د. عبد القادر نعناع

قوة عظمى، أحببتم ذلك أم لا: لِمَ يتوجب على الأمريكيين قبول دورهم العالمي؟

د. عبد القادر نعناع • ٤ أبريل ٢٠٢١
الكاتب: روبرت كاجان
ترجمة: د. عبد القادر نعناع

تتمتع جميع القوى العظمى بتصوّرٍ لذاتها، متأصّلٍ بعمق، شكّلته التجربة التاريخية والجغرافيا والثقافة والمعتقدات والأساطير. إذ يتوق العديد من الصينيين اليوم إلى استعادة عظمتهم التي حكموا فيها دون منازعٍ في ذروة حضارتهم، قبل أن ينحدروا إلى "قرن الذل". فيما يشعر الروس بالحنين إلى أيام الاتحاد السوفيتي، عندما كانوا القوة العظمى الأخرى وحكموا من بولندا إلى فلاديفوستوك.

كان هنري كيسنجر، ذات مرة، قد أشار إلى أنه يتعين على القادة الإيرانيين أن يختاروا ما إن كانوا يريدون أن يكونوا "أمّةً أو قضية"، لكن القوى العظمى والقوى التي تطمح إلى أن تكون عظمى، غالباً ما ترى في نفسها كلا الأمرين. ويشكّل تصوّرها الذاتي تعريفها للمصلحة الوطنية، وبالتالي يشكّل الأمن الحقيقي والإجراءات والموارد اللازمة لتحقيق ذلك. وغالباً ما تكون هذه التصورات الذاتية هي دافع الأمم والإمبراطوريات والدول-المدن إلى الأمام، وأحياناً إلى الخراب، وقد وقعت كثير من الأحداث في القرن الماضي، ناتجة عن قوى عظمى تجاوزت تطلعاتُها طاقاتِها.

في المقابل، فإنّ لدى الأمريكيين إشكاليّةً مضادة، حيث تتجاوز قدرتهم في مجال القوة العالمية تصوّرهم لمكانتهم ودورهم المناسِبَيْن في العالم. فعلى الرغم من أنّهم واجهوا تحديات النازية والإمبريالية اليابانية والشيوعية السوفيتية والإرهاب الإسلامي الراديكالي، إلّا أنّهم لم يعتبروا هذا النشاط العالمي أمراً طبيعياً. وحتى في عصر الإنترنت، والصواريخ بعيدة المدى، والاقتصاد العالمي المترابط، يحتفظ العديد من الأمريكيين بنفسيّة شعبٍ يعيش منفرداً في قارةٍ شاسعة، بمنأى عن الاضطرابات العالمية.

فعلياً، لم يكن الأمريكيون انعزاليين، مطلقاً. ففي أوقات الطوارئ، يمكن إقناعهم بدعم الجهود غير العادية في الأماكن البعيدة. لكنّهم يعتبرون هذه ردود فعل استثنائيةً لظروف استثنائية. فهم لا يرون أنفسهم المدافع الرئيس عن شكلٍ معين من النظام العالمي، ولم يتبنّوا أبداً هذا الدور "الذي لا غنى عنه".

نتيجةً لذلك، كان أداء الأمريكيين في كثير من الأحيان سيئاً، حيث أنتجت وجهة نظرهم القارية Continental View (بمعنى داخل القارة الأمريكية فقط)، تجاه العالم، قرناً من التذبذبات الجامحة، وعدم المبالاة، أعقبها حالات ذعرٍ وتعبئةٍ وتدخّلٍ، ثم أعقبها تراجع وانكماش.

ويشير الأمريكيون إلى تدخلاتهم العسكرية منخفضة التكلفة نسبياً، في أفغانستان والعراق، على أنها "حروب أبدية"، بينما هي أحدث مثال على عدم تسامحهم مع الأعمال الفوضوية التي لم تنتهِ بالحفاظ على السلام العام والعمل على إحباط التهديدات. وفي كلتا هاتين الحالتين، خرج الأمريكيون من الباب لحظة دخولهم، وهو ما أعاق قدرتهم على السيطرة على المواقف الصعبة.

لقد أدى هذا النهج المتكرر إلى إرباك الحلفاء والأعداء على السواء، وغالباً تضليلهم إلى درجة تحفيز الصراعات التي كان من الممكن تجنبها من خلال التطبيق الواضح والثابت للقوة والتأثير الأمريكيين، في خدمة سلمية واستقرار وليبرالية النظام العالمي. فقد كان القرن العشرون مليئاً بجثث الزعماء الأجانب والحكومات التي أساءت تقدير الولايات المتحدة، من ألمانيا (مرتين)، إلى اليابان والاتحاد السوفيتي، وصولاً إلى صربيا والعراق.

وفي حال لم يتبع القرن الحادي والعشرون نفس النمط في المنافسة مع الصين -وهو الأمر الأكثر خطورة- فسيحتاج الأمريكيون إلى التوقف عن البحث عن مخارج، وبالتالي قبول الدور الذي فرضه عليهم القدر وقوتهم. وربما بعد أربع سنوات من حكم الرئيس دونالد ترامب، أصبح الأمريكيون مستعدين لبعض الحديث الصريح.

