بات من المنطقي أن ترتفع حدة الحروب المنفلتة في الشرق الأوسط، لتطال كافة الفاعلين الإقليميين فيه، ولتضيف أبعاداً دموية جديدة على مشهد الموت اليومي الممتد من العراق وسورية إلى اليمن. في صراع داخلي-داخلي من جهة، وآخر عربي-إقليمي يكتسي بتداخل دولي، في لحظة انهيار ربما تكون الأسوأ في تاريخ المنطقة بأسره، دون أن يعني ذلك وجود ملامح انفراج في الأفق القريب، بل بات على كافة دول المنطقة الاستعداد لمرحلة من الحروب طويلة الأمد، ذات طابع عقائدي مصلحي.
ويأتي العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ضمن ذات الفهم، وضمن المسارات العسكرية الإقليمية، دون أن يكون معلّلاً بخطف جنود أو مستوطنين إسرائيليين، فإيران تتسع منذ سنوات حتى بات جيشها يعسكر على شواطئ المتوسط في احتلال لثلاث عواصم عربية (بغداد، دمشق، بيروت)، فيما تقتطع جماعات جهادية ومتطرفة مساحات جغرافية من هذه المنطقة لإعلان دويلاتها الخاصة (خلافة داعش، وإمارة النصرة)، ويحضر الأكراد كيانهم لحالة انفصالية استقلالية قريبة، فيما تتصارع باقي المكونات للسيطرة على ما تبقى من الجغرافيا المفتتة.
ولا يمكن لإسرائيل أن تبقى خارج هذه المغانم الجيوسياسية، ضمن مشروع لها هي الأخرى، يتقاطع جغرافياً مع المشاريع القائمة والمتمددة، ضمن محددات سلوك أساسية، وسياق إقليمي مواتٍ.
أولاً- محددات السلوك الإسرائيلي:
تتنوع محددات السلوك الإسرائيلي في الشرق الأوسط، لتشمل جملة واسعة تشكل جميعها آلية لترجيح السلوك العدواني الإسرائيلي. وتتمثل أولى وأهم تلك المحددات في حماية الأمن القومي للكيان الإسرائيلي، الذي تحيط به مجموعة كبيرة من التهديدات الوجودية، ضمن بيئة إقليمية رافضة –ولو على المستوى الشعبي– لانخراط الكيان ضمن أيّة مشاريع تكاملية، وإدراك جمعي إسرائيلي أنّ كيانهم قائم في الأساس على فكرتي الاحتلال والتهجير.
وفي محاولة لتحديد مفهوم الأمن الإسرائيلي، يعتقد عبد المنعم المشاط بأنّ هذا المفهوم لا يقتصر على إثبات القدرة على مواجهة مصادر التهديد الداخلية والخارجية، والحفاظ على كيان الدولة وبقائها فحسب، وإنّما يمتد ليشمل محاولة التأثير –إن لم يكن التحكم– في نمط التفاعلات الإقليمية، بمّا يكرس من دور إسرائيل العسكري والسياسي، بل ويتّسع ليضم قضية النقاء اليهودي، والحرص على استمرار تدفق المهاجرين إلى الدولة اليهودية. ويرى أنّ مفهوم الأمن الإسرائيلي تجاه العرب، يرتبط بالقدرة على توظيف التفوق العسكري من أجل تحقيق التوازن والاستقرار في المنطقة، كما تراه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والذي يعني القدرة على التكيّف وتقديم التنازلات التي لا تمسّ جوهر الأمن الإسرائيلي، بغرض تشتيت الضغوط السياسية أو العسكرية الواقعة على إسرائيل، وهكذا يرتبط مفهوم الاستقرار بالردع والقدرة على التهديد، ومن ثم إجبار الطرف الآخر على الاستجابة لما تبتغيه إسرائيل(1).
فيما تشكل المبادئ الإيديولوجية الصهيونية المحدد الثاني للحراك الإسرائيلي. فرغم التنوع الظاهري في تشكل القيادات الإسرائيلية ضمن تيارات يمينية ويسارية، فإنّها في جلّها تنطلق في رؤيتها من المحددات الأساسية للمشروع الصهيوني، لتشكّل فيما بينها نهجين على قدر من التقارب لتحقيق تلك المحددات، لم يصلا أبداً إلى مرحلة التناقض الأيديولوجي في رؤيتهما لمستقبل إسرائيل، فكلا النهجين اعتمد السلوك العسكري كآلية فهم –قبل أن يكون آلية حسم– تجاه المحيط العربي.
