د. عبد القادر نعناع

حرب الكل ضد الكل: صعود الطائفية في الشرق الأوسط، ما بعد أمريكا

د. عبد القادر نعناع • ٦ يناير ٢٠٢٢
المؤلف: أ.د. ولي نصر.
ترجمة: د. عبد القادر نعناع

 
يعتبر شعار إدارة بايدن للشرق الأوسط، شعاراً بسيطاً، متمثلاً في: "إنهاء" الحروب الأبدية end the ‘forever wars". فالبيت الأبيض منشغل بإدارة التحدي الذي تشكله الصين، وتتمثل أولوياته في عزل الولايات المتحدة عن صراعات الشرق الأوسط التي لا نهاية لها، والتي لا يمكن الانتصار فيها. لكن فك ارتباط الولايات المتحدة يهدد بترك فراغ سياسي تملأه الخصومات الطائفية، وهو ما يمهد الطريق لمنطقة غير مستقرة بل وأكثر عنفاً.

إن الصراع على الأسبقية الجيوسياسية بين الثيوقراطية الشيعية الإيرانية والدول العربية السنية، ومؤخراً تركيا السنية، يؤجج صراعاً في جميع أنحاء المنطقة، ما يؤدي إلى تآكل المواثيق الاجتماعية، وتفاقم اختلال الدول، وتحفيز الحركات المتطرفة.

لقد استخدم كلا الجانبين، الهوية الدينية سلاحاً لأغراضهم الخاصة، واستخدموها لحشد المؤيدين وتعزيز نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة. نتيجة لذلك، لا يزال الشرق الأوسط، وعلى امتداده الواسع، مضطرباً.

وعلى الرغم من احتفاظ إيران باليد العليا فيه، إلا أن التحديات التي تواجه موقعها تتزايد في جميع أنحاء المنطقة. فلقد سئم السنة من التطرف الخبيث، لكن الغضب الذي غذى صعود الدولة الإسلامية (داعش) لا يزال ثابتاً. وحركات التمرد الجديدة في الأجزاء المنهارة من المنطقة، سوف تُشعِل بلا شك هذا الغضب مرة أخرى. فغضب السنة في العراق ولبنان وسوريا يتزايد، نتيجةً لتحركات طهران وحلفائها لتشديد قبضتهم على المنطقة. فيما يظهر الإرهاب في أفغانستان مرة أخرى، حيث تنزلق البلاد إلى الفوضى في أعقاب هيمنة طالبان. وبدون أي عملية سياسية لنزع فتيل هذه التوترات، فمن المحتّم أن تندلع موجات جديدة من الاضطرابات وإراقة الدماء في المنطقة.

ولم يؤدِّ تدخل إسرائيل في هذه الصراعات الطائفية إلى جانب القوى السنية، إلّا إلى صب الزيت على النار. فبسبب تدخل إسرائيل، بات الاستقرار الإقليمي خاضعاً بدرجة أكبر لمصير البرنامج النووي الإيراني. فيما تناقش الولايات المتحدة وإسرائيل بالفعل "الخطة ب"، في حال ظلت التسوية الدبلوماسية بعيدة المنال. هذا المسار/الخطة من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة على مسار تصادمي، بالإضافة إلى ما قد يتسبب به من تفاقم التوترات الطائفية، وتعميق الانقسامات المجتمعية، وإثارة صراعات جديدة من بلاد الشام إلى أفغانستان.

تأتي رغبة واشنطن في بذل جهود أقل في الشرق الأوسط، في وقت تميل فيه الصين وروسيا إلى التدخل في المنطقة، فيما تثبت حكومة إيران المتشددة أقدامها في أعقاب الانسحاب الأمريكي، بينما تبدو الدول العربية السنية أقل ثقة من أي وقت مضى بشأن الضمانات الأمنية الأمريكية. وما لم تمهد الولايات المتحدة الطريق لنظام إقليمي أكثر استقراراً –بدءاً من إبرام صفقة بشأن برنامج إيران النووي–، فقد تجد الولايات المتحدة نفسها منجرفة مرة أخرى إلى صراعات الشرق الأوسط العديدة، رغم ما تبذله من قصارى جهد للانسحاب منها.