 
رأيان للجدال:
إن تفضيل الأمريكيين لدور دولي محدود، هو نتاج تاريخهم وخبراتهم والأساطير التي يرددونها لأنفسهم، وبينما تتطلّع القوى العظمى الأخرى إلى استعادة أمجاد الماضي، كان الأمريكيون يتطلعون إلى استعادة ما يتخيلون أنه براءة وطموح محدود لأمتهم الشابة. فخلال العقود الأولى من وجود الجمهورية الجديدة، كافح الأمريكيون لمجرد البقاء على قيد الحياة كجمهورية ضعيفة في عالم من الملكيات العظمى. وأمضوا القرن التاسع عشر في حالة أنانية، وعملية استيعاب الذات، وغزو القارة، والنضال ضد العبودية. لكن بحلول أوائل القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم، لكن دون التزامات أو مسؤوليات.

نشأت الولايات المتحدة تحت مظلة نظام عالمي خيّرٍ لم يكن لها دور في دعمه، وفي ذلك كتب المؤرخ البريطاني جيمس برايس James Bryce، عن الولايات المتحدة، عام 1888: "هي في مأمن من الهجوم، مأمن حتى من التهديد ... كانت تسمع من بعيد، صرخات متناحرة للأعراق والأديان الأوروبية، وبينما كانت آلهة أبيقور تستمع إلى همهمة التعساء، توسعت الأرض تحت مساكن الأمريكيين الذهبية ... وكانوا يبحرون في بحر صيفي".

لكن العالم تحول بعد ذلك، ووجد الأمريكيون أنفسهم فجأة في قلبه. فذاك النظام القديم الذي أيدته المملكة المتحدة، والذي أصبح ممكناً بفضل السلام الهش في أوروبا، كان قد انهار مع وصول قوى جديدة. حيث أدى صعود ألمانيا إلى تدمير التوازن غير المستقر في أوروبا، وأثبت الأوروبيون أنهم غير قادرين على استعادته. كما وضع الصعود المتزامن لليابان والولايات المتحدة نهاية لما يزيد عن قرن من الهيمنة البحرية البريطانية، وحلَّ نظام الجغرافيا السياسية العالمية محل نظام الهيمنة الأوروبي، وفيه تم دفع الولايات المتحدة إلى موقع جديد في تكوين القوة هذا، والمختلف تماماً عما سبقه.

وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على أن تكون قوة في المحيطين الهادي والأطلسي، ووحدها التي كانت تتمتع بجيران ضعفاء في الشمال والجنوب، وتطلّ على محيطات شاسعة إلى الشرق والغرب، ووحدها التي كان يمكن لها أن ترسل الجزء الأكبر من قواتها للقتال في مسارح بعيدة ولفترات طويلة، بينما يظل وطنها دون تهديد. وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على تمويل جهود الحرب الخاصة وجهود حلفائها أيضاً، بل وحشد القدرة الصناعية لإنتاج السفن والطائرات والدبابات وغيرها من العتاد، لتسليح نفسها، بينما تعمل أيضاً كترسانة لأي طرف آخر. وكانت هي وحدها القادرة على القيام بكل هذا دون أن تشهد إفلاساً مالياً، بل كانت عوضاً عن ذلك تصبح أكثر ثراءً وهيمنة مع كل حرب كبرى.

وقد لاحظ رجل الدولة البريطاني آرثر بلفور Arthur Balfour، أن الولايات المتحدة قد أصبحت "المحور" الذي يدور حوله بقية العالم، أو على حد تعبير الرئيس ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt: "ميزان القوى في العالم بأسره".

لم يعرف العالم أبداً مثل هذه القوة، ولم تكن هناك لغة لوصف هذ القوة أو نظرية لتفسيرها. حيث كانت الولايات المتحدة قوة فريدة من نوعها، وأدى ظهور هذه القوة العظمى غير العادية إلى ارتباك وسوء تقدير، حيث كانت الدول التي أمضت قروناً في حساب علاقات القوة في مناطقها، بطيئة في تقدير تأثير هذا الصاعد الجديد البعيد، والذي كان بإمكانه بعد فترة طويلة من عدم المبالاة والانغلاق على الذات، أن ينقضّ على العالم فجأة ويغير ميزان القوى.

الأمريكيون أنفسهم واجهوا صعوبة في التكيف مع وضعهم الجديد، والذي تمتعوا فيه بثراء وحصانة نسبية، جعلتهم قادرين بشكل فريد، على خوض حروب كبرى، وفرض سلام في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، لكن في نفس الوقت، دفعهم ذلك للتساؤل عن ضرورة القيام بذلك، والرغبة فيه، ومدى أخلاقيته. فمع ولايات متحدة آمنة ومكتفية ذاتياً، ما الحاجة للانخراط في صراعات على بعد آلاف الكيلومترات من شواطئها؟ وما الحق الذي يخولها ذلك؟

طرح الرئيسان ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt و وودرو ويلسون Woodrow Wilson، قضية سياسة تهدف إلى إنشاء نظام عالمي ليبرالي، والحفاظ عليه، وذلك لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث لم تعد المملكة المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى قادرة على الحفاظ على النظام، كما كانوا يدّعون. وأثبتت الحرب أن الولايات المتحدة قد حملت على عاتقها إنشاء نظام عالمي ليبرالي جديد والدفاع عنه.