وضمن هذا الوعي، يتشكّل المحدد الثالث، القائم على إدراك إسرائيل لمحيطها العربي، معتقدة بأنّ استمراريتها وصيانة أمنها، قائمان على تكريس حالة من الشتات الاستراتيجي للمحيط العربي، بحيث تبقى كفة الحرب إسرائيلية، وخلق صورة ردع، ومن ثم صورة رعب، عبر حجم ونوع القوة العسكرية، تمنع الآخر –العرب– من البحث في آليات عسكرية لحسم الصراع.
وتعبيراً عن ذلك، صرح السفير الإسرائيلي في إسبانيا رفائيل سوتش في 11/5/2008 بأنّه: "لولا القوة العسكرية الإسرائيلية لما تمكنت إسرائيل من البقاء حتى لخمس دقائق". وهو ما يفسر المقولة الإسرائيلية المتداولة، بأن: "الكيان الإسرائيلي يجب أن ينتصر في كل حروبه، وأنّه لا يحتمل هزيمة حقيقية واحدة (2)".
كما يعبّر عن هذا الوعي، ما جاء في ندوة نظمها المركز الإسرائيلي –بارا إيلاف للأبحاث الاستراتيجية– ووزارة الخارجية الإسرائيلية عام 1992، بعنوان "الموقف الإسرائيلي من الجماعات الإثنية والطائفية في العالم العربي": "إنّ مصلحة إسرائيل تقتضي أن تُكرَّس الصراعات وتتعمق، لأنّ انقسام الوطن العربي يعني في نهاية المطاف، إضعافه وتشتت قواه وطاقاته، التي يمكن أن يعبئها ويحشدها في مواجهة إسرائيل (3)".
ويتشكل المحدد الرابع من فكرة المجال الحيوي، إذ تسعى إسرائيل، إلى خلق الأرض اللازمة لحماية أمن الكيان واستمراريته، وقد استطاع المفكر ساري حنفي من استنباط فهم جديد للمشروع الاستعماري الإسرائيلي، مستنداً إلى مفهوم "التطهير المكاني"، إذ يعتقد أنّ إسرائيل لا تسعى إلى تقسيم الأرض، إنّما إلى إلغائها، وهو تطهير أكثر شمولاً يدمج التطهير الاجتماعي بالتطهير الاقتصادي والسياسي، فهدف المشروع الإسرائيلي هو تنفيذ نوع من "الترانسفير" الديموغرافي، أو كما وصفه وزير إسرائيلي بالترانسفير الطوعي للسكان الفلسطينيين عن طريق تحويل الإقليم الفلسطيني إلى مجرد أرض، وذلك عبر التطهير المكاني الذي غدا ممكناً بسبب تجزئة الأراضي الفلسطينية إلى مناطق A , B , B- , B+, C , H , H2. فوفق هذا المخطط تغدو تنمية البنية التحتية الفلسطينية الوطنية شبه مستحيلة، لا نتيجة لتفتيت المكان فحسب، بل أيضاً بسبب تفتيت النظام السياسي الفلسطيني. معتبراً أنّ التطهير المكاني إيديولوجية واعية، يمارسها أربعة أشكال من الفاعلين: العسكر، المستوطنون، مخططو المدن، مضاربو العقارات الرأسماليون. وهؤلاء غالباً ما يتعاضدون ليصلوا إلى استراتيجيات التطهير المكاني (4).
فيما يسعى المحدد السادس من الوعي الإسرائيلي، إلى عملية اندماج قسري ضمن المحيط، عبر مشاريع تكاملية اقتصادية واجتماعية، تنتقل بالصراع إلى نزاع ومن ثم تنافس على القيادة الاقتصادية، مع مقومات تجعل من إسرائيل متصدرة عملية النهوض الحضاري لتكتل اقتصادي متنوع، كما طُرح في مشاريع كالشرق الأوسط الكبير أو الجديد، والعديد سواها.
كما تستند إسرائيل إلى عديد من المحددات الأخرى، يبرز في قائمتها العامل الديموغرافي، وسعيها إلى الاندماج القسري في المحيط الإقليمي لها، وطبيعة علاقاتها بالولايات المتحدة، ومنه بالتالي فهمها للمحدد الدولي وتوظيفها له في استمرارية مشروعها (5).
السياق الإقليمي لعدوان 2014:
لا يمكن قراءة الحدث الفلسطيني مستقلاً عن العسكرة المتسعة في محيطه الإقليمي، ويمكن استنباط عنوان رئيس لهذا الحدث، من اللافتات التي رفعتها حركة حماس في غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي وبعدة لغات، تحت شعار "شكراً إيران". في إشارة جلية إلى دور إيران في تزويد الحركة بصواريخ تطال عدة مدن إسرائيلية، بلغت تل أبيب وحيفا، ووصلت إلى القدس لأول مرة.
"شكراً إيران"، تعني دوراً إيرانياً واضحاً في اختيار لحظة استعصاء إقليمي في مشروعها، والدفع بحلفائها إلى تصعيد عسكري في بؤر ذات تماس إقليمي-دولي، مترافقاً مع جولة إخفاق أخرى في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وعدم قدرتها على فرض نمط المكاسب الذي تبتغيه من جهة، والذي لا يقبل الفكر الإيراني مشاركته مع محيطه الإقليمي من جهة أخرى.
ففي حين يسعى الغرب إلى توسيع ملف المفاوضات ليشمل الأوضاع الإقليمية الناشئة عقب الاحتلالات الإيرانية فيها، والقدرة العسكرية الإيرانية النووية والتقليدية، فإن إيران في المقابل، تسعى إلى شرعنة احتلالاتها تلك، بل وتمديد نفوذها بموافقة دولية إلى البحرين واليمن، والحفاظ على قدراتها العسكرية التقليدية، مع تجميد في القدرات النووية، وعليه ما تزال تلك المفاوضات قيد المراوحة والجدل بين أطرافها.
هذا الاستعصاء ربما كان المبرر الأول في دفع إيران لحركة حماس، لاختيار استعراضها الصاروخي على عدة مدن إسرائيلية، في استنساخ ما جرى عام 2006، بعد استدراج حزب الله لعدوان إسرائيلي على لبنان راح ضحيته قرابة 1500 لبناني. والذي أنتج واقعاً لبنانياً جديداً من خلال ما لحقه في مايو/أيار 2007، حين فرض حزب الله هيمنته العسكرية على الداخل اللبناني، والانتقال إلى أدوار عسكرية لاحقة في سورية والعراق.
إسرائيل هي الأخرى، تنتظر هذا الحدث التصعيدي، للانتقال بمشروعها إلى خطوة متقدمة، بعد جمود جغرافي واستراتيجي وعقائدي لسنوات طويلة، مستغلة الحالة الإقليمية الحربية، للقضاء على تهديد قطاع غزة أولاً، والإجهاز على كل سلطة سياسية فلسطينية من جهة ثانية، والانتقال إلى مرحلة هدم الأقصى وبناء الهيكل، تحت ضغط متطرفي الحركة الصهيونية، في استغلال للظرف الإقليمي، الذي يعتبر الأنسب لتقدم المشروع الصهيوني.
كان من الأجدى، أن ترفع إسرائيل كذلك في شوارعها شعار "شكراً إيران"، لما قدمته لها من مبرر داخلي لسلوكها العدواني، الذي يفترض أن يتصاعد في المرحلة المقبلة، بعد أن أوجدت لها إيران مبرراً إقليمياً واسعاً عبر تفتيت وإنهاك العراق وسورية ولبنان، وإعمال الإبادات الجماعية فيها، ولم يتبق لها سوى مبرر دولي أيديولوجي يشرعن سلوكها في القدس المحتلة، ولعل الحرب الطائفية التي تقودها إيران تكون مقدمة لشكر إسرائيلي آخر لها.
للشعب الفلسطيني كامل الحق في مناهضة الاحتلال اليهودي، والاتكاء على جملة تحالفات إقليمية ودولية توفر له السند اللازم في ذلك، وتكون ممراً لوجستياً للسلاح الداعم، لكن دون أن يعني ذلك رهن القضية العربية المركزية "فلسطين" بمصالح قوى إقليمية، لا يعنيها الدم العربي في فلسطين، ولا يمكن بأي منطق مقاوماتي رفع شعار "شكراً إيران"، لدولة أوغلت في دماء السوريين والعراقيين واليمنيين والبحرينيين ومن قبلهم اللبنانيين، طيلة سنوات، بغية توسيع هيمنتها الإقليمية وشرعنتها دولياً.
ومن عبثية هذا "الشكر"، تلك الصواريخ التي انهالت بالقرب من مفاعل ديمونة النووي الإسرائيلي، الذي يشكل أحد الأخطار الاستراتيجية الكبرى في المنطقة، وسند إسرائيل العسكري في مواجهة محيطها الإقليمي. ففي حال اصابته مباشرة، وتفجيره، فإن ذلك يعني كارثة نووية تفوق كارثة ناكازاكي وهيروشيما بعدة مرات، وتشمل فلسطين ولبنان وسورية والأردن والعراق ومصر والسعودية، وستكون سبباً في قتل ملايين السكان في هذه المنطقة.
إن الفعل العسكري الإيراني، تحت شعار "المقاومة"، لم يترجم طيلة عقود من التسلطية الإيرانية، إلى حرب بين إيران وإسرائيل، بل كل ما كان هو تحريك بعض الأطراف بغية تمرير مشاريع تخدم الجهات الاحتلالية، أو تصرف النظر عن إحداها، وتخلق مبررات مجتمعية في الداخل العربي المنهك أصلاً، وتشرعن مشروعها، عبر عبثية الأدلجة للشعوب العربية. بل إن إيران تقدم إسرائيل الحروب التي تحتاجها بين فينة وأخرى، لتثبيت تفوقها العسكري من جهة، وتصفية خصومها وتشتيتهم من جهة ثانية.
ولعل الصورة التي حرصت إسرائيل على تصديرها عالمياً، لناحية "الرعب" المنتشر في مدنها ومستوطناتها، نتيجة الصواريخ المنهمرة عليها من قبل حركة حماس، هي ما تحتاجه فعلياً لإعادة تبييض صورتها غربياً، بعد ما لحق بها من احتجاجات في الأعوام الماضية على سلوكها العدواني. وعليه يمكن بناء حالة تعاطف دولي غربي، تسهم في دفع المشروع الصهيوني قدماً، عبر دعم إعلامي ومالي وعسكري.
لا يمكن لهذه الصواريخ ذات القدرة التدميرية المحدودة، أن تحرر فلسطين، أو أن تحقن دماء أبناء غزة، أو أن تشكل حالة رعب مضاد وموازن لإسرائيل، بقدر ما تشكل سنداً إيرانياً لإسرائيل في المنطقة، وبقدر ما تشكل غسيل أدمغة لفئات مجتمعية عربية تناصر المشروع الإيراني وتبرر إبادة ملايين من سكان المنطقة، لصالح التوسعية الاحتلالية الإيرانية والإسرائيلية. فما تقوم به إيران، وما تدفع به في فلسطين مرة أخرى، هو بالنتيجة مصلحة إسرائيلية، تتقاطع فيها خريطتا إيران الكبرى وإسرائيل الكبرى، وتلتقي حدودهما فيها على خط نهر الفرات.
وختاماً: إن قراءة العدوان العسكري الإسرائيلي على غزة، ينساق مع قراءة العدوان الإيراني في عدة دول عربية، فكلا القوتين تشكلان قوة احتلال تقسيمي للمنطقة، على حساب الدم العربي، وتشكل سنداً لبعضهما، في عملية خلق شرق أوسط يتناسب مع مصالحهما. إن شكر إيران على ذلك، هو ما كانت تحتاجه إيران تماماً، في عملية إلهاء مجتمعي عربي، عبر تحميل إسرائيل قسطاً من التداعيات الإقليمية. وهو ما تحتاجه إسرائيل لاستعادة زخم مشروعها إقليمياً ودولياً.
إن ما تحتاج إليه إسرائيل فعلياً، هو ما قامت به إيران سياسياً وعسكرياً وجغرافياً وديموغرافياً في محيطها، وبما ينساق مع محددات السلوك الإسرائيلي.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والبحوث
مراجع:
(1) سامية بيبرس، "الأمن القومي العربي بين المواثيق المرجعية والخبرة التاريخية"، شؤون عربية، العدد 132، شتاء 2007، ص 163–164.
(2) محسن صالح، "أزمة المشروع الصهيوني". في: www.aljazeera.net، 21/5/2008.
(3) مصطفى عبد العزيز مرسي، "الحدث اللبناني وتقويم تداعيات التباينات المذهبية السنية / الشيعية"، شؤون عربية، العدد 128، شتاء 2006، ص 20.
(4) ساري حنفي، "التطهير المكاني: محاولة جديدة لفهم استراتيجيات المشروع الكولونيالي الإسرائيلي"، المستقبل العربي، العدد 360، شباط 2009، ص 67–84.
(5) للمزيد حول المشروع الإسرائيلي في المشرق العربي، انظر: عبد القادر نعناع، التنافس الدولي في المشرق العربي بعد انتهاء الحرب الباردة (دمشق: رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة دمشق، كلية العلوم السياسية، 2010).