 
تسليح الإسلام
تعود أصول التنافس بين الشيعة والسنة إلى بدايات الإسلام، وعلى مر القرون، طورت الطائفتان تفسيرات متميزة للشريعة الإسلامية والممارسات الدينية. ومع ذلك، فإن الخلاف بين الجماعتين اليوم، ليس متجذراً في اللاهوت بل في الصراع على السلطة. إذ يعتبر التشيع والتسنن من علامات الهوية البارزة التي تشكل الولاءات السياسية في المجتمعات المنقسمة.

لقد انحسرت حدة الاقتتال الطائفي على مدى العقدين الماضيين، لكن بروز الطائفية في سياسات المنطقة لم يتضاءل، وكذا الصراع بين إيران وخصومها السنة، وهي صراعات تتغذى على هذا الانقسام وتؤججه. فهاتان القوتان وجهان مختلفان لعملة واحدة.

لقد سمح الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لإيران بتوسيع نفوذها بشكل كبير في العالم العربي. ومنذ أن أسقطت الولايات المتحدة النظام الاستبدادي الذي ضمن حكم الأقلية السنية في بغداد، لعبت طهران بخبرة على الولاءات الطائفية لتمكين شبكة من الوكلاء المسلحين التي تمتد الآن من لبنان وسوريا إلى العراق واليمن، مُشكِّلةً ما أطلق عليه الملك الأردني عبد الله الثاني، ذات مرة، "الهلال الشيعي". وبذلك، تكون إيران قد مكنت الشيعة على حساب السنة في جميع أنحاء المنطقة، وعززت نفوذها على منافسيها، مثل السعودية وتركيا والإمارات.

إن اندفاع العالم العربي نحو الديمقراطية والحكم الرشيد، ضمن ما سُمّيّ بالربيع العربي، قاد المستبدين، المُهدَّدين من قبل آفاق التغيير، إلى تسليح الطائفية بشكل أكبر. حيث أثار الرئيس السوري بشار الأسد الخوف من السنة لتخويف المجتمع العلوي السوري، الذي ينتمي الأسد إليه والذي تعود جذوره إلى الشيعة، بهدف الحصول على دعم يحفظ نظامه من ألا يتزعزع.

في البحرين واليمن، برّر الحكام حملات القمع العنيفة باتهام المحتجين الشيعة بأنهم وكلاء لإيران. إذ عزّزت إيران وخصومها العرب هذه الديناميكية من خلال حشد أنفسهم وراء عملائهم الشيعة والسنة، واستخدام "رؤية الأخوة الدينية" أدواتٍ لحماية نفوذهم الإقليمي.

في هذه الأثناء، توسعت بصمة إيران الإقليمية بالتوازي مع برنامجها النووي. على الرغم من أن الولايات المتحدة كبحت بشكل فعّال طموحات إيران النووية عام 2015 من خلال صفقة بوساطة دولية، فقد ثبت أن احتواء طموحاتها الإقليمية أمر بعيد المنال. وأثار إصرار واشنطن على عدم إدراج المسائل الإقليمية في المحادثات النووية حفيظة حلفائها العرب، الذين كانوا آنذاك على وشك نهاية خاسرة للحروب الطائفية بالوكالة في العراق وسوريا واليمن. وقد عزز الرئيس الأمريكي باراك أوباما مخاوفهم بشأن التزام واشنطن بمساعدتهم في هذه الصراعات، عندما قدم نصحاً يرى فيه بأن الإيرانيين والسعوديين بحاجة إلى "إيجاد طريقة فعالة لجوار تشاركي فيما بينهم".

اعتبرت الدول العربية السنية، أن الاتفاق النووي، كان بمثابة خطوة ختامية تكمل رفض إدارة أوباما السابق الإطاحة بنظام الأسد. فمن وجهة نظر القادة العرب، أدى هذان القراران إلى قلب ميزان القوى الإقليمي بشكل قاطع لصالح طهران: إذ أدى الفشل في الإطاحة بالأسد إلى تمكين حلفاء طهران الشيعة في دول أخرى، وفشل الاتفاق النووي في كبح تدخل إيران الإقليمي. وبالنسبة للزعماء العرب، بدا الأمر وكأن الولايات المتحدة تبارك الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط.

