المؤلف: أ.د. ولي نصر.
ترجمة: د. عبد القادر نعناع
يعتبر شعار إدارة بايدن للشرق الأوسط، شعاراً بسيطاً، متمثلاً في: "إنهاء" الحروب الأبدية end the ‘forever wars". فالبيت الأبيض منشغل بإدارة التحدي الذي تشكله الصين، وتتمثل أولوياته في عزل الولايات المتحدة عن صراعات الشرق الأوسط التي لا نهاية لها، والتي لا يمكن الانتصار فيها. لكن فك ارتباط الولايات المتحدة يهدد بترك فراغ سياسي تملأه الخصومات الطائفية، وهو ما يمهد الطريق لمنطقة غير مستقرة بل وأكثر عنفاً.
إن الصراع على الأسبقية الجيوسياسية بين الثيوقراطية الشيعية الإيرانية والدول العربية السنية، ومؤخراً تركيا السنية، يؤجج صراعاً في جميع أنحاء المنطقة، ما يؤدي إلى تآكل المواثيق الاجتماعية، وتفاقم اختلال الدول، وتحفيز الحركات المتطرفة.
لقد استخدم كلا الجانبين، الهوية الدينية سلاحاً لأغراضهم الخاصة، واستخدموها لحشد المؤيدين وتعزيز نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة. نتيجة لذلك، لا يزال الشرق الأوسط، وعلى امتداده الواسع، مضطرباً.
وعلى الرغم من احتفاظ إيران باليد العليا فيه، إلا أن التحديات التي تواجه موقعها تتزايد في جميع أنحاء المنطقة. فلقد سئم السنة من التطرف الخبيث، لكن الغضب الذي غذى صعود الدولة الإسلامية (داعش) لا يزال ثابتاً. وحركات التمرد الجديدة في الأجزاء المنهارة من المنطقة، سوف تُشعِل بلا شك هذا الغضب مرة أخرى. فغضب السنة في العراق ولبنان وسوريا يتزايد، نتيجةً لتحركات طهران وحلفائها لتشديد قبضتهم على المنطقة. فيما يظهر الإرهاب في أفغانستان مرة أخرى، حيث تنزلق البلاد إلى الفوضى في أعقاب هيمنة طالبان. وبدون أي عملية سياسية لنزع فتيل هذه التوترات، فمن المحتّم أن تندلع موجات جديدة من الاضطرابات وإراقة الدماء في المنطقة.
ولم يؤدِّ تدخل إسرائيل في هذه الصراعات الطائفية إلى جانب القوى السنية، إلّا إلى صب الزيت على النار. فبسبب تدخل إسرائيل، بات الاستقرار الإقليمي خاضعاً بدرجة أكبر لمصير البرنامج النووي الإيراني. فيما تناقش الولايات المتحدة وإسرائيل بالفعل "الخطة ب"، في حال ظلت التسوية الدبلوماسية بعيدة المنال. هذا المسار/الخطة من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة على مسار تصادمي، بالإضافة إلى ما قد يتسبب به من تفاقم التوترات الطائفية، وتعميق الانقسامات المجتمعية، وإثارة صراعات جديدة من بلاد الشام إلى أفغانستان.
تأتي رغبة واشنطن في بذل جهود أقل في الشرق الأوسط، في وقت تميل فيه الصين وروسيا إلى التدخل في المنطقة، فيما تثبت حكومة إيران المتشددة أقدامها في أعقاب الانسحاب الأمريكي، بينما تبدو الدول العربية السنية أقل ثقة من أي وقت مضى بشأن الضمانات الأمنية الأمريكية. وما لم تمهد الولايات المتحدة الطريق لنظام إقليمي أكثر استقراراً –بدءاً من إبرام صفقة بشأن برنامج إيران النووي–، فقد تجد الولايات المتحدة نفسها منجرفة مرة أخرى إلى صراعات الشرق الأوسط العديدة، رغم ما تبذله من قصارى جهد للانسحاب منها.
