد اللبناني، فإن لبنان سيبقى في ذات المسار الاقتصادي، بل والسياسي، في الفترة القادمة، حتى عام 2020.
وأبرز مؤشرات هذه الصورة في الآونة الأخيرة:
- بقاء نسبة العاطلين عن العمل على ما هي عليه.
- رغم تحرك معدل الفائدة، إلا أنه انخفض بشكل طفيف.
- انخفاض واضح في مؤشر التضخم، لكن ربما يكون موسمياً، أو متأثراً بتشكيل الحكومة حالياً، مدفوعاً بالحالة الإيجابية التفاعلية.
- مع استمرار العجز التجاري والدين الحكومي على ما هو عليه.
- وارتفاع محدود في الناتج المحلي.
- وغالباً سنشهد ارتفاعاً، ولو كان محدوداً، في مؤشر أسعار المستهلك.
- مع ارتفاع حجم القروض للمصارف.
وبالنتيجة، نؤكد على عدم قيام تغيير في المشهد الاقتصادي الحالي، مع ارتفاع محدود في كلفة المعيشة في لبنان، في ظل ثبات الظروف الأخرى، مع ارتفاع أعباء الحكومة، وعدم قيام تغيير إيجابي في مستوى الفساد، ما يعجل مزيداً من انهيار البنية التحتية والخدمات احتمالاً قوياً.
هذه الصورة، تدفع الحكومة، والقوة السياسية والطائفية باتجاهين:
- الحصول على تمويل عربي/خليجي ودولي، لكن على المانحين أن يعلموا أن جزءً من هذا التمويل/المنح، سيذهب حتماً إلى قنوات اقتصاد ميليشيا حزب الله (بشكل غير مباشر).
- أما الاتجاه الآخر، فهو رفض تقديم أي منح جديدة، إلا وفق شروط سياسية مسبقة، وعلى رأسها تحقيق تقدم ملموس في مكافحة الفساد، بالتوازي مع الشروط الدولية، لكن هذا الاتجاه غير قابل للتحقيق على المدى القصير، ما سيدفع ميليشيا حزب الله إلى تشكيل مزيد من الضغط، القائم أصلاً، على حكومة الحريري.
ورغم أن إيران تمر في وضع دولي صعب للغاية، فإن تمويل ميليشيا حزب الله، بهدف مزيد من التحكم في المشهد اللبناني سيتراجع، لكنه لن ينقطع حالياً. ومع ذلك لابد من وجود ضغط موازٍ، لتحقيق تقدم في مكافحة الفساد على المستويات التالية:
- تحسين أداء المؤسسات الحكومية التي تشهد فساداً مرتفعاً، وتحديداً تلك التي تقع تحت تصرف ميليشيا حزب الله وحلفائها.
- تحقيق تقدم في ضرب اقتصاد ميليشيا حزب الله، والقائم في جزء منه على تجارة التهريب والمخدرات والسلاح.
- تحقيق تقدم سياسي في ملف التضييق على ميليشيا الحزب.
وفي يناير الماضي، خفضت وكالة موديز لخدمات المستثمرين تصنيفها الائتماني للبنان، وهي المرة الأولى منذ أكثر من عقدين، مشيرة إلى المخاوف من قدرة الحكومة على دفع أو إعادة هيكلة ديونها وسط أزمة السيولة التي تزيد من مخاطر التخلف عن السداد.
حيث خفضت التصنيف إلى Caa1 من B3، ما يعكس المخاطر المتزايدة من أن رد الحكومة على زيادة مخاطر السيولة والاستقرار المالي، وسيشمل إعادة جدولة الديون أو ممارسة أخرى لإدارة المسؤولية التي قد تشكل تقصيراً بموجب تعريف وكالة موديز.
وخاصة أن لبنان يشهد، ثالث أكبر نسبة دين إلى إجمالي الناتج المحلي في العالم، وبما يعادل 150%، ويكافح للسيطرة على موارده المالية في ظل ركود الاقتصاد والضغط من استضافة أكثر من مليون شخص من اللاجئين السوريون. في حين انخفضت عائدات السندات الحكومية في الأسابيع الأخيرة بعد أخبار شراء قطر 500 مليون دولار من السندات اللبنانية وأن السعودية ستواصل دعمها.
عدا عن أن خفض العجز المالي بخمس نقاط مئوية في السنوات الخمس المقبلة، سوف يساعد في إطلاق 11 مليار دولار من أموال المانحين التي تم التعهد بها في مؤتمر باريس في إبريل الماضي.
وقد يحتاج لبنان إلى ما يقدر بنحو 6-7 مليار دولار من تدفقات الودائع لتغطية العجز المالي واستحقاقات سندات اليوروبوند في عام 2019 دون الاعتماد على احتياطيات النقد الأجنبي، مما يقدر بنحو 4 إلى 5 مليارات دولار في عام 2018، وفقاً لمؤسسة موديز.
ونتيجة لذلك، يتوقع بنك JPMorgan أن يتم تمويل العجز التقديري في الموازنة والذي يبلغ 5.6 مليار دولار في عام 2019 دون اللجوء إلى أسواق رأس المال الخارجي نظراً لحجم ودائع القطاع المالي لدى البنك المركزي وحجم احتياطيات العملات الأجنبية في الأخير.
وذكر البنك أنه لا يتوقع خفضاً في قيمة العملة على المدى القريب، لكنه حذر من أن الانخفاض التدريجي في احتياطيات النقد الأجنبي ما قد يؤدي في النهاية إلى أزمة ثقة في المدى المتوسط.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والبحوث