بدروه، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متعاطفًا مع هذا الرأي، وانسحب من الاتفاق النووي عام 2018، مطالباً بأن يمتد الاتفاق الجديد إلى دور إيران الإقليمي. وفرضت حملته "الضغط الأقصى maximum pressure" عقوبات قاسية على إيران، بهدف جعل الحفاظ على وضع إيران المالي في العالم العربي مستحيلاً.

ففي عهد ترامب، اتخذت واشنطن عدة خطوات لكبح جماح إيران، بما في ذلك تنفيذ غارة جوية بطائرة بدون طيار في عام 2020 أسفرت عن مقتل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، فرع الاستكشافات في الحرس الثوري الإيراني. وأبو مهدي المهندس، القيادي البارز لإحدى الميليشيات الشيعية العراقية. كما نجحت إدارة ترامب في ضرب الاقتصاد الإيراني، وزيادة البؤس الاجتماعي والاستياء السياسي. لكن محاولتها لفرض انسحاب إيراني أوسع نطاقاً من العالم العربي فشلت فشلاً ذريعاً.

على العكس من ذلك، ردت إيران بتصعيد التوترات الإقليمية: فهاجمت ناقلات في الخليج العربي، واستهدفت منشآت نفطية في السعودية، وشنت ضربة صاروخية جريئة على القواعد الجوية العراقية التي تأوي القوات الأمريكية، ما جعل إيران والولايات المتحدة أقرب إلى حافة الحرب أكثر من أي وقت مضى.

 خرجت إيران من عهد ترامب أكثر عدوانية وفتكاً، ومنذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، زادت إيران من مخزونها من اليورانيوم المخصب، ووسعت بنيتها التحتية النووية، واكتسبت المعرفة النووية الهامة. وهي الآن قريبة بشكل خطير من امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية.

لقد كان قرار إلغاء الاتفاق النووي، وليس قرار التوقيع عليه في المقام الأول، هو ما جعل إيران قوة أكبر في المنطقة. إذ تقدمت طموحات طهران النووية والإقليمية جنباً إلى جنب: وترى إيران أن برنامجاً نووياً موثوقاً به، سيوفر مظلة تحمي وكلائها في جميع أنحاء المنطقة، وهو ما يعزز بدوره نفوذ إيران بشكل أكبر. وبالتالي، كلما كانت المظلة النووية أكثر اتساعاً ومرونة، زادت فعالية الوكلاء الذين يعملون تحت حمايتها. في حين قلص اتفاق عام 2015 النووي، من نطاق البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يعني تقليص الحماية التي كان من الممكن أن توفرها طهران لقواتها بالوكالة. لكن مع تعليق الصفقة والنمو السريع لبرنامج إيران النووي، فإن قواتها الإقليمية ستصبح أكثر جرأة.

كما عزز المتشددون الإيرانيون قوتهم خلال سنوات ترامب. حيث وجدوا في حملة "الضغط الأقصى"، دليلًا على أن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى تغيير النظام في طهران ولن تتراجع حتى تنهار الجمهورية الإسلامية. هذا جعل التعامل مع واشنطن، بالنسبة لهم، عديم الجدوى. ووجدوا أن إيران لن تستطيع تأمين مصالحها إلا من خلال المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها. وهكذا خرجت إيران من عهد ترامب عازمة على مواصلة برنامجها النووي وتعزيز مكانتها في المنطقة.

وقد أوضح إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني الجديد، خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول أنه يعتقد أن ميزان القوى الإقليمي يميل لصالح طهران. واستحضر أحداث الشغب في 6 يناير/كانون الثاني، في مبنى الكابيتول الأمريكي، وصور المدنيين الأفغان وهم يسقطون من الطائرات الأمريكية أثناء هروبهم من أفغانستان، وقال رئيسي إن هذه المشاهد بعثت برسالة واضحة إلى العالم: "نظام الهيمنة للولايات المتحدة ليس له مصداقية، داخل أو خارج البلاد".