هذا كان الغرض من إنشاء "عصبة الأمم للسلام المنصف World League for the Peace of Righteousness"، التي اقترحها روزفلت بداية الحرب، و "عصبة الأمم League of Nations" التي دافع عنها ويلسون بعد ذلك، والتي عنت: إنشاء نظام سلمي جديد تكون القوة الأمريكية في مركزه. حيث اعتقد ويلسون أن هذا النظام هو البديل الوحيد الممكن لمنع استئناف الصراع والفوضى التي دمرت أوروبا. وحذر من أنه إن عاد الأمريكيون بدلاً من ذلك إلى "أهدافهم الإقليمية الضيقة والأنانية"، فإن السلام سينهار، وستنقسم أوروبا مرة أخرى إلى "معسكرات معادية"، وسينحدر العالم مرة أخرى إلى "سوادٍ حالك"، فيما سيتم استدراج الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الحرب. بالنتيجة، كانت مصلحة الولايات المتحدة تتبلور في قارة أوروبية سلمية، وفي الغالب ليبرالية، مع قارة آسيوية سلمية، ومحيطات مفتوحة وآمنة يمكن للأمريكيين وبضائعهم السفر عبرها بأمان. لكن مثل هذا العالم لا يمكن بناؤه إلا استناداً على القوة الأمريكية، لذا كان للولايات المتحدة مصلحة في بناء هكذا نظام عالمي.

قوبلت مثل تلك الحجج، بمعارضة قوية، حيث أدان كثير من النقاد، وعلى رأسهم السناتور الجمهوري هنري كابوت لودج Henry Cabot Lodge، "عصبة" ويلسون، باعتبارها منظمة غير ضروري بل خيانة لرؤية المؤسسين الأمريكيين، حيث اعتقدوا أن اهتمام الولايات المتحدة بنظام عالمي يعني انتهاك المبادئ الأساسية التي جعلت الولايات المتحدة دولة استثنائية محبة للسلام في عالم من الحروب.

لكن بعد عقدين من الزمن، وبينما كان الأمريكيون يناقشون ما إن كانوا سيدخلون حرباً عالمية أخرى، سخر السناتور الجمهوري روبرت تافت Robert Taft، من فكرة أن الولايات المتحدة التي كانت آمنة تماماً من الهجوم، ومن فكرة أنه يتوجب عليها أن "تمتد حول العالم، مثل فارس ضالٍّ، يحمي الديمقراطية ومُثُل حسن النية، لتكون دون في حالة قتال ضد طواحين الهواء الفاشية". فيما جادل الرئيس فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt، بأنه حتى لو لم تتعرض الولايات المتحدة لتهديد مباشر من ألمانيا النازية أو اليابان الإمبراطورية، فإنّ العالم الذي تسيطر عليه تلك الديكتاتوريات القوية، سيكون "مكانًا رديئاً وخطيراً للعيش فيه". وستكون مسألة وقت فقط قبل أن تتجمّع الديكتاتوريات لشن هجوم نهائي على القلعة الديموقراطية المتبقية، كما اعتقد روزفلت، وقبل أن تأتي تلك اللحظة، فقد تصبح الولايات المتحدة "جزيرة منعزلة" من الديمقراطية في عالم من الديكتاتوريات، لتتلاشى الديمقراطية نفسها بكل بساطة.

لكن معارضي التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، كانوا قلقين من عواقب الانتصار بقدر قلقهم من تكاليف التدخل. ولم يرغبوا في أن تخضع بلادهم لمصالح الإمبراطوريات الأوروبية، لكنهم لم يريدوا أيضاً أن تحل الولايات المتحدة محل تلك الإمبراطوريات باعتبارها القوة العالمية المهيمنة. وحذر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كوينسي آدامز John Quincy Adams، من أن الولايات المتحدة ستفقد روحها حين تصبح "ديكتاتورية العالم".

تم اختزال هذا النقاش غير المستقر، مع الهجوم الياباني على بيرل هاربور، وبينما كان روزفلت يخوض الحرب العالمية الثانية، فإن تطلعه كان باتجاه نظام ما بعد الحرب الذي كان يأمل في إنشائه، بينما رأى معظم الأمريكيين أن الحرب لم تكن سوى دفاع عن النفس، بما يتفق تماماً مع منظورهم القاري، وأنهم عندما ينتهون منها، فسيعودون إلى منازلهم.

انتهت الحرب بسيطرة الولايات المتحدة على العالم، وعانى الأمريكيون من نوع من التناقض المعرفي، حيث قادتهم الحرب الباردة، إلى تحمل مسؤوليات عالمية لم يشهدوها من قبل، ونشروا قواتهم في مسارح بعيدة عنهم آلاف الكيلو مترات، وخاضوا حربين معاً في كوريا وفيتنام، كانت تكلفتهما 15 ضعفاً من حيث الوفيات العسكرية مقارنة بما ستكون عليه الحال في أفغانستان والعراق.

وروّج الأمريكيون لنظام عالمي للتجارة الحرة، أدى أحياناً إلى إثراء الدول الأخرى أكثر من الولايات المتحدة ذاتها، فيما تدخّلوا اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً في كل ركن من أركان العالم. وسواء كانوا يدركون ذلك أم لا، فقد أنشأوا نظاماً عالمياً ليبرالياً، وبيئة دولية سلمية نسبياً، والتي بدورها جعلت من الممكن توسيع الرخاء العالمي، مع انتشار غير مسبوق تاريخياً للحكومات الديمقراطية.

