د. عبد القادر نعناع

لا خيارات أمريكية جيدة بخصوص إيران: إحياء الاتفاق النووي أقلها سوءاً

د. عبد القادر نعناع • ٢ فبراير ٢٠٢٢
باتت إيران أقرب من أي وقت مضى، من امتلاك القدرة على صنع سلاح نووي، فبعد انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015، بدأت طهران في تخصيب اليورانيوم إلى مستويات أعلى، وقامت بتخزين المزيد منه. نتيجة لذلك، تمتلك إيران اليوم القدرة على إنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية في أقل من شهر، وذلك مقارنة بالمدة الزمنية التي كانت ستصل إلى سنة كاملة، قبل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018.

وبينما يكرر كل من قادة إيران وإدارة الرئيس جو بايدن، رغبتهم بالعودة إلى اتفاق عام 2015، لكن الطرفين ما يزالا متباعدين بشأن أي الخطوات تسبق الأخرى: إيقاف التخصيب النووي أم تخفيف العقوبات، وحول المدى الذي يجب أن تتخذه هذه الخطوات وكونها بعيدة المدى. في المقابل، وبينما تستمر المحادثات دون حل، تستمر أجهزة الطرد المركزي الإيرانية بالعمل، ففي أواخر ديسمبر/كانون الأول، حذرت الحكومات الأوروبية من أن "الأسابيع، وليس الأشهر"، المتبقية قبل استعادة الاتفاق القديم لم تعد ممكنة. 

الحقيقة المرة اليوم، هي أن الولايات المتحدة بات لديها قليل من الخيارات الجيدة لاحتواء البرنامج النووي الإيراني. إذ يمكن لها أن تستمر في الوضع الراهن بلا اتفاق، وهو ما يسمح لإيران بمواصلة الاقتراب تدريجياً من صنع القنبلة رغم المعاناة تحت العقوبات. كما يمكن للولايات المتحدة متابعة مسار العودة إلى اتفاق 2015 ثم محاولة حمل إيران على الموافقة على اتفاق "أطول وأقوى"، كما اقترح فريق بايدن. كما يمكن أن تحاول عقد صفقات أخرى مختلفة، إما أكثر أو أقل صرامة من اتفاق 2015.

أو يمكن للولايات المتحدة أن تحاول تدمير البنية التحتية النووية لإيران، عبر ضربة عسكرية، ما قد يعيق تقدم طهران نحو صنع قنبلة لبضع سنوات، لكن من شبه المؤكد أن هذه الضربة ستثير انتقاماً إيراناً وربما حث الخطى نحو خط النهاية النووي.

ويبدو أن من بين هذه الخيارات، فإن خيار العودة إلى اتفاق 2015 هو الأقل سوءاً. وسيُبعِد إيران عن حافة الهاوية النووية، وسيوفّر أملاً متواضعاً لإجراء مزيد من المحادثات حول المشاكل الصعبة مثل برنامج الصواريخ الإيراني، وملف دعمها للجماعات المسلحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد يشكل مخاطر أقل بكثير من محاولة ضرب برنامج إيران عسكرياً، ومن المرجح أن تكسب الولايات المتحدة المزيد من الوقت. لكن مكاسب إيران المعرفية لا رجوع عنها، ما يعني أن العودة إلى الاتفاق القديم لن يكون عائقاً قوياً أمام صنع القنبلة، كما كان قبل أن يمزقه ترامب، وسيكون حمل طهران على الموافقة على تعزيز الصفقة بمرور الوقت أمراً صعباً.

 
الطموحات النووية

تزعم إيران أن برنامجها النووي المستمر منذ عقود كان دائماً برنامجاً سلمياً بالكامل. لكن مجموعة واسعة من مصادر المعلومات –أكدها ووسّعها أرشيف الوثائق الإيرانية التي سرقها العملاء الإسرائيليون عام 2017– تثبت أنه على الأقل في الفترة من 1999 إلى 2003، سعت إيران إلى تصميم وتصنيع أسلحة نووية وإجراء تجربة نووية. وأنه كان هناك جهد شامل يتضمن كل عنصر لازم لإنتاج مواد نووية وتصنيعها في قنابل. قاد البرنامج السري محسن فخري زاده، العالم النووي وضابط الحرس الثوري الإسلامي، الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية، بحسب تقارير، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

في أواخر عام 2003، بعد أن غزت الولايات المتحدة العراق، وبدأ المفتشون الدوليون في التحقيق في بعض الأنشطة الإيرانية السرية، أغلقت إيران أجزاء من برنامجها التي كان يمكن تحديدها على أنها جهود لصنع أسلحة نووية أو التي كانت لا تزال سرية. لكن إيران واصلت برنامجها المفتوح لتخصيب اليورانيوم –المناسب لصنع وقود منخفض التخصيب للمفاعلات، وكذلك المواد عالية التخصيب للقنابل–، وبناء "مفاعل أبحاث" في أراك كان مناسباً تماماً لإنتاج بلوتونيوم يُستَخدم في صنع الأسلحة.

بحلول عام 2015، كانت إيران قد أتقنت تخصيب اليورانيوم بالطرد المركزي، وركبت آلاف أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول، وبدأت في اختبار أجهزة طرد مركزي أكثر تقدماً يمكنها تخصيب اليورانيوم بشكل أسرع، وتخزين كميات كبيرة من اليورانيوم منخفض التخصيب.

إذ يُعد تخصيب اليورانيوم عملية تصاعدية، بمعنى أنه بمجرد رفع نسبة التخصيب من 0.7 في المائة لليورانيوم 235 كما يكون في حالة الطبيعة، إلى نسبة 4 في المائة المناسبة لصنع وقود المفاعل، تكون قد أنجزت بالفعل ثلثي العمل للوصول إلى المواد المخصبة بنسبة 90 في المائة التي تستخدم عادة للأسلحة النووية. بعبارة أخرى، كان مخزون إيران الضخم من اليورانيوم منخفض التخصيب، يعني أنها كانت تمتلك ثلثي الطريق لإنتاج اليورانيوم عالي التخصيب لقنبلتها الأولى، وهي عملية قدّر المسؤولون الأمريكيون علناً أن إيران كان من الممكن أن تكملها في غضون ثلاثة أشهر.

غيّر الاتفاق النووي لعام 2015 كل ذلك. ففي مقابل تخفيف العقوبات، ووافقت إيران على عدم تصميم أو بناء أسلحة نووية مطلقاً، وقامت بتخزين أكثر من ثلثي أجهزتها للطرد المركزي، والتخلص من 98 في المائة من اليورانيوم المخصب، وسكبت الإسمنت في قلب مفاعل أراك، كما وافقت على عدم إجراء مجموعة من الأنشطة ذات الصلة بتطوير القنبلة النووية، ووافقت على مجموعة بعيدة المدى من إجراءات التفتيش.

تم تصميم هذه الشروط لإطالة الجدول الزمني اللازم أمام لإيران لإنتاج مواد القنابل، إلى حدود ما يقرب من عام، وهو وقت كافٍ للمجتمع الدولي لاكتشاف مثل هذا الجهد واتخاذ إجراءات لوقفه.

كان الاتفاق النووي حلاً وسطاً، واحتوت قيود التخصيب الخاصة به على "بنود انقضاء" تنتهي صلاحيتها في غضون عشر إلى 15 عاماً، فيما كانت أحكام التفتيش الخاصة بها، ورغم كونها غير مسبوقة، وبعيدة كل البعد عن "أي وقت مضى وفي أي مكان سابق"، إلا أنها لم تطلب من إيران الاعتراف بكل أنشطتها النووية السابقة. علاوة على ذلك، منح رفع العقوبات وإلغاء تجميد الأصول، إيران، المزيد من الأموال، ذهب بعضها لدعم الجماعات المسلحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط أو لتعزيز برنامجها الصاروخي، ولم يشمل الاتفاق أياً من ذلك.

رأى مؤيدو الاتفاق أنه "أرضية وليس سقفاً"، على أمل أن تؤدي فوائد التعاون والتكامل الاقتصادي المتزايد مع الغرب إلى عقد صفقات إضافية، وفي النهاية علاقة مختلفة مع إيران، ولم يحدث شيء من ذلك بالطبع. إذ قام ترامب بالانسحاب من الاتفاق عام 2018، وفرض عقوبات صارمة على إيران، واضطرت الشركات في جميع أنحاء العالم للامتثال، خشية إقصائها من السوق والنظام المالي الأمريكي. فيما تراجعت العملة الإيرانية، وارتفع معدل التضخم والبطالة وتزايد الفقر في إيران.

ومن اللافت للنظر أن إيران استمرت في الامتثال لشروط الاتفاق لمدة عام بعد انسحاب الولايات المتحدة، مع التأكيد على أن اللوم سيقع بحزم على واشنطن. بدأت بعد ذلك في تجاوز قيود الاتفاق، متجاوزة تدريجياً حدود التخصيب حتى يناير/كانون الثاني 2020، حين أعلنت أخيراً أن برنامج التخصيب الخاص بها لن يكون مقيداً بالاتفاق على الإطلاق.

 
الهاوية النووية

اليوم، إيران أقرب ما تكون إلى صنع القنبلة من أي وقت مضى. إذ تظهر أحدث التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي نُشرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أن إيران تجاوزت حدود اتفاق 2015، ويقوم خبراء طهران بصب معدن اليورانيوم، ويكتسبون خبرة قيّمة يحتاجونها لصنع مكونات أسلحة اليورانيوم. كما تجاوزت إيران حد التخصيب البالغ 3.67 في المائة التي حددها اتفاق عام 2015، وهي الآن تخصب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 60 في المائة، وهي نقطة انطلاق سهلة لإنتاج يورانيوم مخصب بنسبة 90 في المائة وهي نسبة الوصول إلى الأسلحة النووية (أو المواد التي يمكن لإيران استخدامها مباشرة في الأسلحة إذا قامت بتعديل تصميمات أسلحتها النووية وصواريخها).

في غضون ذلك، نمت مخزونات إيران من اليورانيوم المخصب إلى أكثر من سبعة أضعاف الحد المسموح به في عام 2015، ولديها ما يكفي من اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المائة، 60 في المائة، لصنع قنبلة بسرعة من اليورانيوم عالي التخصيب المستخدم في صنع الأسلحة.

وعلى الرغم من الانفجار الدراماتيكي في أبريل/نيسان الماضي في أكبر منشأة تخصيب لديها، الذي يُزعم أنه نتيجة لعملية إسرائيلية، فإن إيران تُشغِّل عدداً من أجهزة الطرد المركزي أكثر مما يسمح به اتفاق عام 2015، بما في ذلك مئات من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، وتختبر أجهزة أكثر تقدماً.

إن مزيج مخزون اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزي المتقدمة، سيمكّن إيران من إنتاج المواد اللازمة لقنبلة أولى في غضون شهر تقريباً، وهو إطار زمني سيستمر في التقلص مع زيادة مخزون طهران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 بالمائة. وفي غضون شهرين آخرين بعد الاختراق الأول، يمكن أن يكون لدى إيران ما يكفي من المواد لصنع قنبلة ثانية، ثم الثالثة والرابعة بعد ذلك بوقت قصير.

في الوقت نفسه، ألغت إيران المراقبة الإضافية المتفق عليها في اتفاق عام 2015، واستمرت في تقديم معلومات خاطئة حول منشأ مفتشي جزيئات اليورانيوم الصناعي، التي تم العثور عليها في عدة مواقع غير معلنة (على الرغم من استمرارها في السماح بالتفتيش على برنامجها النووي المعلن).

قد تؤدي العودة إلى اتفاق عام 2015 إلى تأخير بعض التقدم النووي الإيراني، والتخلص من مخزونات اليورانيوم المخصب الإضافي، وإعادة التخصيب إلى 3.67 في المائة، وإيقاف تشغيل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة. لكن المعرفة التي اكتسبها الإيرانيون لم يعد بالإمكان محوها. ويوماً بعد يوم، يكتسب الإيرانيون مزيداً من المعرفة في تخصيب معدن اليورانيوم، وتشغيل وتصنيع أجهزة الطرد المركزي عالية الأداء، والتعامل مع اليورانيوم عالي التخصيب دون التسبب في ردود فعل متسلسلة عرضية، وإحباط المفتشين الدوليين دون إثارة رد جاد.

ومع ذلك، فإن إنتاج ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع سلاح نووي يختلف عن صنع سلاح نووي. فلصنع سلاح، سيتعين على إيران صب مكونات اليورانيوم وآليتها، وتصنيع متفجرات متنوعة لسحق كرة من اليورانيوم بكثافة أعلى بكثير، وصنع صواعق موقوتة بشكل متقن لتفجير تلك المتفجرات من جميع جوانب القنبلة في نفس الوقت، وبناء جهاز لإطلاق وابل من النيوترونات في اللحظة المناسبة لبدء التفاعل المتسلسل.

لقد عملت إيران على كل ذلك في برنامجها النووي القديم، لكن من غير الواضح إلى أي مدى تآكلت قدرات صناعة القنابل الإيرانية خلال 18 عاماً منذ انتهاء الأجزاء الرئيسة من جهود التسليح، أو إلى أي مدى تسبب اغتيال فخري زاده والعلماء النوويين الآخرين –فضلاً عن الوفيات الطبيعية وتقاعد الآخرين– بإعادة البلاد إلى الوراء.

يبدو أن عملاء المخابرات الإسرائيلية متفائلون، ويقدرون أنه حتى بعد أن تنتج ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب، فإن إيران ستحتاج ما بين عام ونصف العام إلى عامين، لصنع قنبلة نووية. ربما يكون هذا الاتجاه صحيحاً، ما لم يكن لدى إيران مرافق سرية غير معروفة، ولكن بمجرد أن تنتج إيران ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب، يمكنها إخفاء المادة بعيداً، مما يجعل من الصعب جداً العثور على أي برنامج لتصنيع قنبلة وتعطيله.

 
خيارات قاسية

إن التقدم السريع الذي أحرزته إيران على الجبهة النووية لم يترك للولايات المتحدة سوى القليل من الخيارات الجيدة. وبدون اتفاق نووي جديد، سيكون برنامج طهران النووي غير مقيد بشكل حقيقي، أو مجرد قيد الخوف من استفزاز ضربة عسكرية هو ما سيحد من تقدم إيران نحو صنع قنبلة. وبينما لا تزال معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية –إيران طرف فيها– تحظر على طهران صنع أسلحة نووية، لكن المعاهدة لا تمنع إنتاج أو تخزين المواد النووية الصالحة للاستخدام في الأسلحة، طالما أنها تخضع للتفتيش الدولي. نتيجة لذلك، قد تختار إيران زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المائة بحيث يكون لديها ما يكفي، إذا تم تخصيبه، لعدة قنابل نووية.

ومن المرجح أيضًا أن تواصل إيران اختبار وتصنيع أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، بحيث تكون جاهزة للتحرك بسرعة –ربما في موقع سري–، إن قررت يوماً ما اتخاذ الخطوة الأخيرة نحو الأسلحة النووية.

وبالتالي، فإن الأدوات الحقيقية الوحيدة التي سيتعين على الولايات المتحدة امتلاكها، لتقييد إيران في هذه الحالة، هي التخريب والعقوبات. قد تحدّ العقوبات بدورها –بشكل متواضع– من الدعم المالي لإيران للجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، لكنها ستسبب أيضاً معاناة كبيرة للشعب الإيراني. في المقابل، يمكن للتخريب أن يخلق نكسات لإيران، لكنها نكسات مؤقتة فقط، إذ لم يمنع أي منها –حتى الآن– إيران من إحراز تقدم جوهري نحو صنع قنبلة نووية. وتأتي مثل هذه الإجراءات مع مخاطرها الخاصة، والتي من المحتمل أن تزيد من الشعور الإيراني بالتهديد الذي يقوي موقف دعاة صنع القنابل في طهران، وقد يؤدي إلى تكثيف "حرب الظل" منخفضة المستوى بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج.

في المقابل، إن تمكنت الولايات المتحدة من إحياء اتفاق 2015، سيقلل هذا من مستوى التهديد النووي الذي تشكله إيران، لكن ليس بالقدر الذي فعله الاتفاق الأصلي. فقد مضت أكثر من ست سنوات من الوقت الذي اشتراه الاتفاق، إلى جانب انقضاء معظم الآمال بأن يؤسس الاتفاق عادات التعاون التي يمكن لها بناء اتفاقيات إضافية عليها.

وحتى إن أوقفت إيران أجهزة الطرد المركزي الإضافية، وتخلت عن مخزونها الإضافي من اليورانيوم المخصب، فمن المحتمل أن تكون قادرة على تشغيل أجهزة الطرد المركزي نفسها مرة أخرى، في مواقع معروفة أو سرية، في وقت قصير نسبياً، ذلك إن اختارت انتهاك الاتفاقية.

كما يمكنها صنع المزيد من أجهزة الطرد المركزي، وتوسيع قدرتها على التخصيب بشكل أسرع بكثير مما كانت ستتمكن من ذلك قبل انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق 2015. (أحد أسباب عدم اليقين الرئيسة هو مدى سرعة إيران في صنع وتركيب المزيد من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة هذه).

ووفقاً لإحدى التقديرات، فإن إحياء الاتفاق النووي من شأنه أن يطيل الجدول الزمني لإيران لإنتاج مواد قنبلة ما إلى خمسة أو ستة أشهر، وهي مدة مقدرة اليوم بشهر واحد فقط، فيما كانت مقدرة بعام تقريباً عندما تم تنفيذ الاتفاق بالكامل لأول مرة في عام 2016. وستشمل العودة إلى الاتفاق مرة أخرى رفع العقوبات الرئيسة عن إيران، وتقوية الحكومة الإيرانية وتقليل النفوذ الغربي.

وقد اقترح بعض الخبراء قبول نهج "الأقل مقابل الأقل"، فعلى سبيل المثال: يتم حمل إيران على التخلي عن مخزوناتها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المائة، والتوقف عن تخزين المزيد من اليورانيوم المخصب، ووقف تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة مقابل رفع بعض العقوبات. قد يُكسِب مثل هذا الترتيب بعض الوقت للمحادثات، لكنه ليس بأي حال من الأحوال حلاً طويل الأمد.

وقد حث آخرون إدارة بايدن، على التخلي عن إحياء اتفاق 2015، وفرض عقوبات أكثر صرامة لإقناع إيران بتقديم تنازلات، وعرض نهج "المزيد مقابل المزيد"، الذي يشترط أن تقبل فيه طهران قيوداً أكثر جوهرية من اتفاق 2015 –ربما مقترنة ببعض قيود على صواريخها وأنشطتها الإقليمية– مقابل رفع المزيد من العقوبات (وربما مزايا أخرى).

لكن الفوضى الحالية هي نتيجة حملة "الضغط الأقصى" التي قادها ترامب، لذلك ليس هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن المزيد من نفس النهج سيؤدي إلى انفراج. ففي طهران، برر انسحاب ترامب من الاتفاق موقف أولئك الذين يجادلون بأن واشنطن لن تكون شريكاً موثوقاً به أبداً، وهؤلاء المتشددون يمتلكون الآن أدوات السلطة. علاوة على ذلك، يفترض أحدث اقتراح موازنة قدّمه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن الاقتصاد الإيراني سينمو بنسبة ثمانية بالمائة في سنة الموازنة القادمة حتى بدون اتفاق نووي، مما يشير إلى أنه لا يشعر بالحاجة الملّحة لتقديم تنازلات. وتاريخياً، استجابت إيران للضغوط الغربية في بناء نفوذ عليها، من خلال محاولة بناء نفوذ مضاد خاص بها، وهو ما يفسر جزئياً، سبب قيام إيران بنشر الكثير من أجهزة الطرد المركزي، وتخزين الكثير من اليورانيوم المخصب، ودعم العديد من الجماعات المسلحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

قد يكون المسار الأكثر منطقية للتوصل إلى اتفاق أطول وأقوى، هو العودة أولاً إلى الاتفاق الأصلي، ثم محاولة إطالته وتقويته في المفاوضات اللاحقة، هذا يستحق المحاولة. ولكن نظراً لأن العودة إلى اتفاق 2015 سيتطلب رفع العديد من العقوبات عن طهران، فإن نفوذ واشنطن لشروط أفضل في المستقبل سوف تتقلص.

الخيار الأخير هو توجيه ضربة عسكرية، والتي يمكن أن تعطل مؤقتاً الكثير من البنية التحتية النووية الإيرانية. ورغم أن إيران يمكن أن تستخدم محطة فوردو لتخصيب الوقود –المحطة العميقة تحت الأرض– لإنتاج مواد القنابل، فإن بعض أنواع القنابل الخارقة للتحصينات يمكن أن تدمر المحطة، ويمكن تدمير الأنفاق المؤدية إلى الموقع. لكن سيتعين أيضاً تدمير المنشآت النووية الأخرى، جنباً إلى جنب مع الدفاعات الجوية الإيرانية المكثفة، مما يجعل مثل هذا الهجوم عملية جوية كبيرة ومعقدة، وهي أصعب بكثير من ضربات موقع واحد التي شنتها إسرائيل ضد مفاعل تموز العراقي عام 1981 ومفاعل الكبر في سوريا عام 2007.

مع التأكيد على أن الجيش الأمريكي قادر على تنفيذ مثل هذا الهجوم، بينما تعمل إسرائيل على تحسين قدرتها على القيام بذلك (رغم أن قدراتها للتزود بالوقود على المدى الطويل وخرق المخابئ محدودة بشكل أكبر). لكن بعد ذلك، من المرجح أن تعيد إيران البناء في مواقع سرية، وقد تقرر طرد المفتشين ومحاولة بناء سلاح نووي قبل اكتشافه ومهاجمته مرة أخرى. بعبارة أخرى، قد تؤدي مثل هذه الضربة إلى زيادة –بدلاً من تقليل– الاحتمال طويل الأمد لامتلاك إيران قنبلة نووية.

تتراوح تقديرات الوقت الذي يمكن أن تشتريه الضربة العسكرية من سنتين إلى خمس سنوات، وهو أقل مما يمكن أن توفره صفقة متفاوض عليها. وإن عثرت وكالات الاستخبارات الأجنبية في أعقاب الضربة على مواقع سرية جديدة، فستكون هناك حاجة إلى جولة أخرى من الضربات وربما أخرى بعد ذلك.

ومن شبه المؤكد أن إيران ووكلائها سيردون، ولديهم العديد من الخيارات، من الصواريخ بعيدة المدى التي يمكن أن تصل إلى إسرائيل، إلى ما يقدر بـ 100000 صاروخ ومقذوف في أيدي حزب الله، إلى الطائرات بدون طيار فائقة الدقة (درون)، التي نفذت ضربات تحذيرية لأكبر منشأة نفطية سعودية عام 2019.

في المقابل، فإن كلا الطرفين إيران والولايات المتحدة، لا يرغبان في حرب أخرى واسعة النطاق في الشرق الأوسط، وخطر التورط في واحدة من مثل هذه الحروب سيكون كبيراً. وبالطبع، فإن الهجمات العسكرية على دول أجنبية دون مبرر الدفاع عن النفس هي هجمات محظورة بموجب القانون الدولي. بشكل عام، فإن خيار الضربة العسكرية هو الأكثر خطورة على الإطلاق، على الرغم من أنه يجب التفكير فيه إذا بدأت إيران سباقاً للحصول على القنبلة.

 
التجرّع الصعب، والاتفاق

باختصار، ترك التقدم النووي الإيراني للولايات المتحدة بعض الخيارات السيئة، فلن تُكسِب استعادة اتفاق 2015 الكثير من الوقت أو الأمان كما فعل الاتفاق الأصلي، ولكن القيام بذلك هو أفضل مجموعة من الخيارات السيئة. إذ لن تؤدي العودة إلى الاتفاق فقط إلى تقييد برنامج إيران من الناحية الفنية، ولكن من خلال تقليل التهديدات الموجهة لإيران وخلق تدفق للمنافع ناتج عن التعاون مع الغرب، كما سيضعف التيار المؤيد لصنع القنبلة النووية في طهران، ويعمل على تقوية أولئك الذين يجادلون بضرورة احتفاظ إيران بخيار بناء القنبلة، دون تكبد تكاليف بنائها فعلياً.

في نهاية المطاف، تمتلك إيران القدرة التقنية على صنع سلاح نووي. وعليه يجب أن يكون هدف واشنطن إقناع قادة إيران باختيار عدم القيام بذلك. وعليه فإن إدارة بايدن محقة في محاولة إيجاد طريق للعودة إلى الامتثال للاتفاق الأصلي، ومن هناك إلى اتفاق متابعة أطول وأقوى. ولكن مع تشكك القيادة الإيرانية المتشددة بشكل مبرر في الوعود الأمريكية، فليس هناك ما يضمن إمكانية العودة إلى اتفاق 2015.

وبمرور الوقت، ستستمر فوائد العودة إلى الاتفاق الأصلي بالتقلص. علاوة على ذلك، لن يكون من السهل الحد من مخاطر البرنامج النووي الإيراني بعد انتهاء بنود الانقضاء، ولن يكون من السهل تقييد برنامجها الصاروخي المتقدم، أو معالجة دعمها للجماعات المسلحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. في النهاية، المطلوب هو علاقة مختلفة بين إيران وجيرانها في الشرق الأوسط والغرب، وستكون العودة إلى الاتفاق النووي خطوة إلى الأمام على هذا الطريق الطويل والصعب.

 

تأليف: ماثيو بون: أستاذ تطبيقات الطاقة والأمن القومي والسياسة الخارجية بجامعة جيمس ر. شليزنجر، ورئيس هيئة مشروع إدارة الذرة في كلية هارفارد كينيدي.

ترجمة: عبد القادر نعناع: باحث وأكاديمي مختص بشؤون الشرق الأوسط.

للعودة إلى النص الأصلي، انظر:


Matthew Bunn, "America Has No Good Options on Iran: But Reviving the Nuclear Deal Is the Least Bad", Foreign Affairs, January 17, 2022:

https://www.foreignaffairs.com/articles/israel/2022-01-17/america-has-no-good-options-iran


بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: