يختلط مفهوما الواقعية والوقوعية في الوطن العربي لدى أصحاب طروحات التسليم والتسوية والتحاور والتنازل ، رافعين شعارات الواقعية السياسية للإقرار بما وصلت إليه الأمة ، ولتكريس أوضاع استثنائية ، وتعزيز مفهوم الانعزال عن المحيط العربي في محاولة لبناء الذات ، انطلاقا من انعدام الذات وتفوق الآخر الخارجي نهضويا وعسكريا .
إن مفهوم الواقعية السياسية إنما هو مدرسة سياسية تنموية ، رفعت شأن الولايات المتحدة ، بناء على مجموعة من المبادئ السياسية ، والتي يأتي في مقدمتها :
- إن النظام الدولي ، نظام تغيب عنه السلطة المركزية المنظمة للعلاقات فيما بين الدول ، والمحافظة على الحقوق ، والرادعة للمعتدين . وهو ما يجعل لزاما على الدول البحث ذاتيا عن أمنها، من خلال تعظيم قدراتها العسكرية وخاصة الردعية منها .
- إن الدولة هي أساس بناء النظام الدولي ، فيكون الانطلاق من بناء دولة قادرة على إثبات ذاتها في العلاقات الدولية ، وقادرة على تغيير مجرى تلك العلاقات بما يخدم صالحها. ولتضيف المدرسة الواقعية الجديدة لاحقا دور القائد الفرد في بناء تلك الدولة .
- إن دور المنظمات الدولية دور ثانوي ، لا يجب الاعتماد عليه في الحصول على الحقوق الدولية ، إنما ينحصر دورها في تنظيم السياسات الدنيا (بيئية، ثقافية، اقتصادية) .
- إن الحقوق تكتسب بالقوة ووفقا لحجم القوة وليس من خلال المبادئ والمثاليات والأخلاق القانونية الدولية .
- إدراك نقاط الخلل والقوة في الواقع القائم والبناء عليها في صياغة بناء الدولة والوصول بها إلى مصاف القوة المطلوبة لتحقيق الأهداف والمصالح .
فيما تختلف الوقوعية المتبعة فكرا وممارسة عن تلك المبادئ الرئيسة للفكر الواقعي، لتحمل مجموعة من السمات التي لا ترقى حتى للمدرسة الليبرالية ، أبرزها :
- البيئة الدولية هي أساس أي سلوك سياسي دولي، ولا يمكن للدول منفردة تغيير أوضاع داخلية أو دولية .
- الاعتقاد بأن الحال القائمة غير قابلة للتعديل أو المناقشة ، وبالتالي رؤية ضرورة التسليم بما هي عليه والانصياع لمتطلباتها .
- اعتبار المنظمات الدولية الجهة الحاضنة والمحصنة للحقوق الدولية .
- تأمين الحقوق والمصالح يكون باحترام القوانين الدولية ونبذ العنف واللجوء للتفاوض السلمي لإثبات حسن النوايا عبر تقديم مجموعة من التنازلات الضامنة للالتقاء بين الأطراف المتصارعة .
- حقوق الدول مقررة لها بمجرد نشوء الدولة ، ولا يجوز البحث في توسيعها على حساب دول أخرى .
من ذلك كانت السياسة الخارجية للدولة انعكاسا لمصالح داخلية تقررها النخب الحاكمة ، أو استجابة لضغوط دولية تفرضها القوى الكبرى. فيما كانت مفردات القانون الدولي الغربي قابلة للتأويل وفقا لتطلعات الدول الغربية التي أنشأتها والتي سمحت لها باستخدام تلك القوانين بما عرف عربيا بـ "ازدواجية المعايير" والتي ما كانت يوما ازدواجية إنما تكريسا للمصالح الغربية أينما وجدت .
وبالانتقال إلى الداخل العربي، فإن الفكر الوقوعي يسود على الواقعي ويسبقه بأشواط عدة وذلك من حيث الفكر الرسمي أو بعض النخبوي المروج له أو جزء من الشعبي المغرر به، سواء أكان في الفكر العربي الكلي أو الفردي لكل دولة على حدة، وتظهر دلائل ذلك من خلال المعايير التالية :
- إن الدول العربية مجتمعة غير قادرة على مواجهة الاحتلال الصهيوني أو الأميركي، وهو ما يجب الإقرار به والتفاوض للوصول إلى حلول سلمية. وقد سقط هذا الادعاء على يد مقاومة العراق ولبنان .
- إن امتلاك السلاح النووي غير وارد في المنطقة العربية ويجب التمسك بهذا المبدأ، والعمل على بناء شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل. وهو ما شجع الولايا ت المتحدة لاحتلال العراق من حيث تأكدها من خلوه من تلك الأسلحة وهو ما يعيق أي تحرك عسكري أميركي تجاه إيران –إن كان هناك تحرك– فيما تتعاظم القدرات النووية الإقليمية، وقد تلاشى مفهوم الردع العربي، ولتغدو الحلول العربية الاستسلامية الخيار الأوحد المتاح .
- إن الاعتراف بالكيان الصهيوني أمر واقع لا بد منه، في ظل بناء دولتين متجاورتين، وتم تقديم مبادرات اعتراف وتنازل كمبادرة 2002 ليرفضها بدوره الكيان الصهيوني في إدراك منه أنها لم تأت إلا نتيجة انهيار مفهوم الأمن القومي العربي وضعف العرب عن استعادة حقوقهم سوى بتلك الوسيلة .
- الدولة القطرية هي الصيغة الواقعية للتعايش والتنمية في المنطقة، وما مشروع الدولة العربية الواحدة إلا استنزاف للقدرات في تنظير فلسفي غير قابل للتطبيق. وقد أسقط هذا الادعاء ذاته من خلال تراجع المستوى التنموي والمعيشي إلى أدنى مستوياته في ظل استغلال الخارج لموارد الداخل .
- وجوب احترام القوانين والقرارات الدولية والانصياع لها، كالقرار 1701 على سبيل المثال، لإثبات سلمية التوجه العربي وحسن نواياه أمام الخارج المحتل، ودفعا بالكيان الصهيوني ومطالبة له بالانصياع بدوره لتلك القرارات، وإلا "فكيف لنا أن نطالب بحقوقنا المقررة في تلك القرارات إن لم نلتزم بدورنا بالقرارات المفروضة علينا". فهل أدى ذلك إلا لمزيد من التنازلات العربية والضعف السياسي والعسكري، بل هل ألزم الكيان الصهيوني بالامتثال لتلك القوانين، وهل انسحابه من جنوب لبنان سوى تحت ضربات السلاح المقاوم لا انصياعا، وهل اندحاره من غزة كان نتيجة لاتفاقيات أوسلو أم للتخلص من عبء غزة العسكري والديموغرافي؟
بل إن دراسة شاملة للفكر السياسي العربي وممارساته تظهر كثيرا من إسقاطات الوقوعية في العمل العربي، والتي أعادت العرب إلى عصر الاستعمار من جديد وصولا إلى التهديد الوجودي، وذلك تحت شعارات الواقعية .
إن بناء الدولة العربية – إن كان متاحا اليوم – وفقا لرؤية واقعية ، يستلزم العمل وفق برنامج زمني يعتمد مجموعة من الآليات، علّ أهمها :
- اعتبار الوحدة العربية مآلا يجب الوصول إليه بعد مجموعة من الخطوات التمهيدية التقريبية لما حصل من شروخ في الأمة، بعد العمل على تقريب ثقافي – اقتصادي. والعمل على عقد مؤتمرات لنخب الأمة للبحث في أسلم الطرق وأقصرها للوصول إلى بناء الدولة الواحدة، وإزالة التخوفات لدى الدول الصغرى من أية انعكاسات سلبية للوحدة عليها. إضافة للاعتراف بأخطاء الأمة في محاولة لتصحيحها وتجاوزها .
- توحيد مفهوم الأمن ، وفي ظله تحديد صفات العدو، والعمل معا على اعتبار التدخل الخارجي بكل أشكاله اعتداء على الدول العربية المشكلة مستقبلا للدولة الواحدة. وبناء قدرات عسكرية شاملة بما فيها السلاح النووي، بحيث تتوزع الأدوار بين الدول العربية في تلك الصناعات كل حسب إمكانياته المادية أو البشرية أو العلمية أو الجيو سياسية، وإعادة تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك من خلال بناء قيادة عسكرية موحدة بين الدول العربية الكبرى، تمهد لتكوين جيش عربي يفوق تعداده أكبر الجيوش العالمية بكل ما يستلزم من عتاد حديث مستورد أوليا ومصنع محليا لاحقا .
- رفض أية مشاريع تقسيمية أو احتلالية أو استغلالية، ودعم جميع أطراف المعارضة العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية .
- إن بناء نظام دولي جديد يعتمد على ظهور قوى تملك قدرات اقتصادية تؤهلها عسكريا لبلوغ مصاف التعددية القطبية، وهذا بدوره مرتهن بنفط الوطن العربي مما يعني القدرة العربية بالدفع بتلك الدول من خلال مجموعة من التسهيلات لتسريع ظهورها، وهو ما يكسب العرب حلفاء جدد في مواجهة المد الامبراطوري الأميركي من جهة، ويسمح بتشكل مجموعات ضغط عربية داخل تلك الدول .
- البدء بشكل مترابط ومتلاحق بمجموعة من الخطوات التعزيزية لقوة الأمة، ومنها :
- التحول بشكل جماعي من الدولار إلى سلة من العملات غير الدولارية، ريثما يتم بناء العملة العربية الموحدة . وذلك في الاحتياطي الاستراتيجي ومبيعات النفط والتعاملات الدولية .
- سحب الأموال العربية نحو الداخل العربي بتلك العملات ، والعمل على استغلالها داخليا في مشاريع تصنيعية من الدرجة الأولى .
- تنشيط الاستيراد والتصدير البيني العربي ، وفرض رسوم على البضائع الأجنبية التي لها مثيلات عربية . والتقليل من استنزاف المال العربي لصالح الخارج .
- الانسحاب الجماعي من منظمات على شاكلة الأمم المتحدة والتجارة العالمية والبنك الدولي وما شابهها ، ورفض قراراتها وعقودها .
- تفعيل وإعلاء شأن جامعة الدول العربية وأمينها العام ومؤسساتها المتفرعة عنها .
- العمل على بناء منظمة دولية للتنسيق بين ما يعرف بدول العالم الثالث، يكون مقرها داخل الوطن العربي لحشد تأييد وصداقات عالمية .
إن ما تقدم لهو جزء بسيط من كل أكبر لواقعية عربية قد تسهم بتغيير جذري دولي في حال توافر الرغبة العربية لذلك مع العلم بتوافر القدرة رغم جميع الدعوات الوقوعية التي تدعي فقر ذات اليد عن أي تغيير، وإلا فإن مستقبلا كواقع العراق المؤقت قد يكون دائما في كل أرجاء الدول العربية. وعلّ القمة العربية – غير المنتظرة نتائجها – راغبة في قراءة واقعية للوضع العربي الراهن والمستقبلي .
عبد القادر نعناع
منشور في موقع التجديد العربي