كان هذا هو الهدف الواعي للرئيس روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية، ولخلفائه في إدارة الرئيس ترومان Harry Truman. حيث كانوا يعتقدون أن النظام العالمي القائم على المبادئ السياسية والاقتصادية الليبرالية، هو الترياق الوحيد لفوضى ثلاثينيات القرن العشرين. ورأى وزير خارجية ترومان، دين أشسون Dean Acheson، بأنه لتحقيق هذا الغرض، لا يمكن للولايات المتحدة أن "تجلس في صالونها، حاملة بندقيتها، في حالة انتظار". بل عليها أن تكون في الخارج، أي في العالم، لتشكيله بشكل فعّال، وردع بعض القوى ودعم أخرى. وكان عليها أن تخلق "مواقف قوة"، في الأزمات الحرجة، وأن تنشر الاستقرار والازدهار والديمقراطية، لا سيما في المناطق الصناعية الأساسية في العالم، في أوروبا وآسيا. ويضيف أشسون، أنه كان على الولايات المتحدة أن تكون "القاطرة على رأس البشرية"، وأن تجذب العالم معها.

 
الانجراف الأمريكي
بعد أن أنشأ الأمريكيون هذا النظام، لم ترَ سوى قلة من الشعب الأمريكي النظام العالمي باعتباره هدفاً، وبالنسبة لمعظم الناس، فإن الجهود غير العادية نابعة من تهديد الشيوعية، وهو ما برّر إنشاء حلف الناتو وعمليات الدفاع عن اليابان وكوريا وفيتنام. حيث أصبحت مقاومة الشيوعية مصطلحاً مرادفاً للمصلحة الوطنية، إذ كان يُنظر إلى الشيوعية على أنها تهديد لأسلوب الحياة الأمريكي، وعندما امتنع الأمريكيون عن دعم اليونان وتركيا عام 1947، أخبر السناتور الجمهوري آرثر فاندنبرغ Arthur Vandenberg، مسؤولي إدارة ترومان أن عليهم أن "يخيفوا الشعب الأمريكي بالجحيم". فيما رأى أشسون في مذكراته، أنه حين كانت الشيوعية العدو الوحيد، كان لكل شيء أهمية، وكان كل عمل بمثابة عمل دفاعي.

لذلك، عندما انتهت الحرب الباردة، أصبح الفصل بين الدور الفعلي للأميركيين والتصور الذاتي للأميركيين غير مقبول. وبدون التهديد العالمي للشيوعية، تساءل الأمريكيون عن الغرض من سياستهم الخارجية، وعن الهدف من وجود نظام أمني يحيط بالكرة الأرضية، وأسطول بحري مهيمن، وتحالفات بعيدة المدى مع عشرات الدول، ونظام عالمي للتجارة الحرة.

ليبدأ التمرد الدولي على الفور، مع غزو صدام حسين للكويت عام 1990، حينها طرح الرئيس جورج بوش الأب George H. W. Bush، مسألة طرد صدام من الكويت لأسباب تتعلق بالنظام العالمي. وقال بوش في خطاب متلفز من المكتب البيضاوي، نقلاً عن الجنرال الذي كان يقود قوات المارينز الأمريكية التي تقاتل قوات صدام: "إن"العالم الذي يُسمَح فيه بسيطرة الوحشية والخروج على القانون، دون رادع، ليس العالم الذي نرغب أن نعيش فيه".

ولكن عندما انتقد الواقعيون والمحافظون رؤية بوش لـ "نظام عالمي جديد"، باعتبارها رؤية مفرطة في الطموح والمثالية، تراجعت الإدارة إلى شكل من أشكال المنطق القاري الأمريكي الضيق، الذي يفهمه الأمريكيون بشكل أفضل، وحينها تم ترويج الأمر على أنه "الوظائف والوظائف والوظائف"، وهي الطريقة التي دافع فيها وزير الخارجية جيمس بيكر James Baker، عن موضوع حرب الخليج.

وعندما تدخل الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton، مرتين في البلقان، ثم قام بتوسيع حلف الناتو، كان ذلك دفاعاً عن النظام العالمي، ومحاولة للقضاء على عمليات التطهير العرقي في أوروبا، وإثبات التزام الولايات المتحدة المستمر بما وصفه بوش "بأوروبا كاملة وحرة ..."، لكن كلينتون تعرض أيضاً لهجوم الواقعيين، بسبب ما اعتبروه انخراطاً في "العمل الاجتماعي الدولي".

ومع الرئيس بوش الابن George W. Bush، كان هدف الحرب الثانية على العراق، في المقام الأول: "الحفاظ على النظام العالمي، وتخليص الشرق الأوسط والخليج العربي، من معتدٍ يصوّر نفسه صلاح الدين الجديد". لكن هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تسببت في خلط أهداف النظام العالمي مرة أخرى بالدفاع القاري الأمريكي، حتى بالنسبة لمناصري الحرب. وعندما ثبت خطأ المعلومات الاستخباراتية حول برامج أسلحة صدام حسين، شعر العديد من الأمريكيين أنه تم الكذب عليهم بشأن التهديد المباشر الذي شكّله العراق على الولايات المتحدة.

وصل الرئيس باراك أوباما إلى السلطة –نسبياً- بسبب خيبة الأمل الغاضبة التي لا تزال تشكل المواقف الأمريكية اليوم. ومن المفارقات التي وقعت، أنه عند تسلّم جائزة نوبل للسلام، لاحظ أوباما أن الاستعداد الأمريكي "لضمان الأمن العالمي" قد جلب الاستقرار إلى عالم ما بعد الحرب، وأن هذا كان في "المصلحة الذاتية المستنيرة" للولايات المتحدة. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن الأمريكيين يهتمون أكثر ببناء أمتهم. وفي النهاية، تشكلت واقعية أوباما، مثل واقعية الرئيس تافت William Howard Taft (1908-1912)، من قبول "العالم كما هو"، وليس كما يرغب دعاة النظام العالمي أن يكون.

في عام 1990، جادل سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى الأمم المتحدة جين كيركباتريك Jeane Kirkpatrick، بأن على الولايات المتحدة أن تعود إلى مكانتها كدولة "طبيعية" ذات مصالح طبيعية، وأن تتخلى عن "الفوائد المشكوك فيها لمكانتها كقوة عظمى"، وأن تنهي "التركيز غير الطبيعي" على السياسة الخارجية، وعليها أن تنظر إلى مصالحها الوطنية التقليدية، والتي تعني حماية مواطنيها وأراضيها وثرواتها وحصولها على السلع "الضرورية". لم يهتم هذا المنظور، بالحفاظ على توازن القوى في أوروبا أو آسيا، أو تعزيز الديمقراطية، أو تحمل مسؤولية مشاكل عالم التي لا تمس الأمريكيين بشكل مباشر. وهذا هو المنظور القاري الأمريكي، الذي لا يزال يسود حتى اليوم، وهو منظور لا ينكر أن للولايات المتحدة مصالح، لكنه يجعل منها مجرد مصالح شبيهة بمصالح كل الدول.

لكن المشكلة هي أن الولايات المتحدة لم تكن دولة طبيعية لأكثر من قرن، ولم يكن لديها مصالح عادية، فقوتها الفريدة تمنحها دوراً فريداً. فالبنغال أو البوليفيون مثلاً، لديهم أيضاً مصلحة في الاستقرار العالمي، وقد يعانون إن هيمنت ألمانيا مرة أخرى على أوروبا أو إن هيمنت اليابان مرة أخرى على آسيا. لكن لا أحد يقترح أنه من مصلحتهم الوطنية منع حدوث ذلك، لأنهم يفتقرون إلى القدرة على القيام بذلك، تماماً كما كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على ذلك عام 1798، عندما كانت مهدّدة –بشدة - بالهيمنة الأوروبية. ولم يصبح النظام العالمي مصدر قلق للولايات المتحدة إلا بعدما انهار النظام العالمي القديم في أوائل القرن العشرين، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على إنشاء نظام جديد يمكن فيه حماية مصالحها.

لا يزال هذا الحال قائماً اليوم، أكثر من عصر كيركباتريك، حيث تظل القارية هي المنظور المهيمن في الولايات المتحدة، بل باتت اللغة التي يستخدمها الأمريكيون للحديث عن السياسة الخارجية والنماذج النظرية التي يفهمون من خلالها مفاهيم مثل المصلحة الوطنية والأمن، ولا تزال مليئة بالدعوات الأخلاقية، ولا تزال دعوات "ضبط النفس" تستذكر حكمة المؤسسين، وتعلن أن خيانة تلك الحكمة هي غطرسة ومسيانية Messianism وإمبريالية ([1]). ولا يزال العديد من الأممين -أصحاب الدعوة الدولية internationalists- يعتقدون أن ما يعتبرونه ممارسة غير مبررة للقوة الأمريكية هو أكبر عقبة أمام عالم أفضل وأكثر عدلاً، ويرون أن النتائج المختلطة للحروب في أفغانستان والعراق ليست مجرد أخطاء في الحكم والتنفيذ، بل علامات سوداء في الروح الأمريكية.

ولا يزال الأمريكيون يتوقون إلى الهروب إلى ماضٍ أكثر براءة وبساطة، لدرجة أنهم ربما لا يدركون أنهم يتوقون إلى امتلاك قوة أقل. لقد أدرك الواقعيون منذ فترة طويلة، أنه طالما أن الولايات المتحدة قوية جداً، فسيكون من الصعب تجنب ما أطلق عليه عالما السياسة روبرت تاكر Robert Tucker وديفيد هندريكسون David Hendrickson، ذات مرة: "الإغراء الإمبراطوري the imperial temptation". هذا هو أحد الأسباب التي جعلت الواقعيين يصرون دائماً على أن القوة الأمريكية في حال تراجع، أو ببساطة ليست على مستوى المهمة المناطة بها.

ردّد هذه الحجة، كل من الكاتب الأمريكي والتر ليبمان Walter Lippmann، والدبلوماسي الأمريكي جورج كينان George Kennan، أواخر أربعينيات القرن العشرين. كما ردّدها كيسنجر أواخر الستينيات، وردّدها المؤرخ بول كينيدي Paul Kennedy، في الثمانينيات. وما يزال العديد من الواقعيين يردّدونها حتى اليوم. حيث يتعامل الواقعيون مع كل حرب فاشلة، من فيتنام إلى العراق، كما لو كانت مشابهة للحملة الصقليّة، والتي كانت الحماقة الأخيرة التي أدت إلى هزيمة أثينا في الحرب ضد إسبرطة، في القرن الخامس قبل الميلاد.

لقد نشأ جيل كامل من الأمريكيين، على قناعة بأن الافتقار إلى انتصاراتٍ واضحة في أفغانستان والعراق، يثبت أن بلادهم لم تعد قادرة على تحقيق أي شيء بالقوة، وأن صعود الصين، وتراجع حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، وتقدم التقنيات العسكرية الجديدة، وانتشار القوة بشكل عام حول العالم، كلها إشارات أخرى على أفول النظام الأمريكي.

رغم ذلك، في حال كانت الولايات المتحدة ضعيفة كما يدعي كثيرون، حينها لن تضطر إلى ممارسة ضبط النفس؛ لأن الدولة لا تزال قادرة على اتباع استراتيجية النظام العالمي، وهو ما يجعل النقاد مطالبين بتقديم شروحات له. في المقابل، فإن التكوين الأساسي للقوة الدولية لم يتغير كما يتصور كثيرون، فالأرض ما تزال مستديرة، ولا تزال الولايات المتحدة قابعة في قارتها الشاسعة المنعزلة، تحيط بها محيطات، وقوى أضعف منها، فيما لا تزال القوى الكبرى الأخرى، تقبع في مناطق مكتظة بقوى كبرى أخرى، وعندما تتفوق قوة واحدة في تلك المناطق على الآخرين، فإن الضحايا المحتملين لا يزالون يتطلعون إلى الولايات المتحدة البعيدة للحصول على المساعدة.

فروسيا، ورغم أنها تمتلك ترسانة نووية ضخمة، إلا أنها أصبحت "فولتا العليا بصواريخ Upper Volta with rockets"، أكثر مما كانت عليه عندما تم صياغة هذا المصطلح أوائل الحرب الباردة، حين سيطر السوفييت على نصف أوروبا على الأقل ([2]).

ورغم أن الصين حلت محل اليابان، وهي أقوى من حيث الثروة والسكان، لكن قدراتها العسكرية غير مثبتة، ويبقى موقعها الاستراتيجي أقل تفضيلاً. وحينما توسعت الإمبراطورية اليابانية في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تواجه أي منافسين إقليميين كبار، بينما كانت القوى الغربية منشغلة بالتهديد الألماني. أما اليوم، فإن آسيا مزدحمة بقوى كبرى أخرى، بما في ذلك ثلاثة جيوش هي ضمن قائمة الجيوش العشرة الكبرى في العالم: الهند واليابان وكوريا الجنوبية، وجميعهم إما حلفاء أو شركاء للولايات المتحدة. وفي حال استخدمت بكين -إيماناً منها بضعف واشنطن- قوتها المتنامية، لمحاولة تغيير الوضع الاستراتيجي في شرق آسيا، فقد يتعين عليها التعامل ليس مع الولايات المتحدة فحسب، بل مع تحالف عالمي من الدول الصناعية المتقدمة، كما سبق وأن اكتشف الاتحاد السوفييتي ذلك.

كانت سنوات ترامب بمثابة اختبار ضغط للنظام العالمي الأمريكي، وقد نجح هذا الاختبار. وشهدت تلك الفترة مواجهة كابوس قوة عظمى مارقة تمزق التجارة والاتفاقيات الأخرى، وهو ما دفع حلفاء الولايات المتحدة لاسترضائها وتملقها، وقدموا لها قرابيناً لتهدئة هذا البركان الغاضب، وظلوا في حالة انتظار قيام ظروف أفضل، في حين تحرك أعداؤها بحذر. فعندما أمر ترامب بقتل قاسم سليماني، كان من المعقول توقع ردٍّ إيراني، وقد يقع ذلك، ولكن لم يقع في عهد رئاسة ترامب. كما عانى الصينيون من حرب جمركية طويلة، أضرت بهم أكثر مما أضرت بالولايات المتحدة، لكنهم حاولوا تجنب الانهيار الكامل للعلاقات الاقتصادية التي يعتمدون عليها مع الولايات المتحدة.

وبينما كان أوباما قلقاً من يؤدي توفير أسلحة هجومية لأوكرانيا إلى حرب مع روسيا، فإن إدارة ترامب مضت في تسليم الأسلحة، وأذعنت موسكو بصعوبة بالغة. ورغم أن العديد من سياسات ترامب كانت غير منتظمة وسيئة التصميم، لكنها أظهرت مقدار القوة الزائدة غير المستخدمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، في حال اختار الرئيس استخدامها. ففي عهد أوباما، أعاد المسؤولون الأمريكيون حساباتهم 50 مرة قبل تخفيض التصعيد من عدمه، نتيجة قلقهم من أن يؤدي التصعيد الأمريكي إلى تصعيد مضاد من القوى الأخرى. أما في عهد ترامب، كانت الدول الأخرى هي من تعاني من قلق خشية تصعيد الولايات المتحدة المواجهة معها.

 
قوة كبرى، ومسؤوليات كبرى:
مع قليل من الأسى، وصف المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee، أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، الولايات المتحدة بأنها "تعلب بشكل كسول، بجزء بسيط من قوتها التي لا تحصى". في ذلك الوقت، كان الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة يتراوح بين 2-3٪ من الناتج المحلي الإجمالي. أما اليوم، فهو يزيد قليلاً عن ثلاثة بالمائة.

في خمسينيات القرن الماضي، وخلال إدارة أيزنهاور -والتي غالباً ما يُنظر إليها على أنها فترة ضبط نفس مثيرة للإعجاب في السياسة الخارجية الأمريكية- نشرت الولايات المتحدة ما يقرب من مليون جندي خارج أراضيها، وذلك من إجمالي عدد السكان الأمريكيين البالغ 170 مليون. أما اليوم، وفي عصر يقال فيه إن الولايات المتحدة مفرطة في التوسع بشكل خطير، هناك ما يقرب من 200 ألف جندي أمريكي منتشرين في الخارج، من أصل 330 مليون نسمة.

وبغض النظر عما إن كان هذا يشكل "لعباً كسولًا بجزء بسيط" من القوة الأمريكية، فمن المهم أن ندرك أن الولايات المتحدة الآن هي في وضع سلام. ولو تحول الأمريكيون إلى قاعدة الحرب، أو حتى إلى نمط الحرب الباردة، رداً على بعض الإجراءات الصينية -هجوم صيني على تايوان على سبيل المثال-، فإن الولايات المتحدة ستبدو كحيوان مختلف تماماً.

في ذروة أواخر الحرب الباردة، أي في عهد الرئيس رونالد ريغان Ronald Reagan، أنفقت الولايات المتحدة ستة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وأنتجت صناعة الأسلحة، أسلحة بكميات ونوعية لم يستطع السوفييت مواكبتها، ويمكن للصينيين أن يجدوا أنفسهم اليوم في مأزق مماثل. فقد "يندفعون في البرية خلال الأشهر الستة الأولى أو العام"، كما توقع الأدميرال إيسوروكو ياماموتو Isoroku Yamamoto، قائد الأسطول الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، بشأن قواته. لكن على المدى الطويل، كما حذر ياماموتو من استفزاز أمريكا وحلفائها حينها، فقد يواجه الصينيون نفس مصير خصوم الولايات المتحدة الآخرين.

السؤال المطروح الآن، ليس فيما إن كانت الولايات المتحدة لا تزال قادرة على الانتصار في مواجهة عالمية، أكانت ساخنة أم باردة، ومع الصين أو أية قوة تعديلية أخرى revisionist power. فالسؤال الحقيقي هو ما إن كان من الممكن تجنب أسوأ أنواع الأعمال العدائية، وما إن كان يمكن تشجيع الصين والقوى الأخرى على السعي لتحقيق أهدافها سلمياً، وحصر المنافسة العالمية في المجالات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تجنيب نفسها والعالم أهوال حرب كبرى تالية، أو حتى مواجهات مخيفة لحرب باردة أخرى.

لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجنب مثل هذه الأزمات، عبر الاستمرار في التمسك بوجهة نظر القرن التاسع عشر، حول مصلحتها الوطنية، فالقيام بذلك من شأنه أن ينتج ما أنتجته في الماضي: فترات من اللامبالاة والتقشف، يتبعها ذعر وخوف وتعبئة مفاجئة.

هنا نلحظ أن الأمريكيين تحت ضغط مسألتين معاً، فمن ناحية أولى، تحتل الصين في الذهنية الأمريكية الحالية، المكانة التي احتلتها ألمانيا والاتحاد السوفيتي ذات يوم: خصم أيديولوجي لديه القدرة على ضرب المجتمع الأمريكي بشكل مباشر، ولديه قوة وطموحات تهدّد موقف الولايات المتحدة في منطقة رئيسة، وربما في أي مكان آخر أيضاً. ومن ناحية أخرى، يعتقد العديد من الأمريكيين أن الولايات المتحدة في حالة تدهور وأن الصين ستهيمن حتماً على آسيا، وهنا تتماثل التصورات الذاتية للأمريكيين والصينيين تماماً. حيث يعتقد الصينيون أن دور الولايات المتحدة في منطقتهم على مدار الـ 75 عاماً الماضية، كان دوراً غير طبيعي وبالتالي فهو عابر، وكذلك يعتقده الأمريكيون. كما يعتقد الصينيون أن الولايات المتحدة في حالة انحدار، وكذلك يعتقد كثير من الأمريكيين. ويكمن الخطر في أنه مع تكثيف بكين لجهودها لتحقيق ما يتطلبه "الحلم الصيني"، سيصاب الأمريكيون بالذعر، وبالتالي، ونتيجة لذلك، سيقومون بإجراء حسابات خاطئة.

وحيث أنّ الصينيين هم طلاب مُجدّون في دراسة التاريخ، ربما لن يرتكبوا الأخطاء التي ارتكبها الآخرون في إساءة تقدير قوة الولايات المتحدة. ويبقى أن نرى ما إن كان الأمريكيون قد تعلموا دروس تاريخهم، لكن سيكون من الصعب تغيير نمط التذبذب الممتد لقرن، وبشكل خاص، عندما يرى خبراء السياسة الخارجية من جميع الأطياف أن دعم النظام العالمي الليبرالي أمر مستحيل وغير أخلاقي.

من بين المشاكل الأخرى، تعاني وصفات خبراء السياسة الخارجية، من تفاؤل غير مبرر بشأن البدائل المحتملة للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة. ويبدو أن الواقعيين والأممين الليبراليين والقوميين المحافظين والتقدميين، جميعهم يتصور أنه بدون أن تقوم واشنطن بالدور الذي قامت به خلال الـ 75 عامًا الماضية، فإن العالم سيكون على ما يرام، وستتم حماية مصالح الولايات المتحدة بشكل جيد. لكن، لا التاريخ الحديث، ولا الظروف الحالية، تبرر مثل هذه المثالية. فالبديل عن النظام العالمي الأمريكي، ليس نظاماً عالمياً سويدياً، ولن يكون عالم قانون ومؤسسات دولية، أو انتصار التنوير، أو نهاية التاريخ، بل سيكون عالماً من فراغ السلطة، والفوضى، والصراع، وسوء التقدير، وبالنتيجة سيكون مكاناً رديئاً حقاً.

إنّ الحقيقة الفوضوية، هي أنه في العالم الحقيقي، يبقى الأمل الوحيد للحفاظ على الليبرالية، داخل الولايات المتحدة وخارجها، هو الحفاظ على نظام عالمي يفضي إلى الليبرالية، والقوة الوحيدة القادرة على دعم مثل هذا النظام هي الولايات المتحدة. هذا ليس تعبيرا عن الغطرسة، بل واقع متجذر في الظروف الدولية، وهو بالتأكيد نعمة مختلطة. بمعنى أنه مع السعي للحفاظ على هكذا نظام، استخدمت الولايات المتحدة قوتها –وستستخدمها- أحيانًا بطريقة غير حكيمة وغير فعّالة، مع تكاليف غير متوقعة وعواقب غامضة أخلاقياً، لكن هذا ما يعنيه استخدام القوة. عموماً، سعى الأمريكيون بطبيعة الحال للتهرب من هذا العبء، ولتجريد أنفسهم من المسؤولية، والاختباء أحياناً وراء الدعوة الأممية الحالمة، وأحياناً وراء استسلام حازم لقبول العالم "كما هو"، ودائماً مع وجهة النظر التي ترى أنه في ظل غياب خطر واضح وقائم، يمكن للأمريكيين التراجع إلى قلعتهم المتخيلة.

لقد حان الوقت لنقول للأمريكيين، إنه لا مفر من المسؤولية العالمية، وإن عليهم التفكير أبعد من حماية وطنهم، فهم بحاجة إلى فهم أن الغرض من حلف الناتو والتحالفات الأخرى هو الدفاع، ليس ضد تهديدات مباشرة لمصالح الولايات المتحدة، ولكن ضد انهيار النظام الذي يخدم تلك المصالح على أفضل وجه. ويجب إخبارهم بكل صدق، أن مهمة الحفاظ على النظام العالمي عملية لا تنتهي، ومحفوفة بتكاليف باهظة، ولكنها تبقى أفضل من البدائل الأخرى.

لقد أدى الفشل في الانسجام مع الشعب الأمريكي بالبلاد إلى مأزقها الحالي، مع وجود جمهور مرتبك وغاضب، ومقتنع بأن قادته يخونون المصالح الأمريكية من أجل أهدافهم العولمية الشائنة، وهنا فإن الترياق المضاد لذلك، ليس عبر إخافتهم من الصين والتهديدات الأخرى، ولكن، مرة أخرى، عبر محاولة شرح أهمية النظام العالمي الذي أنشأه الأمريكيون، وهذه هي مهمة جو بايدن وإدارته الجديدة.

- - - - - - - -  

ROBERT KAGAN is Stephen and Barbara Friedman Senior Fellow at the Brookings Institution and the author of The Jungle Grows Back: America and Our Imperiled World.

 

لمراجعة النص الأصلي، انظر:
ROBERT KAGAN, "A Superpower, Like It or Not: Why Americans Must Accept Their Global Role", Foreign Affairs, March/April 2021, pp. 28-38.

 
---------
الحواشي

([1]) المسيانية Messianism:

هي الإيمان بقدوم المسيح ليكون مخلصاً أو محرراً لجماعة من الناس، ورغم أنه معتقد مسيحي، لكن الأديان الأخرى لديها مفاهيم متعلقة بالمسيانية، حيث تشمل الأديان التي تحمل مفهوم المسيح: اليهودية (المشياخ)، والزرادشتية (ساوشيان)، والبوذية (مايتريا)، والهندوسية (كالكي)، والطاوية (لي هونغ)، والبابوية، والإسلام. (ويكبيديا)

([2]) جمهورية فولتا العليا، وهي الآن دولة بوركينا فاسو، كانت دولة غير ساحلية في غرب إفريقيا، تأسست في 11 ديسمبر 1958 كمستعمرة ذاتية الحكم، داخل المجتمع الفرنسي. وقبل الحصول على الحكم الذاتي كانت فولتا العليا الفرنسية، وجزءاً من الاتحاد الفرنسي.

أما مصطلح " Upper Volta with rockets"، فقد ظهر أثناء الحرب الباردة، للسخرية من عجز الإمبراطورية السوفييتية الشاسعة عن إنتاج أي شيء آخر غير الأسلحة.
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: