للجغرافيا دور مهم في تحديد السلوك الخارجي للدولة، وعلاقاتها وأطر تحالفها، ومجالات وآليات نشاطها، وذلك منوط بقدرة النظام السياسي على توظيف المعطى الجغرافي في نزعته السلوكية. وتتحكم الجغرافيا بدروها في حجم المعطى الديموغرافي، القادر على إدارة الدولة.
من ذلك، تعاني قطر مما يمكن تسميته بلعنة الجغرافيا، التي وضعتها بين قوتين إقليميتين في المنطقة، جعلتها تعيش هاجس الشك في كيانها كدولة، والخشية من محيطها، وهو ما دفعها لتوظيف مقدراتها المالية في توسيع نشاطاتها الخارجية أكثر مما تتحمله مكانتها الجغرافية والديموغرافية، بل والمكانية في ظل أكثر المناطق تأزماً على مستوى العالم.
كان من الطبيعي، أن تنتمي قطر إلى محيطها الخليجي، والعمل على تعزيز المداخل المشتركة فيما بينها، مع أدوار خارجية تتوافق مع مقوماتها من جهة، ومع توجهات البيئة الخليجية من جهة أخرى، وتمثل الكويت والبحرين مثالين لذات الحالة، حيث استطاعتا الحفاظ على كيانهما، وتعزيز أطر التعاون الخليجي، مع سياسة خارجية فاعلة تتلاءم مع ذات المعطيات.
إلا أن لعنة الجغرافيا القطرية، دفعتها إلى أن تتحول إلى عبء على محيطها الخليجي، من خلال سلوك تحريضي. ولا يمكن اعتبار السلوك العدائي القطري تجاه هذا المحيط، إلا فقدان للثقة بالذات من جهة، وعقدة انتماء تعود إلى عقود سابقة، لا ترى في نفسها إلا جزءاً فالتاً من الجغرافيا الأم –الجغرافيا السعودية-، أدت الظروف الدولية القائمة آنذاك إلى إعلانها دولة مستقلة. ذات العقدة التي دفعتها إلى التمرد على مفاوضات توحيد الإمارات العربية، عوضاً عن أن تكون إمارة ثامنة تخضع لسلطة أبو ظبي الفدرالية. وهو ما دفعها لاحقاً إلى تبني سياسات عدائية تجاه هاتين الدولتين تحديداً.
ولم تتبلور تلك الإشكالية بشكل واضح، إلا في العقدين الماضيين، حيث تحولت السياسة الخارجية القطرية من نهج الانطواء على الذات، إلى نهج التضخم عبر التطاول على المحيط الخليجي، في اعتقاد بأن ذلك هو ما يصنع منها دولة ذات مكانة إقليمية قادرة على فرض سلوك محيطي يخدم مصالحها. بل وعبر جر دول الخليج العربي إلى أزمات إقليمية ودولية ناتجة عن السوك القطري غير المستقر.
وإن كانت علاقات قطر مع دول الخليج العربي، قد مرت بحالة تأزم قصوى خلال الأشهر الماضية، إلا أن التأزم الجديد، في ظل التغيرات المتسارعة في المنطقة، بعد تعزيز القوة الخليجية من جهة، ومحاولة إحداث نمط تفاوضي مع إيران، يبعد شبح الحرب عن المنطقة بأسرها، يدفع إلى التساؤل عن دوافع قطر إلى تصعيد التوترات الخليجية البينية، وعن المستفيد من تلك الإجراءات.
لا شك أن بنية خليجية متوافقة حول التوجهات الخارجية العامة، وعلى نمط تنسيق أمني مشترك واضح الأبعاد الاستراتيجية، هو وحده الكفيل بصيانة أمن دول مجلس التعاون الخليجي، والخروج على ذلك، هو بالذات ما تدفع إليه إيران، في سعي يبقى قائماً لاختراق البيئة الخليجية، وتأزيمها داخلياً، يمهد لفرض معطيات تخدم المصالح الإيرانية بالمطلق.
وسواء كان التطاول القطري على الشقيقات الخليجيات، فعلاً مستقلاً مقصوداً، بغية ترميم أزمة الهوية فيها، أو كان فعلاً موجهاً من قبل إيران، فإنها هي الخاسر الأهم في هذه المعادلة، عبر سلخ ذاتها عن محيطها من جهة، وفقدان الظهير الأمني الخليجي لها، في مواجهة قوة إيران التي تسعى للتغول في محيطها، ومن ثم تحولها إلى ساحة صراع خليجي-إيراني، تفقدها مكتسباتها التنموية وتذهب بأدوارها الخارجية، وتهدد وجودها ككيان.
ولا يمكن تفسير السلوك القطري العدائي، إلا ضمن هذا الفهم، باعتباره محاولة لشرخ أطر التحالف الخليجية، في تقصد مباشر لمجلس التعاون الخليجي الذي شكل إطاراً تعاونياً بارزاً منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكان له الدور الأبرز في ضبط الساحة البحرينية، وإبعاد النفوذ الإيراني عنها عام 2011، عبر جهازه العسكري "درع الجزيرة". دون أن تدرك قطر أن عملية تجميد عضويتها أو إبعاده عن المجلس تبقى قائمة. كما تمتلك دول الخليج أدوات واسعة في معاقبة قطر على سلوكها، سواء عبر المقاطعة أو فرض حصار جوي أو بري، أو غلق الأجواء أمام الطيران القطري، إذ لا يمكن الاستمرار في التعويل على الصبر السعودي طويلاً.
كما تمتلك قطر من الإشكاليات ما يفتح عليها أزمات دولية عدة لا قبل لها بها منفردة، ليست بدءاً بملف العمالة، ولا انتهاءً بتورط في دعم الاضطرابات في دول الخليج العربي، وهو ما يدفعها إلى التفكير في إعادة عقلنة سلوكها في التعاطي مع محطيها، وضبط وسائل هذا التعاطي.
يبدو أن قطر قادمة على مرحلة قد تكون الأسوأ في تاريخها، لناحية علاقاتها العربية والدولية، بعد أن تضخم سلوكها الخارجي إلى درجة بات ينعكس سلباً عليها، أو بالأصح بلغ نقطة الانهيار، ولم يعد بإمكانها العودة عنه، إلا بعد أن تطالها تداعيات هذا السلوك. وخاصة أنها لم تكن قادرة على استيعاب الدرس السابق، بعد سحب سفراء الدول الخليجية منها. ولا يبدو أن الطاقم الحاكم حالياً قادر على قراءة المتغيرات المحيطة بقطر، بل وتعوزه كثير من الحنكة السياسية التي يفتقدها.
قد تشهد الأيام المقبلة جملة عقوبات خليجية مستحقة على دولة قطر، في حال عدم قدرتها إحداث تغيير حقيقي في سلوكها هذه المرة، وضبط الجهات المحرضة على تأزيم العلاقات البينية، والخروج من معادلات صراع المصالح الخليجية-الإيرانية، لصالح عزلة مؤقتة تعيد فيها تأهيل سياستها، والتصالح مع محيطها وفق ضمانات حقيقية.
د. عبد القادر نعناع
منشور في مركز المزماة للدراسات والبحوث