تسليح الإسلام
تعود أصول التنافس بين الشيعة والسنة إلى بدايات الإسلام، وعلى مر القرون، طورت الطائفتان تفسيرات متميزة للشريعة الإسلامية والممارسات الدينية. ومع ذلك، فإن الخلاف بين الجماعتين اليوم، ليس متجذراً في اللاهوت بل في الصراع على السلطة. إذ يعتبر التشيع والتسنن من علامات الهوية البارزة التي تشكل الولاءات السياسية في المجتمعات المنقسمة.
لقد انحسرت حدة الاقتتال الطائفي على مدى العقدين الماضيين، لكن بروز الطائفية في سياسات المنطقة لم يتضاءل، وكذا الصراع بين إيران وخصومها السنة، وهي صراعات تتغذى على هذا الانقسام وتؤججه. فهاتان القوتان وجهان مختلفان لعملة واحدة.
لقد سمح الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لإيران بتوسيع نفوذها بشكل كبير في العالم العربي. ومنذ أن أسقطت الولايات المتحدة النظام الاستبدادي الذي ضمن حكم الأقلية السنية في بغداد، لعبت طهران بخبرة على الولاءات الطائفية لتمكين شبكة من الوكلاء المسلحين التي تمتد الآن من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن، مُشكِّلةً ما أطلق عليه الملك الأردني عبد الله الثاني، ذات مرة، "الهلال الشيعي". وبذلك، تكون إيران قد مكنت الشيعة على حساب السنة في جميع أنحاء المنطقة، وعززت نفوذها على منافسيها، مثل السعودية وتركيا والإمارات.
إن اندفاع العالم العربي نحو الديمقراطية والحكم الرشيد، ضمن ما سُمّيّ بالربيع العربي، قاد المستبدين، المُهدَّدين من قبل آفاق التغيير، إلى تسليح الطائفية بشكل أكبر. حيث أثار الرئيس السوري بشار الأسد الخوف من السنة لتخويف المجتمع العلوي السوري، الذي ينتمي الأسد إليه والذي تعود جذوره إلى الشيعة، بهدف الحصول على دعم يحفظ نظامه من ألا يتزعزع.
في البحرين واليمن، برّر الحكام حملات القمع العنيفة باتهام المحتجين الشيعة بأنهم وكلاء لإيران. إذ عزّزت إيران وخصومها العرب هذه الديناميكية من خلال حشد أنفسهم وراء عملائهم الشيعة والسنة، واستخدام "رؤية الأخوة الدينية" أدواتٍ لحماية نفوذهم الإقليمي.
في هذه الأثناء، توسعت بصمة إيران الإقليمية بالتوازي مع برنامجها النووي. على الرغم من أن الولايات المتحدة كبحت بشكل فعّال طموحات إيران النووية عام 2015 من خلال صفقة بوساطة دولية، فقد ثبت أن احتواء طموحاتها الإقليمية أمر بعيد المنال. وأثار إصرار واشنطن على عدم إدراج المسائل الإقليمية في المحادثات النووية حفيظة حلفائها العرب، الذين كانوا آنذاك على وشك نهاية خاسرة للحروب الطائفية بالوكالة في العراق وسوريا واليمن. وقد عزز الرئيس الأمريكي باراك أوباما مخاوفهم بشأن التزام واشنطن بمساعدتهم في هذه الصراعات، عندما قدم نصحاً يرى فيه بأن الإيرانيين والسعوديين بحاجة إلى "إيجاد طريقة فعالة لجوار تشاركي فيما بينهم".
اعتبرت الدول العربية السنية، أن الاتفاق النووي، كان بمثابة خطوة ختامية تكمل رفض إدارة أوباما السابق الإطاحة بنظام الأسد. فمن وجهة نظر القادة العرب، أدى هذان القراران إلى قلب ميزان القوى الإقليمي بشكل قاطع لصالح طهران: إذ أدى الفشل في الإطاحة بالأسد إلى تمكين حلفاء طهران الشيعة في دول أخرى، وفشل الاتفاق النووي في كبح تدخل إيران الإقليمي. وبالنسبة للزعماء العرب، بدا الأمر وكأن الولايات المتحدة تبارك الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط.
بدروه، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متعاطفًا مع هذا الرأي، وانسحب من الاتفاق النووي عام 2018، مطالباً بأن يمتد الاتفاق الجديد إلى دور إيران الإقليمي. وفرضت حملته "الضغط الأقصى maximum pressure" عقوبات قاسية على إيران، بهدف جعل الحفاظ على وضع إيران المالي في العالم العربي مستحيلاً.
ففي عهد ترامب، اتخذت واشنطن عدة خطوات لكبح جماح إيران، بما في ذلك تنفيذ غارة جوية بطائرة بدون طيار في عام 2020 أسفرت عن مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، فرع الاستكشافات في الحرس الثوري الإيراني. وأبو مهدي المهندس، القيادي البارز لإحدى الميليشيات الشيعية العراقية. كما نجحت إدارة ترامب في ضرب الاقتصاد الإيراني، وزيادة البؤس الاجتماعي والاستياء السياسي. لكن محاولتها لفرض انسحاب إيراني أوسع نطاقاً من العالم العربي فشلت فشلاً ذريعاً.
على العكس من ذلك، ردت إيران بتصعيد التوترات الإقليمية: فهاجمت ناقلات في الخليج العربي، واستهدفت منشآت نفطية في السعودية، وشنت ضربة صاروخية جريئة على القواعد الجوية العراقية التي تأوي القوات الأمريكية، ما جعل إيران والولايات المتحدة أقرب إلى حافة الحرب أكثر من أي وقت مضى.
خرجت إيران من عهد ترامب أكثر عدوانية وفتكاً، ومنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، زادت إيران من مخزونها من اليورانيوم المخصب، ووسعت بنيتها التحتية النووية، واكتسبت المعرفة النووية الهامة. وهي الآن قريبة بشكل خطير من امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية.
لقد كان قرار إلغاء الاتفاق النووي، وليس قرار التوقيع عليه في المقام الأول، هو ما جعل إيران قوة أكبر في المنطقة. إذ تقدمت طموحات طهران النووية والإقليمية جنباً إلى جنب: وترى إيران أن برنامجاً نووياً موثوقاً به، سيوفر مظلة تحمي وكلائها في جميع أنحاء المنطقة، وهو ما يعزز بدوره نفوذ إيران بشكل أكبر. وبالتالي، كلما كانت المظلة النووية أكثر اتساعاً ومرونة، زادت فعالية الوكلاء الذين يعملون تحت حمايتها. في حين قلص اتفاق عام 2015 النووي، من نطاق البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يعني تقليص الحماية التي كان من الممكن أن توفرها طهران لقواتها بالوكالة. لكن مع تعليق الصفقة والنمو السريع لبرنامج إيران النووي، فإن قواتها الإقليمية ستصبح أكثر جرأة.
كما عزز المتشددون الإيرانيون قوتهم خلال سنوات ترامب. حيث وجدوا في حملة "الضغط الأقصى"، دليلًا على أن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى تغيير النظام في طهران ولن تتراجع حتى تنهار الجمهورية الإسلامية. هذا جعل التعامل مع واشنطن، بالنسبة لهم، عديم الجدوى. ووجدوا أن إيران لن تستطيع تأمين مصالحها إلا من خلال المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها. وهكذا خرجت إيران من عهد ترامب عازمة على مواصلة برنامجها النووي وتعزيز مكانتها في المنطقة.
وقد أوضح إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني الجديد، خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول أنه يعتقد أن ميزان القوى الإقليمي يميل لصالح طهران. واستحضر أحداث الشغب في 6 يناير/كانون الثاني، في مبنى الكابيتول الأمريكي، وصور المدنيين الأفغان وهم يسقطون من الطائرات الأمريكية أثناء هروبهم من أفغانستان، وقال رئيسي إن هذه المشاهد بعثت برسالة واضحة إلى العالم: "نظام الهيمنة للولايات المتحدة ليس له مصداقية، داخل أو خارج البلاد".
وكما توحي مثل هذه التصريحات، فقد تبنت الحكومة الإيرانية الجديدة وجهة نظر المنتصر، بشأن الأحداث في الشرق الأوسط. والتي ترى أن التدخل الإيراني في سوريا أنقذ الأسد في مواجهة مسعى أمريكي وأوروبي وتركي وعربي سني منسق للإطاحة به. وترى أنه في اليمن، فشلت الحملة العسكرية السعودية الوحشية المدعومة من الولايات المتحدة في تغيير حقيقة أن الحوثيين راسخون بقوة في العاصمة صنعاء وجميع شمال البلاد تقريباً. وترى وجهة النظر الإيرانية هذه، أن إيران حافظت على مكانتها المهيمنة في العراق ولبنان، رغم الضغوط الاقتصادية وما تعتبره تدخلاً من خصومها.
وعليه فقد أصبحت ضرورة الحفاظ على نفوذ إيران في العالم العربي جزءاً لا يتجزأ من الحسابات الاستراتيجية للدولة العميقة، والميليشيات التي بنتها طهران لهذه المهمة هي حقائق على الأرض في جميع أنحاء المنطقة. لكن على الرغم من كل الانتصارات الإيرانية الأخيرة، فإن الصراعات الطائفية التي تعصف بالشرق الأوسط لم تنتهِ بعد.
مهيأ للانفجار
ليست إيران الطرف الوحيد الذي يقف وراء تصاعد الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. دعمت قطر والسعودية وتركيا والإمارات، الفصائل السنية في العالم العربي. إذ قامت تركيا ورجال الأعمال السنة الأثرياء في الخليج العربي بتمويل بعض الفصائل السنية الأكثر تطرفاً التي سعت للإطاحة بالأسد، بما في ذلك داعش. إن معاداة هذه المجموعات الشرسة للشيعة ووعدها بإحياء الخلافة الإسلامية، التي كانت مقراً للسلطة السنية في العصور السابقة، كان بمثابة مناشدة للسنة المحرومين على طول الامتداد من دمشق إلى بغداد. في النهاية، تم القضاء على داعش من خلال تحالف المصالح الذي شكلته روسيا والولايات المتحدة، وأيضاً إيران التي قاتلت داعش إلى جانب حلفائها الشيعة المحليين في العراق وسوريا.
وعلى الرغم من أن طهران تمكنت حتى الآن من احتلال الصدارة في الصراع الإقليمي على النفوذ، فقد تجد نفسها تحت ضغط متزايد في السنوات المقبلة. إذ تمتلك دول الخليج السنية، إلى جانب إسرائيل وتركيا، مصلحة في تغيير نتيجة الصراعات الطائفية التي تعصف بالعالم العربي، مع إشارة إلى أن الولايات المتحدة تحاول طرد إيران من مختلف الأماكن التي رسخت فيها نفسها، ويستعد اللاعبون الإقليميون لمواجهة هذا التحدي.
في سوريا، يحاول نظام الأسد ترسيخ سلطته، لكن البلاد لا تزال بمثابة برميل بارود طائفي. وقد يستأنف القتال للسيطرة على محافظة إدلب الشمالية الغربية والمنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. إذ تدفع تركيا أمام محاولات الأسد للسيطرة على إدلب، مُعزِّزة مطالبها بأن تكون المدافع عن حقوق السنة في سوريا. كما انجذبت إسرائيل أيضاً إلى دوامة الصراع السوري، حيث أصبحت غير مرتاحة بشكل متزايد لتوسع الوجود العسكري الإيراني هناك. وفي الوقت نفسه، فإن غالبية السكان السنة في البلاد، الذين يعيشون في أجزاء من البلاد دمرتها الحرب التي دامت عشر سنوات، لا يزالون فقراء ومحرومين من حقوقهم.
مصير سوريا مرتبط بمصير العراق. فلم يؤدِّ انتصار الحكومة العراقية المركزية على الجهاديين السنة إلا إلى تأكيد اعتمادها على الدعم العسكري من إيران والولايات المتحدة، كما جاء على حساب تعزيز نفوذ الميليشيات الشيعية في البلاد. ورغم تمكّن العراقيون من تهدئة الصراع الطائفي في الوقت الحالي، لكن جمر هذا الصراع يتوهج تحت السطح مباشرة.
كما أبرزت الانتخابات العراقية الأخيرة هشاشة الوضع السياسي الراهن، فقبل التصويت في أكتوبر/تشرين الأول، شجّع آية الله العظمى علي السيستاني والمؤسسة الدينية الشيعية العراقيين على التوجه إلى صناديق الاقتراع، لكن هذه المناشدات لم تلق آذاناً صاغية. نتج عن اللامبالاة العامة انخفاض قياسي في الإقبال على الاقتراع، مما أعطى دفعة لأكثر الشخصيات السياسية الطائفية في البلاد: رجل الدين المنشق مقتدى الصدر، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي. كان الجانب المشرق الوحيد هو أن أداء الأحزاب التابعة للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ضعيفاً أيضاً. ومع ذلك، فقد منحهم ذلك دافعاً لزعزعة استقرار البلاد، كما يتضح من المحاولة الأخيرة لاغتيال رئيس وزراء البلاد.
وصعود الصدر لا يبشر بالخير للسلام الطائفي في العراق. على الرغم من أنه نصّب نفسه على أنه شخصية وطنية، إلا أنه يساوي المصالح الوطنية للعراق مع حق طائفته الشيعية في حكم البلاد. فيما كانت مليشياته في طليعة الحرب الأهلية الطائفية التي اجتاحت العراق عام 2006، وبالطبع لا ينوي التنازل عن السلطة لتهدئة السنة. ورغم أنه يتطلع للحصول على مستوى من الحكم الذاتي بعيداً عن إيران، إلا أنه سيواجه الفصائل المتنافسة في الداخل ومناورات من الممالك السنية في الخليج العربي، الذين عارضوا سيطرة الشيعة على العراق. لذا فإنه سيميل إلى الاعتماد على طهران.
أما في لبنان، فتنذر الاضطرابات المتزايدة أيضاً بعدم الاستقرار، لكنها لا تنذر بتقليص النفوذ الإيراني. الفاعل السياسي المهيمن في البلاد هو حزب الله، الذي بنى قدرته العسكرية على مر السنين بدعم إيراني سخي. لقد أدت الجماعات الشيعية اللبنانية أداءً جيداً في الحروب ضد إسرائيل، ولا تزال ترسانتها الضخمة من الصواريخ تشكل رادعاً يهدد العمل العسكري الإسرائيلي ضد إيران. كما نجح حزب الله في نشر مقاتليه نيابة عن حلفاء إيران في جميع أنحاء العالم العربي، ولا سيما في العراق وسوريا، وأصبح فاعلاً لا غنى لطهران عنه.
لكن حزب الله هو أيضاً قوة سياسية في لبنان، متواطئ في الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تآكل الدولة والمجتمع. ولطالما استنكر المجتمعان المسيحي والسني في البلاد ولاءات حزب الله الموالية لإيران، وإصراره على العمل كدولة داخل دولة. فيما تلقي أعداد متزايدة من اللبنانيين باللوم الآن على الجماعة في تقويض التحقيق الرسمي في الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، والذي دمر أجزاء كبيرة من المدينة. ولن يتخلى حزب الله عن السلطة بدون قتال. ولا تزال قبضته على الطائفة الشيعية قوية، وكذا التزام إيران بدعم التنظيم. ولطالما كان لبنان عرضة لنوبات العنف، وليس من الصعب أن نرى كيف أن الأحداث الجارية تمهد الطريق لنوبة أخرى من الصراع الطائفي هناك.
أما في اليمن، فقد أصبحت الحرب الأهلية حرباً بالوكالة. فمن جهة، هناك الحكومة المركزية المدعومة من السعودية. ومن جهة أخرى، هناك قبائل حوثية تنحدر من شمال البلاد الذي يسيطر عليه جماعة من الطائفة الزيدية الشيعية، ويتمتعون بدعم إيران.
اتخذت الحرب طابعاً طائفياً علنياً عام 2015، عندما تدخل تحالف دول بقيادة السعودية والإمارات لمنع انتصار الحوثيين ومنع إنشاء رأس جسر إيراني في شبه الجزيرة العربية. ورغم أن حملتهم دمرت اليمن، لكنها لم تهزم الحوثيين، الذين ازداد اعتمادهم على إيران خلال القتال. وعندما تنتهي الحرب، سيسيطر الحوثيون على أجزاء كبيرة من اليمن وسيكون لهم رأي كبير في سياساته. أي أن الكأس اليمني سيكون نصف ممتلئ بإيران والجانب الشيعي، ونصف فارغ من السعودية وحلفائها السنة.
وفيما تتطلع الدول العربية السنية إلى ساحة اللعب، فإنها تتجه بشكل متزايد إلى حليف قوي في الصراع ضد إيران: إسرائيل، والتي وضعت نفسها بشكل مباشر في وسط الصراع الإقليمي المتنامي من خلال شن غارات جوية ضد القواعد الإيرانية في العراق وسوريا، وتنفيذ الاغتيالات والهجمات الإلكترونية والتخريب الصناعي لإبطاء البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.
حتى الآن، اقتصرت ردود طهران ضد إسرائيل على الهجمات الإلكترونية والهجمات على سفنها في الخليج العربي، لكن الوضع قد يتصاعد بسرعة، ليس بالضرورة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، ولكن ربما إلى اشتباكات بين الشركاء الضمنيين لكلا الجانبين في العراق ولبنان وسوريا، وعبر هجمات إيرانية ضد حلفاء إسرائيل الجدد في الخليج العربي.
رد الفعل السني:
في خضم كل هذا، تبحث الدول العربية السنية عن استراتيجيات جديدة لحماية مصالحها. لقد اعتمدوا حتى الآن على الولايات المتحدة لاحتواء توسع نفوذ إيران الإقليمي، وهو توسع بدأته واشنطن نفسها عندما غزت العراق. لكن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ورغبة إدارة بايدن في إنهاء "الحروب الأبدية" أجبرت السعودية والإمارات على بدء محادثات مع إيران على أمل الحد من التوترات وكسب الوقت، لبناء قدراتهم الإقليمية الخاصة.
جاءت هذه المحادثات بعد سنوات من الحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، ودعم السعودية والإمارات للخنق الأمريكي للاقتصاد الإيراني، والهجمات الإيرانية داخل الأراضي السعودية والإماراتية. لذلك فهي تمثل جهداً هاماً للحد من التوترات.
تريد السعودية أن تضغط إيران على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ووضع حد لهجمات الطائرات المسيرة على أراضيها، إيران بدورها تريد التطبيع الكامل للعلاقات مع السعودية. لكن الانفراج ليس في متناول اليد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن المحادثات تجري في ظل المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة. روغم ذلك، يواصل الجانبان الاجتماع، وقد حددا الخطوات الأولى المحتملة في التقارب، مثل فتح قنصليات لتسهيل السياحة الدينية. بدروها، تدعم إدارة بايدن هذه المحادثات، لكن واشنطن لا تستطيع دفع الرياض للتوصل إلى اتفاق مع طهران إن لم تستطع فعل ذلك بنفسها.
فيما لا يزال شبح التطرف السني يثير قلق إيران أيضاً، إذ كان انتصار طالبان نعمة للتشدد السني في جميع أنحاء المنطقة، فتاريخ الجماعة الأفغانية غارق في العنف الطائفي الدموي، وهي ترى أن التشيع خارج عن الإسلام. ورغم أن طالبان لم تعد تتبنى العداء للشيعة بشكل علني، بل وأقامت علاقات مع إيران، إلا أن عودتهم إلى السلطة تميزت بتطهير أفراد الشيعة الهزارة من الوظائف الحكومية، وإغلاق أعمالهم التجارية، وطردهم من منازلهم وقراهم. ورغم أن العنف الطائفي الأخير في البلاد، مثل الهجمات القاتلة بالقنابل على المساجد الشيعية، قد تم إلقاء اللوم فيه على فرع داعش المعروف باسم الدولة الإسلامية في خراسان أو IS-K ، إلا أنه لا يزال يؤكد احتمالية نشوب صراع طائفي أوسع في أفغانستان.
كما تسعى الدول العربية السنية إلى عمق استراتيجي من خلال إصلاح الخلافات مع تركيا، التي تعتبر نفسها في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان قوة إقليمية ومدافعة عن الامتيازات السنية. إذ تعتبر تركيا أردوغان نفسها وريثة للإمبراطورية العثمانية، التي كانت حتى عام 1924 مقراً للخلافة الإسلامية، القلب الرمزي للقوة السنية. كما أنها تحافظ على علاقات وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين، الجماعة الإسلامية الأكثر أهمية في العالم العربي.
خلال الربيع العربي، صممت تركيا نفسها على أنها نموذج للعالم العربي، داعمة للمطالب الشعبية بالديمقراطية وطموحات الإخوان المسلمين في السلطة. لاحقاً، انحازت إلى جانب قطر عندما فرض جيرانها في الخليج العربي حصاراً عليها. وأثارت هذه السياسات غضب ممالك الخليج العربي، التي اعتبرت تركيا منافساً لقيادة العالم السني، وقد طغت هذه المشاحنات الضروس أحياناً على التنافس الطائفي مع إيران.
في الواقع، كانت علاقة أنقرة بطهران بشكل عام أكثر دفئاً من علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي. ولقد أدى تنافس تركيا مع خصومها السنة إلى دخولها في كل ساحة تلعب فيها الطائفية، حيث راهنت حكومة أردوغان على مطالبتها بالنفوذ في العراق ولبنان، ومؤخراً في أفغانستان، وكانت تركيا بمثابة حصن منيع ضد النفوذ الإيراني.
لقد استخدمت تركيا قوتها العسكرية في العراق وسوريا بشكل فعال، على الرغم من أنها لا تضاهي قوة إيران بالوكالة، إلا أن قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية ضمنت أنها تحتفظ بدور مؤثر في الشرق الأوسط.
وبالمقارنة، فشلت الدول العربية السنية في كبح جماح القوة الإيرانية بأية طريقة ذات مغزى. وجاء استثمارهم في المعارضة السورية بلا فائدة، وتخلت السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن. ومع ذلك، تواصل الدول العربية السنية ممارسة نفوذها في واشنطن، وهي تعزز هذا العمق الاستراتيجي بالتعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل. لكن على الأرض، يمكنهم فقط أن يأملوا بإبطاء تقدم إيران، وليس عكسه.
التخلي وفق شروط جيدة
لا تستطيع الولايات المتحدة التخفيف من جميع المخاطر التي تلوح في أفق الشرق الأوسط، لكن عليها تجنب جعل الأمور أسوأ. قد يكون وجود دور أمريكي أصغر في المنطقة حتمياً، لكن الطريقة التي تحمي بها واشنطن مصالحها ستكون مهمة. وبالنسبة للكثيرين في الشرق الأوسط، يعتبر الانسحاب الأمريكي اختصاراً لتخلي واشنطن عن المنطقة، حيث دافعت سابقاً عنها، ضد تهديدات الاتحاد السوفيتي وإيران والعراق، ومؤخراً ضد داعش. وحتى إذا استمرت الولايات المتحدة في الحفاظ على وجود عسكري كبير في المنطقة، فإن التزامها باستخدام القوة العسكرية مفتوح بشكل متزايد للتساؤل.
هذا الارتباك الاستراتيجي هو بالنسبة لإيران ووكلائها انفتاح مهم، ودعوة لمشاركين جدد إلى المعركة، مثل روسيا وتركيا. إذ لا يوجد بديل جاهز لاستراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة، والتي ظلت لأكثر من أربعة عقود بمثابة بنية أمنية فعلية في المنطقة. وأفضل ما يمكن أن تهدف إليه واشنطن هو تثبيط الخصومات الإقليمية، على أمل أن يوفر الهدوء النسبي فرصة لتطوير أطر إقليمية جديدة. لهذا السبب، يجب أن تسير جهود الولايات المتحدة في عملية التراجع عن فرض الاحتواء جنباً إلى جنب مع اندفاع دبلوماسي لتقليل وحل النزاعات بين القوى الإقليمية.
ويظل الاتفاق النووي مع إيران أهم رادع للتدهور الحاصل في عدم الاستقرار الإقليمي. هناك أسباب مفهومة تجعل إدارة بايدن مترددة في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، لكن من المقرر أن تنتهي بعض قيود الاتفاقية على إيران قبل نهاية الولاية الأولى للرئيس جو بايدن، ومن شأن رفع العقوبات المطلوبة كجزء من الصفقة أن يثير انتقادات من الحزبين. لهذه الأسباب، تقول الإدارة الأمريكية إنها تريد صفقة "أطول وأقوى".
ومع ذلك، فإن إيران تسعى فقط لاستعادة اتفاق 2015، لكن هذه المرة بضمانات أمريكية بأن الإدارة القادمة لن تنقض الصفقة مرة أخرى. فالجمود -أو الأسوأ من ذلك، انهيار المحادثات- من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة على طريق خطير نحو المواجهة التي ستشعل حتماً العالم العربي وتؤجج الطائفية.
شجعت إدارة بايدن الجهات الفاعلة الإقليمية على التحدث مع بعضها البعض. لكن هذه الحوارات لن تستمر إن تعثرت الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي. والضحية الأولى سيكون الاستقرار في العراق ولبنان، الأمر الذي يتطلب توافقاً بين الأطراف الشيعية والسنية.
ولكي تتمكن إدارة بايدن من إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإنها بحاجة إلى إرساء حدٍّ أدنى من الاستقرار الإقليمي، ويجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة امتثال إيران والولايات المتحدة المتبادل باتفاق 2015.
لأكثر من أربعة عقود، نظرت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط على أنه حيوي لمصالحها الوطنية. وأقامت تحالفات مع دول عربية لاحتواء إيران، وإقصاء الإسلام السياسي، وإدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كانت الاستراتيجية الأمريكية أكثر نجاحاً عندما تمكنت من الحفاظ على توازن قوى مستقر بين إيران وجيرانها العرب.
لكن منذ أن قوّضت الولايات المتحدة هذا التوازن بغزو العراق عام 2003، وهي تحاول استعادته، وبينما تواجه تحديات عالمية أخرى ملّحة، فإنها تتخلى الآن عن هذا الجهد كلياً.
هناك سبب كافٍ لتبني عملية إعادة التقييم الاستراتيجي هذه. فالسعي وراء توازن قوى بعيد المنال أمر مكلف للغاية، خاصة وأن الشرق الأوسط لم يعد حيوياً للمصالح القومية الأمريكية. لكن ترك المنطقة لنظامها الخاص هو مناورة خطيرة. فبدون ترتيب أمني جديد، ستكون الفوضى والصراعات، هي النظام السائد اليوم.
إن عودة التطرف الإسلامي، وشبح المزيد من انهيار الدول، والحروب الكبيرة والصغيرة على الأراضي والموارد، والصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل، جميعها ستكون لها عواقب أمنية وإنسانية كارثية، ستتطلب حتماً اهتماماً أميركياً متجدداً.
وإن كانت الولايات المتحدة تريد أن تتجاهل عبء الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، فعليها أن تبحث عن بديل مستدام، أي ترتيب يمكن أن ينهي الصراعات الأكثر خطورة في المنطقة، ويضع قواعد اللعبة لنظام إقليمي قابل للتطبيق. ويجب أن تبدأ تلك المهمة بنزع فتيل الصراع الذي يمثل أكبر تهديد للمنطقة: المواجهة مع إيران.
__ _ _ _ _
ولي نصر: خبير أمريكي من أصل إيراني، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والشؤون الدولية، في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز.
عبد القادر نعناع: أكاديمي وباحث سوري، مختص بشؤون الشرق الأوسط والشؤون الدولية.
الترجمة منشور في موقع مركز الخليج للدراسات إيرانية
للعودة إلى النص الأصلي باللغة الإنجليزية، انظر:
Vali Nasr, "All Against All: The Sectarian Resurgence in the Post-American Middle East", Foreign Affairs, January/February 2022, Volume 101, Number 1, pp. 128-138.
https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2021-12-02/iran-middle-east-all-against-all