وكما توحي مثل هذه التصريحات، فقد تبنت الحكومة الإيرانية الجديدة وجهة نظر المنتصر، بشأن الأحداث في الشرق الأوسط. والتي ترى أن التدخل الإيراني في سوريا أنقذ الأسد في مواجهة مسعى أمريكي وأوروبي وتركي وعربي سني منسق للإطاحة به. وترى أنه في اليمن، فشلت الحملة العسكرية السعودية الوحشية المدعومة من الولايات المتحدة في تغيير حقيقة أن الحوثيين راسخون بقوة في العاصمة صنعاء وجميع شمال البلاد تقريباً. وترى وجهة النظر الإيرانية هذه، أن إيران حافظت على مكانتها المهيمنة في العراق ولبنان، رغم الضغوط الاقتصادية وما تعتبره تدخلاً من خصومها.

وعليه فقد أصبحت ضرورة الحفاظ على نفوذ إيران في العالم العربي جزءاً لا يتجزأ من الحسابات الاستراتيجية للدولة العميقة، والميليشيات التي بنتها طهران لهذه المهمة هي حقائق على الأرض في جميع أنحاء المنطقة. لكن على الرغم من كل الانتصارات الإيرانية الأخيرة، فإن الصراعات الطائفية التي تعصف بالشرق الأوسط لم تنتهِ بعد.

 
مهيأ للانفجار
ليست إيران الطرف الوحيد الذي يقف وراء تصاعد الصراع الطائفي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. دعمت قطر والسعودية وتركيا والإمارات، الفصائل السنية في العالم العربي. إذ قامت تركيا ورجال الأعمال السنة الأثرياء في الخليج العربي بتمويل بعض الفصائل السنية الأكثر تطرفاً التي سعت للإطاحة بالأسد، بما في ذلك داعش. إن معاداة هذه المجموعات الشرسة للشيعة ووعدها بإحياء الخلافة الإسلامية، التي كانت مقراً للسلطة السنية في العصور السابقة، كان بمثابة مناشدة للسنة المحرومين على طول الامتداد من دمشق إلى بغداد. في النهاية، تم القضاء على داعش من خلال تحالف المصالح الذي شكلته روسيا والولايات المتحدة، وأيضاً إيران التي قاتلت داعش إلى جانب حلفائها الشيعة المحليين في العراق وسوريا.

وعلى الرغم من أن طهران تمكنت حتى الآن من احتلال الصدارة في الصراع الإقليمي على النفوذ، فقد تجد نفسها تحت ضغط متزايد في السنوات المقبلة. إذ تمتلك دول الخليج السنية، إلى جانب إسرائيل وتركيا، مصلحة في تغيير نتيجة الصراعات الطائفية التي تعصف بالعالم العربي، مع إشارة إلى أن الولايات المتحدة تحاول طرد إيران من مختلف الأماكن التي رسخت فيها نفسها، ويستعد اللاعبون الإقليميون لمواجهة هذا التحدي.

في سوريا، يحاول نظام الأسد ترسيخ سلطته، لكن البلاد لا تزال بمثابة برميل بارود طائفي. وقد يستأنف القتال للسيطرة على محافظة إدلب الشمالية الغربية والمنطقة التي يسيطر عليها الأكراد في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. إذ تدفع تركيا أمام محاولات الأسد للسيطرة على إدلب، مُعزِّزة مطالبها بأن تكون المدافع عن حقوق السنة في سوريا. كما انجذبت إسرائيل أيضاً إلى دوامة الصراع السوري، حيث أصبحت غير مرتاحة بشكل متزايد لتوسع الوجود العسكري الإيراني هناك. وفي الوقت نفسه، فإن غالبية السكان السنة في البلاد، الذين يعيشون في أجزاء من البلاد دمرتها الحرب التي دامت عشر سنوات، لا يزالون فقراء ومحرومين من حقوقهم.

مصير سوريا مرتبط بمصير العراق. فلم يؤدِّ انتصار الحكومة العراقية المركزية على الجهاديين السنة إلا إلى تأكيد اعتمادها على الدعم العسكري من إيران والولايات المتحدة، كما جاء على حساب تعزيز نفوذ الميليشيات الشيعية في البلاد. ورغم تمكّن العراقيون من تهدئة الصراع الطائفي في الوقت الحالي، لكن جمر هذا الصراع يتوهج تحت السطح مباشرة.

كما أبرزت الانتخابات العراقية الأخيرة هشاشة الوضع السياسي الراهن، فقبل التصويت في أكتوبر/تشرين الأول، شجّع آية الله العظمى علي السيستاني والمؤسسة الدينية الشيعية العراقيين على التوجه إلى صناديق الاقتراع، لكن هذه المناشدات لم تلق آذاناً صاغية. نتج عن اللامبالاة العامة انخفاض قياسي في الإقبال على الاقتراع، مما أعطى دفعة لأكثر الشخصيات السياسية الطائفية في البلاد: رجل الدين المنشق مقتدى الصدر، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي. كان الجانب المشرق الوحيد هو أن أداء الأحزاب التابعة للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ضعيفاً أيضاً. ومع ذلك، فقد منحهم ذلك دافعاً لزعزعة استقرار البلاد، كما يتضح من المحاولة الأخيرة لاغتيال رئيس وزراء البلاد.

وصعود الصدر لا يبشر بالخير للسلام الطائفي في العراق. على الرغم من أنه نصّب نفسه على أنه شخصية وطنية، إلا أنه يساوي المصالح الوطنية للعراق مع حق طائفته الشيعية في حكم البلاد. فيما كانت مليشياته في طليعة الحرب الأهلية الطائفية التي اجتاحت العراق عام 2006، وبالطبع لا ينوي التنازل عن السلطة لتهدئة السنة. ورغم أنه يتطلع للحصول على مستوى من الحكم الذاتي بعيداً عن إيران، إلا أنه سيواجه الفصائل المتنافسة في الداخل ومناورات من الممالك السنية في الخليج العربي، الذين عارضوا سيطرة الشيعة على العراق. لذا فإنه سيميل إلى الاعتماد على طهران.

أما في لبنان، فتنذر الاضطرابات المتزايدة أيضاً بعدم الاستقرار، لكنها لا تنذر بتقليص النفوذ الإيراني. الفاعل السياسي المهيمن في البلاد هو حزب الله، الذي بنى قدرته العسكرية على مر السنين بدعم إيراني سخي. لقد أدت الجماعات الشيعية اللبنانية أداءً جيداً في الحروب ضد إسرائيل، ولا تزال ترسانتها الضخمة من الصواريخ تشكل رادعاً يهدد العمل العسكري الإسرائيلي ضد إيران. كما نجح حزب الله في نشر مقاتليه نيابة عن حلفاء إيران في جميع أنحاء العالم العربي، ولا سيما في العراق وسوريا، وأصبح فاعلاً لا غنى لطهران عنه.

لكن حزب الله هو أيضاً قوة سياسية في لبنان، متواطئ في الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تآكل الدولة والمجتمع. ولطالما استنكر المجتمعان المسيحي والسني في البلاد ولاءات حزب الله الموالية لإيران، وإصراره على العمل كدولة داخل دولة. فيما تلقي أعداد متزايدة من اللبنانيين باللوم الآن على الجماعة في تقويض التحقيق الرسمي في الانفجار المدمر الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس/آب 2020، والذي دمر أجزاء كبيرة من المدينة. ولن يتخلى حزب الله عن السلطة بدون قتال. ولا تزال قبضته على الطائفة الشيعية قوية، وكذا التزام إيران بدعم التنظيم. ولطالما كان لبنان عرضة لنوبات العنف، وليس من الصعب أن نرى كيف أن الأحداث الجارية تمهد الطريق لنوبة أخرى من الصراع الطائفي هناك.

أما في اليمن، فقد أصبحت الحرب الأهلية حرباً بالوكالة. فمن جهة، هناك الحكومة المركزية المدعومة من السعودية. ومن جهة أخرى، هناك قبائل حوثية تنحدر من شمال البلاد الذي يسيطر عليه جماعة من الطائفة الزيدية الشيعية، ويتمتعون بدعم إيران.

اتخذت الحرب طابعاً طائفياً علنياً عام 2015، عندما تدخل تحالف دول بقيادة السعودية والإمارات لمنع انتصار الحوثيين ومنع إنشاء رأس جسر إيراني في شبه الجزيرة العربية. ورغم أن حملتهم دمرت اليمن، لكنها لم تهزم الحوثيين، الذين ازداد اعتمادهم على إيران خلال القتال. وعندما تنتهي الحرب، سيسيطر الحوثيون على أجزاء كبيرة من اليمن وسيكون لهم رأي كبير في سياساته. أي أن الكأس اليمني سيكون نصف ممتلئ بإيران والجانب الشيعي، ونصف فارغ من السعودية وحلفائها السنة.

وفيما تتطلع الدول العربية السنية إلى ساحة اللعب، فإنها تتجه بشكل متزايد إلى حليف قوي في الصراع ضد إيران: إسرائيل، والتي وضعت نفسها بشكل مباشر في وسط الصراع الإقليمي المتنامي من خلال شن غارات جوية ضد القواعد الإيرانية في العراق وسوريا، وتنفيذ الاغتيالات والهجمات الإلكترونية والتخريب الصناعي لإبطاء البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية.

حتى الآن، اقتصرت ردود طهران ضد إسرائيل على الهجمات الإلكترونية والهجمات على سفنها في الخليج العربي، لكن الوضع قد يتصاعد بسرعة، ليس بالضرورة إلى حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل، ولكن ربما إلى اشتباكات بين الشركاء الضمنيين لكلا الجانبين في العراق ولبنان وسوريا، وعبر هجمات إيرانية ضد حلفاء إسرائيل الجدد في الخليج العربي.

 
رد الفعل السني:
في خضم كل هذا، تبحث الدول العربية السنية عن استراتيجيات جديدة لحماية مصالحها. لقد اعتمدوا حتى الآن على الولايات المتحدة لاحتواء توسع نفوذ إيران الإقليمي، وهو توسع بدأته واشنطن نفسها عندما غزت العراق. لكن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، والحديث عن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق، ورغبة إدارة بايدن في إنهاء "الحروب الأبدية" أجبرت السعودية والإمارات على بدء محادثات مع إيران على أمل الحد من التوترات وكسب الوقت، لبناء قدراتهم الإقليمية الخاصة.

جاءت هذه المحادثات بعد سنوات من الحروب بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، ودعم السعودية والإمارات للخنق الأمريكي للاقتصاد الإيراني، والهجمات الإيرانية داخل الأراضي السعودية والإماراتية. لذلك فهي تمثل جهداً هاماً للحد من التوترات.

تريد السعودية أن تضغط إيران على الحوثيين لإنهاء الحرب في اليمن ووضع حد لهجمات الطائرات المسيرة على أراضيها، إيران بدورها تريد التطبيع الكامل للعلاقات مع السعودية. لكن الانفراج ليس في متناول اليد، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن المحادثات تجري في ظل المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة. روغم ذلك، يواصل الجانبان الاجتماع، وقد حددا الخطوات الأولى المحتملة في التقارب، مثل فتح قنصليات لتسهيل السياحة الدينية. بدروها، تدعم إدارة بايدن هذه المحادثات، لكن واشنطن لا تستطيع دفع الرياض للتوصل إلى اتفاق مع طهران إن لم تستطع فعل ذلك بنفسها.

فيما لا يزال شبح التطرف السني يثير قلق إيران أيضاً، إذ كان انتصار طالبان نعمة للتشدد السني في جميع أنحاء المنطقة، فتاريخ الجماعة الأفغانية غارق في العنف الطائفي الدموي، وهي ترى أن التشيع خارج عن الإسلام. ورغم أن طالبان لم تعد تتبنى العداء للشيعة بشكل علني، بل وأقامت علاقات مع إيران، إلا أن عودتهم إلى السلطة تميزت بتطهير أفراد الشيعة الهزارة من الوظائف الحكومية، وإغلاق أعمالهم التجارية، وطردهم من منازلهم وقراهم. ورغم أن العنف الطائفي الأخير في البلاد، مثل الهجمات القاتلة بالقنابل على المساجد الشيعية، قد تم إلقاء اللوم فيه على فرع داعش المعروف باسم الدولة الإسلامية في خراسان أو IS-K ، إلا أنه لا يزال يؤكد احتمالية نشوب صراع طائفي أوسع في أفغانستان.

كما تسعى الدول العربية السنية إلى عمق استراتيجي من خلال إصلاح الخلافات مع تركيا، التي تعتبر نفسها في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان قوة إقليمية ومدافعة عن الامتيازات السنية. إذ تعتبر تركيا أردوغان نفسها وريثة للإمبراطورية العثمانية، التي كانت حتى عام 1924 مقراً للخلافة الإسلامية، القلب الرمزي للقوة السنية. كما أنها تحافظ على علاقات وثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين، الجماعة الإسلامية الأكثر أهمية في العالم العربي.

خلال الربيع العربي، صممت تركيا نفسها على أنها نموذج للعالم العربي، داعمة للمطالب الشعبية بالديمقراطية وطموحات الإخوان المسلمين في السلطة. لاحقاً، انحازت إلى جانب قطر عندما فرض جيرانها في الخليج العربي حصاراً عليها. وأثارت هذه السياسات غضب ممالك الخليج العربي، التي اعتبرت تركيا منافساً لقيادة العالم السني، وقد طغت هذه المشاحنات الضروس أحياناً على التنافس الطائفي مع إيران.

في الواقع، كانت علاقة أنقرة بطهران بشكل عام أكثر دفئاً من علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي. ولقد أدى تنافس تركيا مع خصومها السنة إلى دخولها في كل ساحة تلعب فيها الطائفية، حيث راهنت حكومة أردوغان على مطالبتها بالنفوذ في العراق ولبنان، ومؤخراً في أفغانستان، وكانت تركيا بمثابة حصن منيع ضد النفوذ الإيراني.

لقد استخدمت تركيا قوتها العسكرية في العراق وسوريا بشكل فعال، على الرغم من أنها لا تضاهي قوة إيران بالوكالة، إلا أن قدراتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية ضمنت أنها تحتفظ بدور مؤثر في الشرق الأوسط.

وبالمقارنة، فشلت الدول العربية السنية في كبح جماح القوة الإيرانية بأية طريقة ذات مغزى. وجاء استثمارهم في المعارضة السورية بلا فائدة، وتخلت السعودية عن لبنان، وفشلت في الحصول على موطئ قدم في العراق، وتعثرت في الحرب في اليمن. ومع ذلك، تواصل الدول العربية السنية ممارسة نفوذها في واشنطن، وهي تعزز هذا العمق الاستراتيجي بالتعاون الاستخباراتي والعسكري مع إسرائيل. لكن على الأرض، يمكنهم فقط أن يأملوا بإبطاء تقدم إيران، وليس عكسه.

 
التخلي وفق شروط جيدة
لا تستطيع الولايات المتحدة التخفيف من جميع المخاطر التي تلوح في أفق الشرق الأوسط، لكن عليها تجنب جعل الأمور أسوأ. قد يكون وجود دور أمريكي أصغر في المنطقة حتمياً، لكن الطريقة التي تحمي بها واشنطن مصالحها ستكون مهمة. وبالنسبة للكثيرين في الشرق الأوسط، يعتبر الانسحاب الأمريكي اختصاراً لتخلي واشنطن عن المنطقة، حيث دافعت سابقاً عنها، ضد تهديدات الاتحاد السوفيتي وإيران والعراق، ومؤخراً ضد داعش. وحتى إذا استمرت الولايات المتحدة في الحفاظ على وجود عسكري كبير في المنطقة، فإن التزامها باستخدام القوة العسكرية مفتوح بشكل متزايد للتساؤل.

هذا الارتباك الاستراتيجي هو بالنسبة لإيران ووكلائها انفتاح مهم، ودعوة لمشاركين جدد إلى المعركة، مثل روسيا وتركيا. إذ لا يوجد بديل جاهز لاستراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة، والتي ظلت لأكثر من أربعة عقود بمثابة بنية أمنية فعلية في المنطقة. وأفضل ما يمكن أن تهدف إليه واشنطن هو تثبيط الخصومات الإقليمية، على أمل أن يوفر الهدوء النسبي فرصة لتطوير أطر إقليمية جديدة. لهذا السبب، يجب أن تسير جهود الولايات المتحدة في عملية التراجع عن فرض الاحتواء جنباً إلى جنب مع اندفاع دبلوماسي لتقليل وحل النزاعات بين القوى الإقليمية.

ويظل الاتفاق النووي مع إيران أهم رادع للتدهور الحاصل في عدم الاستقرار الإقليمي. هناك أسباب مفهومة تجعل إدارة بايدن مترددة في العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، لكن من المقرر أن تنتهي بعض قيود الاتفاقية على إيران قبل نهاية الولاية الأولى للرئيس جو بايدن، ومن شأن رفع العقوبات المطلوبة كجزء من الصفقة أن يثير انتقادات من الحزبين. لهذه الأسباب، تقول الإدارة الأمريكية إنها تريد صفقة "أطول وأقوى".

ومع ذلك، فإن إيران تسعى فقط لاستعادة اتفاق 2015، لكن هذه المرة بضمانات أمريكية بأن الإدارة القادمة لن تنقض الصفقة مرة أخرى. فالجمود -أو الأسوأ من ذلك، انهيار المحادثات- من شأنه أن يضع إيران والولايات المتحدة على طريق خطير نحو المواجهة التي ستشعل حتماً العالم العربي وتؤجج الطائفية.

شجعت إدارة بايدن الجهات الفاعلة الإقليمية على التحدث مع بعضها البعض. لكن هذه الحوارات لن تستمر إن تعثرت الجهود المبذولة لاستعادة الاتفاق النووي. والضحية الأولى سيكون الاستقرار في العراق ولبنان، الأمر الذي يتطلب توافقاً بين الأطراف الشيعية والسنية.

ولكي تتمكن إدارة بايدن من إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإنها بحاجة إلى إرساء حدٍّ أدنى من الاستقرار الإقليمي، ويجب أن يبدأ هذا الجهد بإعادة امتثال إيران والولايات المتحدة المتبادل باتفاق 2015.

لأكثر من أربعة عقود، نظرت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط على أنه حيوي لمصالحها الوطنية. وأقامت تحالفات مع دول عربية لاحتواء إيران، وإقصاء الإسلام السياسي، وإدارة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كانت الاستراتيجية الأمريكية أكثر نجاحاً عندما تمكنت من الحفاظ على توازن قوى مستقر بين إيران وجيرانها العرب.

لكن منذ أن قوّضت الولايات المتحدة هذا التوازن بغزو العراق عام 2003، وهي تحاول استعادته، وبينما تواجه تحديات عالمية أخرى ملّحة، فإنها تتخلى الآن عن هذا الجهد كلياً.

هناك سبب كافٍ لتبني عملية إعادة التقييم الاستراتيجي هذه. فالسعي وراء توازن قوى بعيد المنال أمر مكلف للغاية، خاصة وأن الشرق الأوسط لم يعد حيوياً للمصالح القومية الأمريكية. لكن ترك المنطقة لنظامها الخاص هو مناورة خطيرة. فبدون ترتيب أمني جديد، ستكون الفوضى والصراعات، هي النظام السائد اليوم.

إن عودة التطرف الإسلامي، وشبح المزيد من انهيار الدول، والحروب الكبيرة والصغيرة على الأراضي والموارد، والصراع المفتوح بين إيران وإسرائيل، جميعها ستكون لها عواقب أمنية وإنسانية كارثية، ستتطلب حتماً اهتماماً أميركياً متجدداً.

وإن كانت الولايات المتحدة تريد أن تتجاهل عبء الحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط، فعليها أن تبحث عن بديل مستدام، أي ترتيب يمكن أن ينهي الصراعات الأكثر خطورة في المنطقة، ويضع قواعد اللعبة لنظام إقليمي قابل للتطبيق. ويجب أن تبدأ تلك المهمة بنزع فتيل الصراع الذي يمثل أكبر تهديد للمنطقة: المواجهة مع إيران.

 

 __ _ _ _ _ 
ولي نصر: خبير أمريكي من أصل إيراني، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والشؤون الدولية، في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز.

عبد القادر نعناع: أكاديمي وباحث سوري، مختص بشؤون الشرق الأوسط والشؤون الدولية.

الترجمة منشور في موقع مركز الخليج للدراسات إيرانية 

للعودة إلى النص الأصلي باللغة الإنجليزية، انظر:

Vali Nasr, "All Against All: The Sectarian Resurgence in the Post-American Middle East", Foreign Affairs, January/February 2022, Volume 101, Number 1, pp. 128-138.

https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2021-12-02/iran-middle-east-all-against-all

 


بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: