د. عبد القادر نعناع

قوة عظمى، أحببتم ذلك أم لا: لِمَ يتوجب على الأمريكيين قبول دورهم العالمي؟

د. عبد القادر نعناع • ٤ أبريل ٢٠٢١
الكاتب: روبرت كاجان
ترجمة: د. عبد القادر نعناع

تتمتع جميع القوى العظمى بتصوّرٍ لذاتها، متأصّلٍ بعمق، شكّلته التجربة التاريخية والجغرافيا والثقافة والمعتقدات والأساطير. إذ يتوق العديد من الصينيين اليوم إلى استعادة عظمتهم التي حكموا فيها دون منازعٍ في ذروة حضارتهم، قبل أن ينحدروا إلى "قرن الذل". فيما يشعر الروس بالحنين إلى أيام الاتحاد السوفيتي، عندما كانوا القوة العظمى الأخرى وحكموا من بولندا إلى فلاديفوستوك.

كان هنري كيسنجر، ذات مرة، قد أشار إلى أنه يتعين على القادة الإيرانيين أن يختاروا ما إن كانوا يريدون أن يكونوا "أمّةً أو قضية"، لكن القوى العظمى والقوى التي تطمح إلى أن تكون عظمى، غالباً ما ترى في نفسها كلا الأمرين. ويشكّل تصوّرها الذاتي تعريفها للمصلحة الوطنية، وبالتالي يشكّل الأمن الحقيقي والإجراءات والموارد اللازمة لتحقيق ذلك. وغالباً ما تكون هذه التصورات الذاتية هي دافع الأمم والإمبراطوريات والدول-المدن إلى الأمام، وأحياناً إلى الخراب، وقد وقعت كثير من الأحداث في القرن الماضي، ناتجة عن قوى عظمى تجاوزت تطلعاتُها طاقاتِها.

في المقابل، فإنّ لدى الأمريكيين إشكاليّةً مضادة، حيث تتجاوز قدرتهم في مجال القوة العالمية تصوّرهم لمكانتهم ودورهم المناسِبَيْن في العالم. فعلى الرغم من أنّهم واجهوا تحديات النازية والإمبريالية اليابانية والشيوعية السوفيتية والإرهاب الإسلامي الراديكالي، إلّا أنّهم لم يعتبروا هذا النشاط العالمي أمراً طبيعياً. وحتى في عصر الإنترنت، والصواريخ بعيدة المدى، والاقتصاد العالمي المترابط، يحتفظ العديد من الأمريكيين بنفسيّة شعبٍ يعيش منفرداً في قارةٍ شاسعة، بمنأى عن الاضطرابات العالمية.

فعلياً، لم يكن الأمريكيون انعزاليين، مطلقاً. ففي أوقات الطوارئ، يمكن إقناعهم بدعم الجهود غير العادية في الأماكن البعيدة. لكنّهم يعتبرون هذه ردود فعل استثنائيةً لظروف استثنائية. فهم لا يرون أنفسهم المدافع الرئيس عن شكلٍ معين من النظام العالمي، ولم يتبنّوا أبداً هذا الدور "الذي لا غنى عنه".

نتيجةً لذلك، كان أداء الأمريكيين في كثير من الأحيان سيئاً، حيث أنتجت وجهة نظرهم القارية Continental View (بمعنى داخل القارة الأمريكية فقط)، تجاه العالم، قرناً من التذبذبات الجامحة، وعدم المبالاة، أعقبها حالات ذعرٍ وتعبئةٍ وتدخّلٍ، ثم أعقبها تراجع وانكماش.

ويشير الأمريكيون إلى تدخلاتهم العسكرية منخفضة التكلفة نسبياً، في أفغانستان والعراق، على أنها "حروب أبدية"، بينما هي أحدث مثال على عدم تسامحهم مع الأعمال الفوضوية التي لم تنتهِ بالحفاظ على السلام العام والعمل على إحباط التهديدات. وفي كلتا هاتين الحالتين، خرج الأمريكيون من الباب لحظة دخولهم، وهو ما أعاق قدرتهم على السيطرة على المواقف الصعبة.

لقد أدى هذا النهج المتكرر إلى إرباك الحلفاء والأعداء على السواء، وغالباً تضليلهم إلى درجة تحفيز الصراعات التي كان من الممكن تجنبها من خلال التطبيق الواضح والثابت للقوة والتأثير الأمريكيين، في خدمة سلمية واستقرار وليبرالية النظام العالمي. فقد كان القرن العشرون مليئاً بجثث الزعماء الأجانب والحكومات التي أساءت تقدير الولايات المتحدة، من ألمانيا (مرتين)، إلى اليابان والاتحاد السوفيتي، وصولاً إلى صربيا والعراق.

وفي حال لم يتبع القرن الحادي والعشرون نفس النمط في المنافسة مع الصين -وهو الأمر الأكثر خطورة- فسيحتاج الأمريكيون إلى التوقف عن البحث عن مخارج، وبالتالي قبول الدور الذي فرضه عليهم القدر وقوتهم. وربما بعد أربع سنوات من حكم الرئيس دونالد ترامب، أصبح الأمريكيون مستعدين لبعض الحديث الصريح.

 
رأيان للجدال:
إن تفضيل الأمريكيين لدور دولي محدود، هو نتاج تاريخهم وخبراتهم والأساطير التي يرددونها لأنفسهم، وبينما تتطلّع القوى العظمى الأخرى إلى استعادة أمجاد الماضي، كان الأمريكيون يتطلعون إلى استعادة ما يتخيلون أنه براءة وطموح محدود لأمتهم الشابة. فخلال العقود الأولى من وجود الجمهورية الجديدة، كافح الأمريكيون لمجرد البقاء على قيد الحياة كجمهورية ضعيفة في عالم من الملكيات العظمى. وأمضوا القرن التاسع عشر في حالة أنانية، وعملية استيعاب الذات، وغزو القارة، والنضال ضد العبودية. لكن بحلول أوائل القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم، لكن دون التزامات أو مسؤوليات.

نشأت الولايات المتحدة تحت مظلة نظام عالمي خيّرٍ لم يكن لها دور في دعمه، وفي ذلك كتب المؤرخ البريطاني جيمس برايس James Bryce، عن الولايات المتحدة، عام 1888: "هي في مأمن من الهجوم، مأمن حتى من التهديد ... كانت تسمع من بعيد، صرخات متناحرة للأعراق والأديان الأوروبية، وبينما كانت آلهة أبيقور تستمع إلى همهمة التعساء، توسعت الأرض تحت مساكن الأمريكيين الذهبية ... وكانوا يبحرون في بحر صيفي".

لكن العالم تحول بعد ذلك، ووجد الأمريكيون أنفسهم فجأة في قلبه. فذاك النظام القديم الذي أيدته المملكة المتحدة، والذي أصبح ممكناً بفضل السلام الهش في أوروبا، كان قد انهار مع وصول قوى جديدة. حيث أدى صعود ألمانيا إلى تدمير التوازن غير المستقر في أوروبا، وأثبت الأوروبيون أنهم غير قادرين على استعادته. كما وضع الصعود المتزامن لليابان والولايات المتحدة نهاية لما يزيد عن قرن من الهيمنة البحرية البريطانية، وحلَّ نظام الجغرافيا السياسية العالمية محل نظام الهيمنة الأوروبي، وفيه تم دفع الولايات المتحدة إلى موقع جديد في تكوين القوة هذا، والمختلف تماماً عما سبقه.

وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على أن تكون قوة في المحيطين الهادي والأطلسي، ووحدها التي كانت تتمتع بجيران ضعفاء في الشمال والجنوب، وتطلّ على محيطات شاسعة إلى الشرق والغرب، ووحدها التي كان يمكن لها أن ترسل الجزء الأكبر من قواتها للقتال في مسارح بعيدة ولفترات طويلة، بينما يظل وطنها دون تهديد. وكانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على تمويل جهود الحرب الخاصة وجهود حلفائها أيضاً، بل وحشد القدرة الصناعية لإنتاج السفن والطائرات والدبابات وغيرها من العتاد، لتسليح نفسها، بينما تعمل أيضاً كترسانة لأي طرف آخر. وكانت هي وحدها القادرة على القيام بكل هذا دون أن تشهد إفلاساً مالياً، بل كانت عوضاً عن ذلك تصبح أكثر ثراءً وهيمنة مع كل حرب كبرى.

وقد لاحظ رجل الدولة البريطاني آرثر بلفور Arthur Balfour، أن الولايات المتحدة قد أصبحت "المحور" الذي يدور حوله بقية العالم، أو على حد تعبير الرئيس ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt: "ميزان القوى في العالم بأسره".

لم يعرف العالم أبداً مثل هذه القوة، ولم تكن هناك لغة لوصف هذ القوة أو نظرية لتفسيرها. حيث كانت الولايات المتحدة قوة فريدة من نوعها، وأدى ظهور هذه القوة العظمى غير العادية إلى ارتباك وسوء تقدير، حيث كانت الدول التي أمضت قروناً في حساب علاقات القوة في مناطقها، بطيئة في تقدير تأثير هذا الصاعد الجديد البعيد، والذي كان بإمكانه بعد فترة طويلة من عدم المبالاة والانغلاق على الذات، أن ينقضّ على العالم فجأة ويغير ميزان القوى.

الأمريكيون أنفسهم واجهوا صعوبة في التكيف مع وضعهم الجديد، والذي تمتعوا فيه بثراء وحصانة نسبية، جعلتهم قادرين بشكل فريد، على خوض حروب كبرى، وفرض سلام في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، لكن في نفس الوقت، دفعهم ذلك للتساؤل عن ضرورة القيام بذلك، والرغبة فيه، ومدى أخلاقيته. فمع ولايات متحدة آمنة ومكتفية ذاتياً، ما الحاجة للانخراط في صراعات على بعد آلاف الكيلومترات من شواطئها؟ وما الحق الذي يخولها ذلك؟

طرح الرئيسان ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt و وودرو ويلسون Woodrow Wilson، قضية سياسة تهدف إلى إنشاء نظام عالمي ليبرالي، والحفاظ عليه، وذلك لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث لم تعد المملكة المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى قادرة على الحفاظ على النظام، كما كانوا يدّعون. وأثبتت الحرب أن الولايات المتحدة قد حملت على عاتقها إنشاء نظام عالمي ليبرالي جديد والدفاع عنه.

هذا كان الغرض من إنشاء "عصبة الأمم للسلام المنصف World League for the Peace of Righteousness"، التي اقترحها روزفلت بداية الحرب، و "عصبة الأمم League of Nations" التي دافع عنها ويلسون بعد ذلك، والتي عنت: إنشاء نظام سلمي جديد تكون القوة الأمريكية في مركزه. حيث اعتقد ويلسون أن هذا النظام هو البديل الوحيد الممكن لمنع استئناف الصراع والفوضى التي دمرت أوروبا. وحذر من أنه إن عاد الأمريكيون بدلاً من ذلك إلى "أهدافهم الإقليمية الضيقة والأنانية"، فإن السلام سينهار، وستنقسم أوروبا مرة أخرى إلى "معسكرات معادية"، وسينحدر العالم مرة أخرى إلى "سوادٍ حالك"، فيما سيتم استدراج الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الحرب. بالنتيجة، كانت مصلحة الولايات المتحدة تتبلور في قارة أوروبية سلمية، وفي الغالب ليبرالية، مع قارة آسيوية سلمية، ومحيطات مفتوحة وآمنة يمكن للأمريكيين وبضائعهم السفر عبرها بأمان. لكن مثل هذا العالم لا يمكن بناؤه إلا استناداً على القوة الأمريكية، لذا كان للولايات المتحدة مصلحة في بناء هكذا نظام عالمي.

قوبلت مثل تلك الحجج، بمعارضة قوية، حيث أدان كثير من النقاد، وعلى رأسهم السناتور الجمهوري هنري كابوت لودج Henry Cabot Lodge، "عصبة" ويلسون، باعتبارها منظمة غير ضروري بل خيانة لرؤية المؤسسين الأمريكيين، حيث اعتقدوا أن اهتمام الولايات المتحدة بنظام عالمي يعني انتهاك المبادئ الأساسية التي جعلت الولايات المتحدة دولة استثنائية محبة للسلام في عالم من الحروب.

لكن بعد عقدين من الزمن، وبينما كان الأمريكيون يناقشون ما إن كانوا سيدخلون حرباً عالمية أخرى، سخر السناتور الجمهوري روبرت تافت Robert Taft، من فكرة أن الولايات المتحدة التي كانت آمنة تماماً من الهجوم، ومن فكرة أنه يتوجب عليها أن "تمتد حول العالم، مثل فارس ضالٍّ، يحمي الديمقراطية ومُثُل حسن النية، لتكون دون في حالة قتال ضد طواحين الهواء الفاشية". فيما جادل الرئيس فرانكلين روزفلت Franklin Roosevelt، بأنه حتى لو لم تتعرض الولايات المتحدة لتهديد مباشر من ألمانيا النازية أو اليابان الإمبراطورية، فإنّ العالم الذي تسيطر عليه تلك الديكتاتوريات القوية، سيكون "مكانًا رديئاً وخطيراً للعيش فيه". وستكون مسألة وقت فقط قبل أن تتجمّع الديكتاتوريات لشن هجوم نهائي على القلعة الديموقراطية المتبقية، كما اعتقد روزفلت، وقبل أن تأتي تلك اللحظة، فقد تصبح الولايات المتحدة "جزيرة منعزلة" من الديمقراطية في عالم من الديكتاتوريات، لتتلاشى الديمقراطية نفسها بكل بساطة.

لكن معارضي التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، كانوا قلقين من عواقب الانتصار بقدر قلقهم من تكاليف التدخل. ولم يرغبوا في أن تخضع بلادهم لمصالح الإمبراطوريات الأوروبية، لكنهم لم يريدوا أيضاً أن تحل الولايات المتحدة محل تلك الإمبراطوريات باعتبارها القوة العالمية المهيمنة. وحذر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كوينسي آدامز John Quincy Adams، من أن الولايات المتحدة ستفقد روحها حين تصبح "ديكتاتورية العالم".

تم اختزال هذا النقاش غير المستقر، مع الهجوم الياباني على بيرل هاربور، وبينما كان روزفلت يخوض الحرب العالمية الثانية، فإن تطلعه كان باتجاه نظام ما بعد الحرب الذي كان يأمل في إنشائه، بينما رأى معظم الأمريكيين أن الحرب لم تكن سوى دفاع عن النفس، بما يتفق تماماً مع منظورهم القاري، وأنهم عندما ينتهون منها، فسيعودون إلى منازلهم.

انتهت الحرب بسيطرة الولايات المتحدة على العالم، وعانى الأمريكيون من نوع من التناقض المعرفي، حيث قادتهم الحرب الباردة، إلى تحمل مسؤوليات عالمية لم يشهدوها من قبل، ونشروا قواتهم في مسارح بعيدة عنهم آلاف الكيلو مترات، وخاضوا حربين معاً في كوريا وفيتنام، كانت تكلفتهما 15 ضعفاً من حيث الوفيات العسكرية مقارنة بما ستكون عليه الحال في أفغانستان والعراق.

وروّج الأمريكيون لنظام عالمي للتجارة الحرة، أدى أحياناً إلى إثراء الدول الأخرى أكثر من الولايات المتحدة ذاتها، فيما تدخّلوا اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً في كل ركن من أركان العالم. وسواء كانوا يدركون ذلك أم لا، فقد أنشأوا نظاماً عالمياً ليبرالياً، وبيئة دولية سلمية نسبياً، والتي بدورها جعلت من الممكن توسيع الرخاء العالمي، مع انتشار غير مسبوق تاريخياً للحكومات الديمقراطية.

كان هذا هو الهدف الواعي للرئيس روزفلت خلال الحرب العالمية الثانية، ولخلفائه في إدارة الرئيس ترومان Harry Truman. حيث كانوا يعتقدون أن النظام العالمي القائم على المبادئ السياسية والاقتصادية الليبرالية، هو الترياق الوحيد لفوضى ثلاثينيات القرن العشرين. ورأى وزير خارجية ترومان، دين أشسون Dean Acheson، بأنه لتحقيق هذا الغرض، لا يمكن للولايات المتحدة أن "تجلس في صالونها، حاملة بندقيتها، في حالة انتظار". بل عليها أن تكون في الخارج، أي في العالم، لتشكيله بشكل فعّال، وردع بعض القوى ودعم أخرى. وكان عليها أن تخلق "مواقف قوة"، في الأزمات الحرجة، وأن تنشر الاستقرار والازدهار والديمقراطية، لا سيما في المناطق الصناعية الأساسية في العالم، في أوروبا وآسيا. ويضيف أشسون، أنه كان على الولايات المتحدة أن تكون "القاطرة على رأس البشرية"، وأن تجذب العالم معها.

 
الانجراف الأمريكي
بعد أن أنشأ الأمريكيون هذا النظام، لم ترَ سوى قلة من الشعب الأمريكي النظام العالمي باعتباره هدفاً، وبالنسبة لمعظم الناس، فإن الجهود غير العادية نابعة من تهديد الشيوعية، وهو ما برّر إنشاء حلف الناتو وعمليات الدفاع عن اليابان وكوريا وفيتنام. حيث أصبحت مقاومة الشيوعية مصطلحاً مرادفاً للمصلحة الوطنية، إذ كان يُنظر إلى الشيوعية على أنها تهديد لأسلوب الحياة الأمريكي، وعندما امتنع الأمريكيون عن دعم اليونان وتركيا عام 1947، أخبر السناتور الجمهوري آرثر فاندنبرغ Arthur Vandenberg، مسؤولي إدارة ترومان أن عليهم أن "يخيفوا الشعب الأمريكي بالجحيم". فيما رأى أشسون في مذكراته، أنه حين كانت الشيوعية العدو الوحيد، كان لكل شيء أهمية، وكان كل عمل بمثابة عمل دفاعي.

لذلك، عندما انتهت الحرب الباردة، أصبح الفصل بين الدور الفعلي للأميركيين والتصور الذاتي للأميركيين غير مقبول. وبدون التهديد العالمي للشيوعية، تساءل الأمريكيون عن الغرض من سياستهم الخارجية، وعن الهدف من وجود نظام أمني يحيط بالكرة الأرضية، وأسطول بحري مهيمن، وتحالفات بعيدة المدى مع عشرات الدول، ونظام عالمي للتجارة الحرة.

ليبدأ التمرد الدولي على الفور، مع غزو صدام حسين للكويت عام 1990، حينها طرح الرئيس جورج بوش الأب George H. W. Bush، مسألة طرد صدام من الكويت لأسباب تتعلق بالنظام العالمي. وقال بوش في خطاب متلفز من المكتب البيضاوي، نقلاً عن الجنرال الذي كان يقود قوات المارينز الأمريكية التي تقاتل قوات صدام: "إن"العالم الذي يُسمَح فيه بسيطرة الوحشية والخروج على القانون، دون رادع، ليس العالم الذي نرغب أن نعيش فيه".

ولكن عندما انتقد الواقعيون والمحافظون رؤية بوش لـ "نظام عالمي جديد"، باعتبارها رؤية مفرطة في الطموح والمثالية، تراجعت الإدارة إلى شكل من أشكال المنطق القاري الأمريكي الضيق، الذي يفهمه الأمريكيون بشكل أفضل، وحينها تم ترويج الأمر على أنه "الوظائف والوظائف والوظائف"، وهي الطريقة التي دافع فيها وزير الخارجية جيمس بيكر James Baker، عن موضوع حرب الخليج.

وعندما تدخل الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton، مرتين في البلقان، ثم قام بتوسيع حلف الناتو، كان ذلك دفاعاً عن النظام العالمي، ومحاولة للقضاء على عمليات التطهير العرقي في أوروبا، وإثبات التزام الولايات المتحدة المستمر بما وصفه بوش "بأوروبا كاملة وحرة ..."، لكن كلينتون تعرض أيضاً لهجوم الواقعيين، بسبب ما اعتبروه انخراطاً في "العمل الاجتماعي الدولي".

ومع الرئيس بوش الابن George W. Bush، كان هدف الحرب الثانية على العراق، في المقام الأول: "الحفاظ على النظام العالمي، وتخليص الشرق الأوسط والخليج العربي، من معتدٍ يصوّر نفسه صلاح الدين الجديد". لكن هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تسببت في خلط أهداف النظام العالمي مرة أخرى بالدفاع القاري الأمريكي، حتى بالنسبة لمناصري الحرب. وعندما ثبت خطأ المعلومات الاستخباراتية حول برامج أسلحة صدام حسين، شعر العديد من الأمريكيين أنه تم الكذب عليهم بشأن التهديد المباشر الذي شكّله العراق على الولايات المتحدة.

وصل الرئيس باراك أوباما إلى السلطة –نسبياً- بسبب خيبة الأمل الغاضبة التي لا تزال تشكل المواقف الأمريكية اليوم. ومن المفارقات التي وقعت، أنه عند تسلّم جائزة نوبل للسلام، لاحظ أوباما أن الاستعداد الأمريكي "لضمان الأمن العالمي" قد جلب الاستقرار إلى عالم ما بعد الحرب، وأن هذا كان في "المصلحة الذاتية المستنيرة" للولايات المتحدة. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن الأمريكيين يهتمون أكثر ببناء أمتهم. وفي النهاية، تشكلت واقعية أوباما، مثل واقعية الرئيس تافت William Howard Taft (1908-1912)، من قبول "العالم كما هو"، وليس كما يرغب دعاة النظام العالمي أن يكون.

في عام 1990، جادل سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى الأمم المتحدة جين كيركباتريك Jeane Kirkpatrick، بأن على الولايات المتحدة أن تعود إلى مكانتها كدولة "طبيعية" ذات مصالح طبيعية، وأن تتخلى عن "الفوائد المشكوك فيها لمكانتها كقوة عظمى"، وأن تنهي "التركيز غير الطبيعي" على السياسة الخارجية، وعليها أن تنظر إلى مصالحها الوطنية التقليدية، والتي تعني حماية مواطنيها وأراضيها وثرواتها وحصولها على السلع "الضرورية". لم يهتم هذا المنظور، بالحفاظ على توازن القوى في أوروبا أو آسيا، أو تعزيز الديمقراطية، أو تحمل مسؤولية مشاكل عالم التي لا تمس الأمريكيين بشكل مباشر. وهذا هو المنظور القاري الأمريكي، الذي لا يزال يسود حتى اليوم، وهو منظور لا ينكر أن للولايات المتحدة مصالح، لكنه يجعل منها مجرد مصالح شبيهة بمصالح كل الدول.

لكن المشكلة هي أن الولايات المتحدة لم تكن دولة طبيعية لأكثر من قرن، ولم يكن لديها مصالح عادية، فقوتها الفريدة تمنحها دوراً فريداً. فالبنغال أو البوليفيون مثلاً، لديهم أيضاً مصلحة في الاستقرار العالمي، وقد يعانون إن هيمنت ألمانيا مرة أخرى على أوروبا أو إن هيمنت اليابان مرة أخرى على آسيا. لكن لا أحد يقترح أنه من مصلحتهم الوطنية منع حدوث ذلك، لأنهم يفتقرون إلى القدرة على القيام بذلك، تماماً كما كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة على ذلك عام 1798، عندما كانت مهدّدة –بشدة - بالهيمنة الأوروبية. ولم يصبح النظام العالمي مصدر قلق للولايات المتحدة إلا بعدما انهار النظام العالمي القديم في أوائل القرن العشرين، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على إنشاء نظام جديد يمكن فيه حماية مصالحها.

لا يزال هذا الحال قائماً اليوم، أكثر من عصر كيركباتريك، حيث تظل القارية هي المنظور المهيمن في الولايات المتحدة، بل باتت اللغة التي يستخدمها الأمريكيون للحديث عن السياسة الخارجية والنماذج النظرية التي يفهمون من خلالها مفاهيم مثل المصلحة الوطنية والأمن، ولا تزال مليئة بالدعوات الأخلاقية، ولا تزال دعوات "ضبط النفس" تستذكر حكمة المؤسسين، وتعلن أن خيانة تلك الحكمة هي غطرسة ومسيانية Messianism وإمبريالية ([1]). ولا يزال العديد من الأممين -أصحاب الدعوة الدولية internationalists- يعتقدون أن ما يعتبرونه ممارسة غير مبررة للقوة الأمريكية هو أكبر عقبة أمام عالم أفضل وأكثر عدلاً، ويرون أن النتائج المختلطة للحروب في أفغانستان والعراق ليست مجرد أخطاء في الحكم والتنفيذ، بل علامات سوداء في الروح الأمريكية.

ولا يزال الأمريكيون يتوقون إلى الهروب إلى ماضٍ أكثر براءة وبساطة، لدرجة أنهم ربما لا يدركون أنهم يتوقون إلى امتلاك قوة أقل. لقد أدرك الواقعيون منذ فترة طويلة، أنه طالما أن الولايات المتحدة قوية جداً، فسيكون من الصعب تجنب ما أطلق عليه عالما السياسة روبرت تاكر Robert Tucker وديفيد هندريكسون David Hendrickson، ذات مرة: "الإغراء الإمبراطوري the imperial temptation". هذا هو أحد الأسباب التي جعلت الواقعيين يصرون دائماً على أن القوة الأمريكية في حال تراجع، أو ببساطة ليست على مستوى المهمة المناطة بها.

ردّد هذه الحجة، كل من الكاتب الأمريكي والتر ليبمان Walter Lippmann، والدبلوماسي الأمريكي جورج كينان George Kennan، أواخر أربعينيات القرن العشرين. كما ردّدها كيسنجر أواخر الستينيات، وردّدها المؤرخ بول كينيدي Paul Kennedy، في الثمانينيات. وما يزال العديد من الواقعيين يردّدونها حتى اليوم. حيث يتعامل الواقعيون مع كل حرب فاشلة، من فيتنام إلى العراق، كما لو كانت مشابهة للحملة الصقليّة، والتي كانت الحماقة الأخيرة التي أدت إلى هزيمة أثينا في الحرب ضد إسبرطة، في القرن الخامس قبل الميلاد.

لقد نشأ جيل كامل من الأمريكيين، على قناعة بأن الافتقار إلى انتصاراتٍ واضحة في أفغانستان والعراق، يثبت أن بلادهم لم تعد قادرة على تحقيق أي شيء بالقوة، وأن صعود الصين، وتراجع حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، وتقدم التقنيات العسكرية الجديدة، وانتشار القوة بشكل عام حول العالم، كلها إشارات أخرى على أفول النظام الأمريكي.

رغم ذلك، في حال كانت الولايات المتحدة ضعيفة كما يدعي كثيرون، حينها لن تضطر إلى ممارسة ضبط النفس؛ لأن الدولة لا تزال قادرة على اتباع استراتيجية النظام العالمي، وهو ما يجعل النقاد مطالبين بتقديم شروحات له. في المقابل، فإن التكوين الأساسي للقوة الدولية لم يتغير كما يتصور كثيرون، فالأرض ما تزال مستديرة، ولا تزال الولايات المتحدة قابعة في قارتها الشاسعة المنعزلة، تحيط بها محيطات، وقوى أضعف منها، فيما لا تزال القوى الكبرى الأخرى، تقبع في مناطق مكتظة بقوى كبرى أخرى، وعندما تتفوق قوة واحدة في تلك المناطق على الآخرين، فإن الضحايا المحتملين لا يزالون يتطلعون إلى الولايات المتحدة البعيدة للحصول على المساعدة.

فروسيا، ورغم أنها تمتلك ترسانة نووية ضخمة، إلا أنها أصبحت "فولتا العليا بصواريخ Upper Volta with rockets"، أكثر مما كانت عليه عندما تم صياغة هذا المصطلح أوائل الحرب الباردة، حين سيطر السوفييت على نصف أوروبا على الأقل ([2]).

ورغم أن الصين حلت محل اليابان، وهي أقوى من حيث الثروة والسكان، لكن قدراتها العسكرية غير مثبتة، ويبقى موقعها الاستراتيجي أقل تفضيلاً. وحينما توسعت الإمبراطورية اليابانية في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تواجه أي منافسين إقليميين كبار، بينما كانت القوى الغربية منشغلة بالتهديد الألماني. أما اليوم، فإن آسيا مزدحمة بقوى كبرى أخرى، بما في ذلك ثلاثة جيوش هي ضمن قائمة الجيوش العشرة الكبرى في العالم: الهند واليابان وكوريا الجنوبية، وجميعهم إما حلفاء أو شركاء للولايات المتحدة. وفي حال استخدمت بكين -إيماناً منها بضعف واشنطن- قوتها المتنامية، لمحاولة تغيير الوضع الاستراتيجي في شرق آسيا، فقد يتعين عليها التعامل ليس مع الولايات المتحدة فحسب، بل مع تحالف عالمي من الدول الصناعية المتقدمة، كما سبق وأن اكتشف الاتحاد السوفييتي ذلك.

كانت سنوات ترامب بمثابة اختبار ضغط للنظام العالمي الأمريكي، وقد نجح هذا الاختبار. وشهدت تلك الفترة مواجهة كابوس قوة عظمى مارقة تمزق التجارة والاتفاقيات الأخرى، وهو ما دفع حلفاء الولايات المتحدة لاسترضائها وتملقها، وقدموا لها قرابيناً لتهدئة هذا البركان الغاضب، وظلوا في حالة انتظار قيام ظروف أفضل، في حين تحرك أعداؤها بحذر. فعندما أمر ترامب بقتل قاسم سليماني، كان من المعقول توقع ردٍّ إيراني، وقد يقع ذلك، ولكن لم يقع في عهد رئاسة ترامب. كما عانى الصينيون من حرب جمركية طويلة، أضرت بهم أكثر مما أضرت بالولايات المتحدة، لكنهم حاولوا تجنب الانهيار الكامل للعلاقات الاقتصادية التي يعتمدون عليها مع الولايات المتحدة.

وبينما كان أوباما قلقاً من يؤدي توفير أسلحة هجومية لأوكرانيا إلى حرب مع روسيا، فإن إدارة ترامب مضت في تسليم الأسلحة، وأذعنت موسكو بصعوبة بالغة. ورغم أن العديد من سياسات ترامب كانت غير منتظمة وسيئة التصميم، لكنها أظهرت مقدار القوة الزائدة غير المستخدمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، في حال اختار الرئيس استخدامها. ففي عهد أوباما، أعاد المسؤولون الأمريكيون حساباتهم 50 مرة قبل تخفيض التصعيد من عدمه، نتيجة قلقهم من أن يؤدي التصعيد الأمريكي إلى تصعيد مضاد من القوى الأخرى. أما في عهد ترامب، كانت الدول الأخرى هي من تعاني من قلق خشية تصعيد الولايات المتحدة المواجهة معها.

 
قوة كبرى، ومسؤوليات كبرى:
مع قليل من الأسى، وصف المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي Arnold Toynbee، أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، الولايات المتحدة بأنها "تعلب بشكل كسول، بجزء بسيط من قوتها التي لا تحصى". في ذلك الوقت، كان الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة يتراوح بين 2-3٪ من الناتج المحلي الإجمالي. أما اليوم، فهو يزيد قليلاً عن ثلاثة بالمائة.

في خمسينيات القرن الماضي، وخلال إدارة أيزنهاور -والتي غالباً ما يُنظر إليها على أنها فترة ضبط نفس مثيرة للإعجاب في السياسة الخارجية الأمريكية- نشرت الولايات المتحدة ما يقرب من مليون جندي خارج أراضيها، وذلك من إجمالي عدد السكان الأمريكيين البالغ 170 مليون. أما اليوم، وفي عصر يقال فيه إن الولايات المتحدة مفرطة في التوسع بشكل خطير، هناك ما يقرب من 200 ألف جندي أمريكي منتشرين في الخارج، من أصل 330 مليون نسمة.

وبغض النظر عما إن كان هذا يشكل "لعباً كسولًا بجزء بسيط" من القوة الأمريكية، فمن المهم أن ندرك أن الولايات المتحدة الآن هي في وضع سلام. ولو تحول الأمريكيون إلى قاعدة الحرب، أو حتى إلى نمط الحرب الباردة، رداً على بعض الإجراءات الصينية -هجوم صيني على تايوان على سبيل المثال-، فإن الولايات المتحدة ستبدو كحيوان مختلف تماماً.

في ذروة أواخر الحرب الباردة، أي في عهد الرئيس رونالد ريغان Ronald Reagan، أنفقت الولايات المتحدة ستة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وأنتجت صناعة الأسلحة، أسلحة بكميات ونوعية لم يستطع السوفييت مواكبتها، ويمكن للصينيين أن يجدوا أنفسهم اليوم في مأزق مماثل. فقد "يندفعون في البرية خلال الأشهر الستة الأولى أو العام"، كما توقع الأدميرال إيسوروكو ياماموتو Isoroku Yamamoto، قائد الأسطول الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، بشأن قواته. لكن على المدى الطويل، كما حذر ياماموتو من استفزاز أمريكا وحلفائها حينها، فقد يواجه الصينيون نفس مصير خصوم الولايات المتحدة الآخرين.

السؤال المطروح الآن، ليس فيما إن كانت الولايات المتحدة لا تزال قادرة على الانتصار في مواجهة عالمية، أكانت ساخنة أم باردة، ومع الصين أو أية قوة تعديلية أخرى revisionist power. فالسؤال الحقيقي هو ما إن كان من الممكن تجنب أسوأ أنواع الأعمال العدائية، وما إن كان يمكن تشجيع الصين والقوى الأخرى على السعي لتحقيق أهدافها سلمياً، وحصر المنافسة العالمية في المجالات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تجنيب نفسها والعالم أهوال حرب كبرى تالية، أو حتى مواجهات مخيفة لحرب باردة أخرى.

لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجنب مثل هذه الأزمات، عبر الاستمرار في التمسك بوجهة نظر القرن التاسع عشر، حول مصلحتها الوطنية، فالقيام بذلك من شأنه أن ينتج ما أنتجته في الماضي: فترات من اللامبالاة والتقشف، يتبعها ذعر وخوف وتعبئة مفاجئة.

هنا نلحظ أن الأمريكيين تحت ضغط مسألتين معاً، فمن ناحية أولى، تحتل الصين في الذهنية الأمريكية الحالية، المكانة التي احتلتها ألمانيا والاتحاد السوفيتي ذات يوم: خصم أيديولوجي لديه القدرة على ضرب المجتمع الأمريكي بشكل مباشر، ولديه قوة وطموحات تهدّد موقف الولايات المتحدة في منطقة رئيسة، وربما في أي مكان آخر أيضاً. ومن ناحية أخرى، يعتقد العديد من الأمريكيين أن الولايات المتحدة في حالة تدهور وأن الصين ستهيمن حتماً على آسيا، وهنا تتماثل التصورات الذاتية للأمريكيين والصينيين تماماً. حيث يعتقد الصينيون أن دور الولايات المتحدة في منطقتهم على مدار الـ 75 عاماً الماضية، كان دوراً غير طبيعي وبالتالي فهو عابر، وكذلك يعتقده الأمريكيون. كما يعتقد الصينيون أن الولايات المتحدة في حالة انحدار، وكذلك يعتقد كثير من الأمريكيين. ويكمن الخطر في أنه مع تكثيف بكين لجهودها لتحقيق ما يتطلبه "الحلم الصيني"، سيصاب الأمريكيون بالذعر، وبالتالي، ونتيجة لذلك، سيقومون بإجراء حسابات خاطئة.

وحيث أنّ الصينيين هم طلاب مُجدّون في دراسة التاريخ، ربما لن يرتكبوا الأخطاء التي ارتكبها الآخرون في إساءة تقدير قوة الولايات المتحدة. ويبقى أن نرى ما إن كان الأمريكيون قد تعلموا دروس تاريخهم، لكن سيكون من الصعب تغيير نمط التذبذب الممتد لقرن، وبشكل خاص، عندما يرى خبراء السياسة الخارجية من جميع الأطياف أن دعم النظام العالمي الليبرالي أمر مستحيل وغير أخلاقي.

من بين المشاكل الأخرى، تعاني وصفات خبراء السياسة الخارجية، من تفاؤل غير مبرر بشأن البدائل المحتملة للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة. ويبدو أن الواقعيين والأممين الليبراليين والقوميين المحافظين والتقدميين، جميعهم يتصور أنه بدون أن تقوم واشنطن بالدور الذي قامت به خلال الـ 75 عامًا الماضية، فإن العالم سيكون على ما يرام، وستتم حماية مصالح الولايات المتحدة بشكل جيد. لكن، لا التاريخ الحديث، ولا الظروف الحالية، تبرر مثل هذه المثالية. فالبديل عن النظام العالمي الأمريكي، ليس نظاماً عالمياً سويدياً، ولن يكون عالم قانون ومؤسسات دولية، أو انتصار التنوير، أو نهاية التاريخ، بل سيكون عالماً من فراغ السلطة، والفوضى، والصراع، وسوء التقدير، وبالنتيجة سيكون مكاناً رديئاً حقاً.

إنّ الحقيقة الفوضوية، هي أنه في العالم الحقيقي، يبقى الأمل الوحيد للحفاظ على الليبرالية، داخل الولايات المتحدة وخارجها، هو الحفاظ على نظام عالمي يفضي إلى الليبرالية، والقوة الوحيدة القادرة على دعم مثل هذا النظام هي الولايات المتحدة. هذا ليس تعبيرا عن الغطرسة، بل واقع متجذر في الظروف الدولية، وهو بالتأكيد نعمة مختلطة. بمعنى أنه مع السعي للحفاظ على هكذا نظام، استخدمت الولايات المتحدة قوتها –وستستخدمها- أحيانًا بطريقة غير حكيمة وغير فعّالة، مع تكاليف غير متوقعة وعواقب غامضة أخلاقياً، لكن هذا ما يعنيه استخدام القوة. عموماً، سعى الأمريكيون بطبيعة الحال للتهرب من هذا العبء، ولتجريد أنفسهم من المسؤولية، والاختباء أحياناً وراء الدعوة الأممية الحالمة، وأحياناً وراء استسلام حازم لقبول العالم "كما هو"، ودائماً مع وجهة النظر التي ترى أنه في ظل غياب خطر واضح وقائم، يمكن للأمريكيين التراجع إلى قلعتهم المتخيلة.

لقد حان الوقت لنقول للأمريكيين، إنه لا مفر من المسؤولية العالمية، وإن عليهم التفكير أبعد من حماية وطنهم، فهم بحاجة إلى فهم أن الغرض من حلف الناتو والتحالفات الأخرى هو الدفاع، ليس ضد تهديدات مباشرة لمصالح الولايات المتحدة، ولكن ضد انهيار النظام الذي يخدم تلك المصالح على أفضل وجه. ويجب إخبارهم بكل صدق، أن مهمة الحفاظ على النظام العالمي عملية لا تنتهي، ومحفوفة بتكاليف باهظة، ولكنها تبقى أفضل من البدائل الأخرى.

لقد أدى الفشل في الانسجام مع الشعب الأمريكي بالبلاد إلى مأزقها الحالي، مع وجود جمهور مرتبك وغاضب، ومقتنع بأن قادته يخونون المصالح الأمريكية من أجل أهدافهم العولمية الشائنة، وهنا فإن الترياق المضاد لذلك، ليس عبر إخافتهم من الصين والتهديدات الأخرى، ولكن، مرة أخرى، عبر محاولة شرح أهمية النظام العالمي الذي أنشأه الأمريكيون، وهذه هي مهمة جو بايدن وإدارته الجديدة.

- - - - - - - -  

ROBERT KAGAN is Stephen and Barbara Friedman Senior Fellow at the Brookings Institution and the author of The Jungle Grows Back: America and Our Imperiled World.

 

لمراجعة النص الأصلي، انظر:
ROBERT KAGAN, "A Superpower, Like It or Not: Why Americans Must Accept Their Global Role", Foreign Affairs, March/April 2021, pp. 28-38.

 
---------
الحواشي

([1]) المسيانية Messianism:

هي الإيمان بقدوم المسيح ليكون مخلصاً أو محرراً لجماعة من الناس، ورغم أنه معتقد مسيحي، لكن الأديان الأخرى لديها مفاهيم متعلقة بالمسيانية، حيث تشمل الأديان التي تحمل مفهوم المسيح: اليهودية (المشياخ)، والزرادشتية (ساوشيان)، والبوذية (مايتريا)، والهندوسية (كالكي)، والطاوية (لي هونغ)، والبابوية، والإسلام. (ويكبيديا)

([2]) جمهورية فولتا العليا، وهي الآن دولة بوركينا فاسو، كانت دولة غير ساحلية في غرب إفريقيا، تأسست في 11 ديسمبر 1958 كمستعمرة ذاتية الحكم، داخل المجتمع الفرنسي. وقبل الحصول على الحكم الذاتي كانت فولتا العليا الفرنسية، وجزءاً من الاتحاد الفرنسي.

أما مصطلح " Upper Volta with rockets"، فقد ظهر أثناء الحرب الباردة، للسخرية من عجز الإمبراطورية السوفييتية الشاسعة عن إنتاج أي شيء آخر غير الأسلحة.
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ أغسطس ٢٠٢٤
دراسة هاكان إيدستروم ويعقوب ويستبرغ، "الاستراتيجية المقارنة – إطار عمل جديد للتحليل"، المنشورة في مجلة الاستراتيجية المقارنة، بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2023. ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع تحليل الاستراتيجيات العسكرية: الأبعاد والتصنيفات والتحديات تُعد الاستراتيجية العسكرية عنصراً أساسياً في تحديد كيفية استخدام الدول لقدراتها العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية والأمنية. تتضمن الاستراتيجية العسكرية ثلاثة عناصر رئيسية: الأهداف (Ends)، والوسائل (Means)، والطرق (Ways). يتمثل الهدف في تحديد الأهداف الاستراتيجية للدولة، بينما تشمل الوسائل الموارد المتاحة لتنفيذ الاستراتيجية، وتغطي الطرق كيفية استخدام هذه الموارد بفعالية. وتم مناقشة هذه العناصر بمزيد من التفصيل في سياق تحليلي استند إلى بيانات من 31 دولة خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. الأهداف: البقاء، التأثير، والمكانة تختلف النظريات حول الأهداف الأساسية التي يجب أن تسعى الدول لتحقيقها عبر استراتيجياتها العسكرية. ينظر الواقعيون الدفاعيون، مثل كينيث والتز، إلى بقاء الدولة كأولوية أساسية. حيث يُعتبر البقاء شرطاً مسبقاً لتحقيق أي هدف آخر، وتُستخدم استراتيجيات التوازن لمنع القوى الصاعدة من الهيمنة العالمية. في المقابل، يدعو الواقعيون الهجوميّون، مثل هانز مورغنثاو وجون ميرشايمر، إلى تبني استراتيجيات لتعظيم القوة لزيادة التأثير والسيطرة على الآخرين، ويهدفون إلى تحقيق الهيمنة العالمية. أحد الأبعاد الأخرى للأهداف هو تحقيق المكانة. المكانة هي متغير علائقي يعتمد على التقديرات المتبادلة بين الدول حول تصنيفاتها وسمعتها في النظام الدولي. يمكن أن يؤدي الحصول على اعتراف بالمكانة إلى تعزيز نفوذ الدولة وإعطائها صوتاً أقوى في القضايا العالمية. تشمل الأبعاد الأساسية للأهداف: بقاء الدولة، زيادة التأثير، وتحقيق مكانة مرموقة. الوسائل: الموارد والتحديات تتضمن الوسائل الموارد السياسية والعسكرية التي تستخدمها الدولة لتحقيق أهدافها. يتم تصنيف الوسائل إلى مستويين: المستوى الاستراتيجي والسياسي، حيث تشمل: الموارد العسكرية، الاستخباراتية، الدبلوماسية، القانونية، والمالية؛ والمستوى العسكري الذي يركز على جودة وكمية وقوة استعداد القوات المسلحة. يتعين على الدول أن توازن بين الموارد قصيرة الأجل، مثل جودة القوات، وموارد طويلة الأجل، مثل ميزانية الدفاع والبنية التحتية العسكرية. تواجه الدول تحديات في تحويل قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية إلى قدرات عسكرية فعالة. يتطلب الأمر وقتاً طويلاً لتجهيز القدرات العسكرية الجديدة وجعلها جاهزة للتشغيل، حيث يعتمد الوقت اللازم على مستوى التكنولوجيا وإمكانية تحويل الموارد الاقتصادية إلى قدرات عسكرية. الطرق: استراتيجيات وطرق الاستخدام عند تناول الطرق، يُستخدم نموذج تصعيد الصراع الذي قدمه سام تانجريدي، والذي يحدد ثلاثة مستويات: وقت السلم، النزاع، والحرب. تُصنف الاستراتيجيات إلى أربعة سياقات رئيسة: تجنب النزاع، إدارة الأزمات، منع الحرب، والقتال. كما قدم غراي تصنيفاً للأنواع المختلفة من النزاع، مثل الحروب العامة، الحروب المحدودة، النزاعات غير النظامية، والإرهاب. أحد الأبعاد الرئيسة في تقييم الطرق هو القدرة على التكيف مع متطلبات العمليات العسكرية متعددة الأطراف وإدارة الأزمات. يشمل ذلك تطوير المهارات المهنية والاستراتيجيات الخاصة مثل مكافحة التمرد، واستخدام وحدات صغيرة وسريعة وقابلة للتكيف مع بيئات النزاع المعقدة. تختلف الاستراتيجيات بناءً على ما إذا كانت الدولة تركز على الدفاع الوطني أو العمليات العسكرية البعيدة. تصنيفات الدول وتأثيرات القوة غير المتكافئة تُصنف الدول وفقاً لقدراتها الاقتصادية والعسكرية إلى فئات مختلفة، مثل القوى الكبرى، القوى المتوسطة، والقوى الصغيرة. تتمتع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، بقدرات عسكرية واقتصادية عالمية ولها دور نشط في جميع مناطق العالم. فيما تتمتع القوى المتوسطة، مثل ألمانيا واليابان، بقدرات كبيرة ولكنها تركز على التأثير الإقليمي أو العالمي من خلال بناء تحالفات. أما القوى الصغيرة، مثل دول البلطيق، فتمتلك قدرات محدودة وغالباً ما تعتمد على التحالفات لدعم دفاعها الوطني. تُستخدم مجموعة من المؤشرات لتحديد هذه الفئات، بما في ذلك الناتج المحلي الإجمالي، الإنفاق العسكري، والاعتراف الدولي بالمكانة. على سبيل المثال، تُصنف الدول التي تُحقق أعلى مرتبة في الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق العسكري كقوى متوسطة رئيسة، بينما تُصنف الدول التي لا تفي بهذه المعايير كقوى صغيرة. الاختلافات بين الفئات والتشابهات داخلها: الاختلافات بين الفئات نلاحظ اختلافات بين فئات الدول الكبرى في استراتيجياتها العسكرية. الدول الكبرى مثل الصين وروسيا تركز على الاستراتيجية أحادية الجانب، بينما فرنسا والمملكة المتحدة تفضل الاستراتيجية متعددة الأطراف. فيما تتبع الولايات المتحدة نهجًا متوازنًا، حيث توازن بين النهجين الأحادي ومتعدد الأطراف. أما بين القوى المتوسطة الكبرى مثل أستراليا وكندا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية، فنجد تفضيلًا واضحًا للنهج متعدد الأطراف. وتُظهِر إيطاليا نهجًا متوازنًا، بينما تميل بولندا إلى النهج الأحادي. وتُفضِّل الدول الصغيرة مثل بلغاريا وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا أيضًا النهج متعدد الأطراف، بينما تميل الدول الأخرى في هذه الفئة إلى الاستراتيجية متعددة الأطراف بشكل أوضح. أسباب عدم تناسب استراتيجية واحدة للجميع: الاختلافات في القوة والموضع في النظام الدولي تختلف استراتيجيات الدول بناءً على موقعها وقوتها في النظام الدولي. تركز الدول القوية مثل القوى الكبرى على تحقيق الوضع والنفوذ، بينما تركز الدول الأضعف على البقاء. وتميل القوى المتوسطة إلى التركيز على النفوذ. وعلى الرغم من أن القوى الكبرى تملك موارد عسكرية أكثر بكثير من الدول الصغيرة، فإن الدول التي تركز على الاستراتيجية متعددة الأطراف تفضل التعاون المتعدد الأطراف، بينما تركز الدول التعديلية على الدفاع الوطني والنهج الأحادي. التفسيرات لاختلافات الاستراتيجيات داخل الفئات: القوى الكبرى في فئة القوى الكبرى، نرى اختلافًا بين الصين وروسيا من جهة، وفرنسا والمملكة المتحدة من جهة أخرى. بينما تركز الصين وروسيا على الدفاع الوطني والنهج الأحادي، تركز فرنسا والمملكة المتحدة على التوسع الإقليمي والتعاون متعدد الأطراف. تُفسَّر هذه الفروقات بوجود تباين في مستوى التكامل الإقليمي: تكاملت أوروبا الغربية بشكل عميق في الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية، في حين أن المناطق التي توجد فيها الصين وروسيا أقل تكاملًا وأقل استقرارًا. القوى المتوسطة الكبرى تختلف القوى المتوسطة الكبرى مثل البرازيل والهند واليابان وكوريا الجنوبية بناءً على تجاربها التاريخية وإعداداتها الإقليمية. فعلى الرغم من تفضيل كل من البرازيل والهند للدفاع الوطني، فإن اليابان وكوريا الجنوبية تركزان على البقاء والتعاون المتعدد الأطراف. ويقوم التاريخ الإقليمي، مثل الحروب والصراعات مع القوى العظمى، بدور في تفضيلات الدول. كما توجد البرازيل والهند في بيئات إقليمية تتسم بالقلق الأمني، مما يفسر تفضيلهما للدفاع الوطني. القوى المتوسطة الصغرى تُظهِر الدول المتوسطة الصغرى مثل جمهورية التشيك والدنمارك وإسبانيا وفنلندا وبلدان أخرى اختلافات في تفضيلات الاستراتيجية. بينما تركز جمهورية التشيك والدنمارك وإسبانيا على النفوذ والحروب التساهمية، تركز فنلندا والنرويج والسويد على التوازن بين النفوذ والبقاء والدفاع الوطني. الاختلافات في الموقع الجغرافي والحدود مع القوى الكبرى مثل روسيا تفسر تباين الاستراتيجيات. الدول الصغيرة تتمتع الدول الصغيرة مثل بلغاريا وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا بتشابه كبير في تفضيلها للبقاء والتعاون المتعدد الأطراف. يعزز تقارب هذه الدول الجغرافي مع روسيا، والأحداث التاريخية مثل الحروب العالمية والحكم الشيوعي، تفضيلها للبقاء والتعاون. وتعود الفروقات بين هذه الدول إلى ظروف تاريخية وجغرافية محددة. تشابهات بين الدول من فئات مختلفة: مجموعة الدول المعرضة للخطر تشمل مجموعة الدول المعرضة للخطر دولًا صغيرة مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بالإضافة إلى فنلندا وكوريا الجنوبية واليابان. جميع هذه الدول تركز على البقاء والدفاع الوطني والتعاون المتعدد الأطراف. بينما تشترك هذه الدول في جغرافية متشابهة في مواجهة قوى كبرى محتملة مثل روسيا والصين، فإن التاريخ المشترك، مثل الحروب العالمية، يساهم في تفسير هذه التشابهات. مجموعة الدول الساعية للتأثير تشمل هذه المجموعة كندا وجمهورية التشيك والدنمارك وإسبانيا. على الرغم من وجودها في مجمعات أمنية مختلفة، فإن هذه الدول تشترك في التركيز على التعاون متعدد الأطراف. يمكن تفسير هذا التركيز على التعاون بسبب التكامل العالي في مجمعاتهم الإقليمية. لا تعاني هذه الدول من تهديد مباشر من قوى كبرى، مما يفسر تفضيلها للتعاون والمساهمة في الناتو. مجموعة الدول الساعية للوضع تشمل هذه المجموعة ألمانيا ورومانيا، اللتين تسعيان لتحقيق الوضع ضمن الناتو. تقع هذه الدول في نفس المجمع الأمني المتكامل، مما يفسر تفضيلها للتعاون متعدد الأطراف. على الرغم من عدم مواجهتهما لتهديدات مباشرة من القوى العظمى، فإن تاريخهما المشترك، مثل معاهدات السلام وتغيرات الأراضي، قد يساهم في سعيهما لتحقيق الوضع. مجموعة الدول غير الآمنة تشمل هذه المجموعة بلغاريا وكرواتيا وسلوفاكيا. تركز هذه الدول على البقاء، والمساهمة في الحروب، والتعاون متعدد الأطراف. وعلى الرغم من التشابهات التاريخية، تفسر المجموعة الإقليمية المشابهة تفضيلها للتعاون. فيما التهديدات الجغرافية التي تواجهها هذه الدول أقل وضوحًا مقارنة بالدول الأخرى، مما يفسر التركيز على البقاء والتعاون المتعدد الأطراف. الاستنتاجات أظهرت النتائج أن الأداة التحليلية المستخدمة قد سمحت لنا بتحديد الفروق الدقيقة في عناصر الاستراتيجية العسكرية. كما أن الاعتراف بالاختلافات في القوة النسبية بين الدول أتاح لنا رؤية اختلافات منهجية بين الدول في فئات مختلفة. بينما تؤكد الكبرى العظمى والقوى المتوسطة الكبرى على الوضع والنفوذ، تركز الدول الصغيرة والمتوسطة الصغرى على البقاء. تختلف استراتيجيات الوسائل بين الدول، حيث تميل الدول إلى التعاون متعدد الأطراف بدلاً من تحقيق التوازن ضد الهيمنة. وتشير النتائج إلى أن البحث في الاستراتيجية العسكرية للدول يجب أن يشمل تحليل التعرض الاستراتيجي الإقليمي والجغرافي وتجارب النزاعات المسلحة. وعلى الرغم من أن حوالي ربع الدول كان لديها تركيبة فريدة من العناصر الاستراتيجية، فإن ثلاثة أرباع الحالات المتبقية تشير إلى تشابهات بين الدول في فئات مختلفة، مما يساهم في تطوير أدوات النظرية في مجال الاستراتيجية المقارنة. إن فهم الاستراتيجيات العسكرية يتطلب تحليلاً متكاملاً للعناصر الثلاثة: الأهداف، الوسائل، والطرق، بالإضافة إلى تصنيف الدول وفقاً لقدراتها ومواردها. حيث توفر هذه التحليلات إطاراً لفهم كيفية توجيه الدول لاستراتيجياتها العسكرية لتحقيق أهدافها في سياقات مختلفة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات والموارد المتاحة. فيما تساعد التصنيفات والتقييمات في توضيح كيف يمكن للدول استخدام استراتيجياتها العسكرية بشكل فعال لتحقيق أهدافها وتعزيز موقعها في النظام الدولي. تعاريف: الدفاع الوطني: التركيز على حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية عبر تعزيز القدرة العسكرية والوجود الأمني. التوسع الإقليمي: استراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرة على التأثير والسلطة ضمن منطقة جغرافية معينة. التعاون متعدد الأطراف: نهج يركز على العمل الجماعي والتنسيق مع دول أخرى عبر منظمات دولية أو تحالفات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. النهج الأحادي: استراتيجية تركز على اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات بشكل منفرد دون تنسيق أو تعاون مع الدول الأخرى. الوضع: الهدف من استراتيجية عسكرية يركز على تحسين مكانة الدولة وتأثيرها الدولي بشكل عام. النفوذ: السعي لزيادة التأثير السياسي والعسكري والاقتصادي للدولة على الدول الأخرى أو في مناطق معينة. البقاء: التركيز على ضمان استمرارية وجود الدولة وأمنها في مواجهة التهديدات المحتملة. المساهمة في الحروب (التساهمية): استراتيجية تعتمد على دعم الحروب والتدخلات العسكرية كجزء من التحالفات أو الأهداف الدولية، بدلاً من التركيز على الحماية الداخلية فقط. وهي عملية دعم الأهداف العسكرية من خلال المشاركة في عمليات عسكرية ضمن تحالفات دولية أو لمهام معينة. وتخصيص الموارد والمشاركة في العمليات العسكرية لدعم تحالفات أو لتحقيق أهداف استراتيجية دون التركيز الكامل على الدفاع الوطني. تعريف باري بوسن للاستراتيجية الكبرى: هي سلسلة وسائل وغايات سياسية-عسكرية، وهي نظرية الدولة حول كيفية "تأمين" نفسها بشكل أفضل. يجب أن تحدد الاستراتيجية الكبرى التهديدات المحتملة لأمن الدولة وأن تضع الحلول السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها لمواجهة تلك التهديدات. العقيدة العسكرية هي المكون الفرعي للاستراتيجية الكبرى الذي يتعامل بشكل صريح مع الوسائل العسكرية. للاطلاع على النص الأصلي كاملاً: Håkan Edström & Jacob Westberg, "Comparative strategy – A new framework for analysis", Comparative Strategy (Oxford: Routledge, 19 Jan 2023, 42:1, 80-102, DOI: 10.1080/01495933.2022.2130676). To link to this article: https://doi.org/10.1080/01495933.2022.2130676
الاستراتيجية
بواسطة ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع ٢٤ يوليو ٢٠٢٤
المؤلف: Lukas Milevski ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع
بواسطة Dr. ABD ALQADER NANAA ١٢ مايو ٢٠٢٤
Warnings against neglecting the conflict in Syria Amidst the ongoing crises in the Middle East, the Syrian issue remains central to conflicts in the region and poses a threat to regional stability due to the five foreign military powers interfering in Syrian territory and the steady influx of Iranian-sponsored Shiite militias using Syria as a base to advance Iran's hegemonic efforts. The Assad regime's ongoing commission of crimes against humanity against its opponents and those who oppose its authority is the reason why the state of rebellion persists in some of the country's regions. Over 12 million Syrians have been forced to flee their homes due to forced demographic change. The opposition has been using a pointless strategy to manage areas that are no longer under the control of the regime, and both the regime and the opposition use mercenaries in these efforts. Armed forces to assist their friends in global battles. The separatist group also persists in breaking humanitarian and international law, as well as engaging in organized terrorism of various kinds directed at the Arab community residing in the area. ISIS, the other terrorist group, continues to operate at a low level and occasionally issues international warnings about the possibility of their activity resuming in Syria and Iraq in the upcoming years. The anticipated breakthrough that would bring about regional stability and an improvement in humanitarian conditions does not seem to be happening. There are three possible scenarios, ranging from extreme pessimism to extreme optimism. We prefer the middle scenario, but keep in mind that there are other scenarios that could occur within these three, and that local, regional, and international factors could change these scenarios once more: In the worst-case scenario, we think that the Syrian conflict is still ongoing and that ongoing foreign intervention is causing violence in all of its manifestations to escalate. More crimes against humanity, human rights abuses, and restrictions on Syrians living abroad will result from the Assad regime's and its allies' growing influence in Syria, which is being bolstered by Iran and Russia. In this scenario, increasing regime violence may prompt terrorist, rebel, and separatist groups to step up their activities. As a result, the humanitarian, economic, livelihood, security, and military situations will worsen, causing more division and chaos throughout the nation. In the best-case scenario, some regional and international parties' diplomatic efforts may be successful in bringing about a peace agreement that ends the Syrian conflict. This agreement would be based on the establishment of a joint transitional government made up of representatives from the opposition, the regime, and the separatists, with a gradual withdrawal and deportation of foreign forces. sectarian militias, prior to embarking on a long-term reconstruction strategy (despite the risk of catastrophic corruption), which results in a progressive amelioration of the living and humanitarian circumstances of Syrians and the commencement of their repatriation. However, given the current situation and the lack of genuine international pressure on the Assad regime to make concessions toward this solution, as well as the opposition parties' severe fragility and dispersion into rival and conflicting forces, as well as the international community's preoccupation with more urgent issues in the Middle East and worldwide, and their inability to reach a consensus on a political settlement in Syria, we do not see the possibility of achieving this scenario. Regarding the intermediate scenario between them, which we generally anticipate to take place in the medium term (the next one to three years), there will still be foreign interventions and mutual clashes, but the conflict will remain intermittent and low intensity. The humanitarian, security, and living conditions in some areas might experience a slight and transient improvement, but the nation as a whole will continue to be characterized by chaos and future uncertainty due to the failure of international efforts to reach a political settlement. With the conflict still at its lowest level and the overall state of the economy continuing to worsen, the current situation is one of stagnation. In conclusion, Syria's collapse and failure have never been, and never will, an internal issue. All Middle Eastern nations face security challenges as a result of this international and regional responsibility, which implies that all parties in the region must share some of the burden of solving this incredibly difficult issue. Many of the solutions put forth by certain regional powers aimed to maintain, freeze, or normalize the status quo, which in turn fuels further regional collapses and threats. Going back to the first point, which is to impose genuine, gradual political change on the parties involved in the current crisis (the regime, the opposition, and the separatists) with support and guarantees from the regional and international community, continues to be the best way to restore stability in Syria and its environs. We think the regional powers have many of the means to accomplish this, given enough credibility. All parties must be put aside in the proposal and execution, and they must not move toward normalization with the ruins or align with one party at the expense of the problem. Dr. ABD ALQADER NANAA Prepared for the Consulting Office for the Middle East Risks and Solutions
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ مايو ٢٠٢٤
تحذيرات من إهمال الصراع في سورية تستمر القضية السورية في لب نزاعات الشرق الأوسط، ويستمر تهديدها لاستقرار الإقليم كاملاً، في ظل تدخل خمس قوى عسكرية أجنبية في الأراضي السورية، واستمرار تدفق الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران والتي تتخذ من سورية موطئ قدم لها لتعزيز مشروع الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، فيما يستمر نظام الأسد في ارتكاب مزيد من الجرائم ضد الإنسانية تجاه معارضيه ورافضي سلطته، وهذا ما يدفع إلى استمرار حالة التمرد في مناطق عدة من البلاد، مع استمرار عمليات التغيير الديموغرافي القسري، في ظل نزوح أكثر من 12 مليون سوري (بين نازح محلي ولاجئ خارج البلاد)، كما تستمر المعارضة على ذات المنهج غير المجدي في إدارة شؤون المناطق التي خرجت عن سلطة النظام، كما يوفر الطرفان (المعارضة والنظام) مرتزقة عسكريين لدعم حلفائهم في نزاعاتهم الدولية. بدروها تستمر الجماعات الانفصالية بانتهاك القانون الدولي والقانون الإنساني، وممارسة أشكال مختلفة مما يمكن اعتباره إرهاباً منظماً ضد السكان المحليين العرب. كما تستمر عمليات التنظيم الإرهابي الآخر: داعش، بشكل منخفض الحدة، وبين حين وآخر، مع تحذيرات دولية من احتمال عودة نشاط هذا التنظيم في سورية والعراق في الأعوام القادمة. ولا يبدو أن هناك انفراجاً مأمولاً يؤدي إلى استقرار المنطقة وتحسين الأوضاع الإنسانية. يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات تتراوح من أقصى التشاؤم إلى أقصى التفاؤل، مع ترجيحنا للسيناريو الأوسط، ومع التنويه بأن هناك سيناريوهات أخرى محتملة أيضاً، ضمن هذه السيناريوهات، عدا عن أن المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، قد تعيد تشكيل هذه السيناريوهات من جديد: في السيناريو الأكثر تشاؤماً: نعتقد أن الصراع في سورية مستمر، مع استمرار التدخل الأجنبي، ما يقود إلى تصاعد العنف بكل أشكاله. فيما تزداد قوة نظام الأسد وحلفاؤه في سورية، مع استمرار دعم إيران وروسيا له، وهذا ما سيقود إلى مزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية، والتضييق المستمر على السوريين في دول الشتات. وفي هذا السيناريو، قد يزداد نشاط الجماعات الإرهابية والمتمردة والانفصالية في رد على تصاعد عنف النظام. وبالنتيجة، ستشهد البلاد مزيداً من التشظي والفوضى، مع تأزم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية المعاشية والأمنية والعسكرية. في السيناريو الأكثر تفاؤلاً: قد تنجح جهود بعض الأطراف الإقليمية والدولية الدبلوماسية، ما يقود إلى التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الصراع في سورية، على أساس إقامة حكومة انتقالية مشتركة (مكونة من أطراف من النظام والمعارضة والانفصاليين)، مع سحب تدريجي للقوات الأجنبية، وتفكيك وترحيل الميليشيات الطائفية، قبل البدء بمشوار طويل الأمد لإعادة إعمار البلاد (رغم تهديد الفساد مرتفع الحدة)، ما يقود إلى تحسن تدريجي في الأوضاع المعاشية والإنسانية للسوريين، مع بدء عودة السوريين إلى بلادهم. لكننا لا نرى إمكانية لتحقيق هذا السيناريو في ظل المعطيات الحالية، نتيجة عدم وجود ضغط دولي حقيقي على نظام الأسد لتقديم تنازلات نحو هذا الحل، عدا عن الضعف الشديد الذي منيت به أطراف المعارضة وتشتتها إلى قوى متنافسة ومتنازعة، إضافة إلى الانشغال الدولي بقضايا أكثر إلحاحاً في الشرق الأوسط وفي البيئة الدولية، وعدم اتفاقها على تسوية سياسية في سورية. أما في السيناريو المتوسط بينهما، والذي نميل إلى ترجيح قيامه على المدى المتوسط (1-3 سنوات قادمة)، فإن الصراع سيبقى قائماً بشكل متقطع ومنخفض الحدة، مع استمرار التدخلات الأجنبية، والاشتباكات المتبادلة فيما بينها. ربما تشهد بعض المناطق تحسناً بسيطاً ومؤقتاً في الأوضاع الإنسانية والأمنية والمعاشية، إلا أن البلاد بشكل عام، ستبقى تحت تأثير الفوضى وعدم وضوح المستقبل، مع إخفاق الجهود الدولية في التوصل إلى تسوية سياسية. وهو سيناريو جمود الوضع الحالي على ما هو عليه، مع استمرار الصراع بحدوده الدنيا، واستمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية عموماً. ختاماً، إن فشل سورية وانهيارها، لم يكن شأناً داخلياً أبداً، ولن يكون كذلك، فهو مسؤولية إقليمية ودولية، تفرض تحديات أمنية على كل دول الشرق الأوسط، ما يعني أن المسؤولية عامة في تجاوز هذه الإشكالية بالغة التعقيد. ورغم كثير حلول تم طرحها من بعض القوى الإقليمية، لكن جميعها سعت إلى تكريس الوضع الراهن، أو تجميده أو التطبيع معه، وهو بحد ذاته مسبب لمزيد من الانهيارات والتهديدات الإقليمية. وتبقى العودة إلى النقطة الأولى، أفضل السبل لاستعاد الاستقرار في سورية ومحيطها، وهي إطلاق مسار تغيير سياسي تدريجي حقيقي، وبرعاية وضمانة إقليمية ودولية، وفرضه على أطراف الأزمة الراهنة (النظام والمعارضة والانفصاليين)، ونعتقد أن القوى الإقليمية تمتلك كثيراً من أدوات الفرض، بشرط المصداقية في الطرح والتنفيذ، وليس التحول إلى التطبيع مع الخرائب أو الاصطفاف مع طرف على حساب القضية، فكل الأطراف يجب تنحيتها. د. عبد القادر نعناع تم إعداده لصالح المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط Risks and Solutions
سورية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ مارس ٢٠٢٤
أحد مكونات المشكلة السورية (المستعصية)، أنه لم يتم إنتاج نخب اجتماعية تاريخية على حجم الحدث، لها من الشرعية وقادرة على إدارة الشأن العام (الفوضى العامة). عوضاً عن ذلك، تم إنتاج نخب مصطنعة، يمكن اعتبارها عميلة أو مرتزِقة أو انتهازية، وهي نخب جديدة أو تم استحضارها من منشقي النظام وفاسديه السابقين، وهي نخب وظيفية أي أن وظيفتيها الرئيستين (1) الحفاظ على الفوضى بشكلها الحالي، لضمان نفوذ الدول الراعية لهذه النخب، (2) ومنع ظهور/هيمنة النخب الوطنية أو وصولها إلى المشهد العام . ولعل أهم هذه النخب المصطنعة: النخب التي صنّعتها قطر وتركيا في المشهد السوري. هذه النخب تعتمد بشكل مفرط (يكاد يكون كلياً) على الرعاة الخارجيين، وتتصارع فيما بينها على حصص المنفعة الشخصية، وتتسابق في تقديم الولاء السياسي والهويتي للرعاة. وبالتالي ليس لهذه النخب أية شرعية، وغير مقبولة إلا في إطار الزبونية السياسية المحدودة جداً (بمعنى أن شرعيتها ارتزاقية: من خلال تمويل عدد محدود من الأشخاص ليكونوا جمهوراً لها)، وهي غير قادرة على إحداث أي تغيير (يضر بمصالح الرعاة)، وهي منغلقة بمعنى أنها لا تسمح بدخول أحد لفضائها (منعاً لانهيارها، أي أنها عصبوية للغاية)، وهي شرسة (بمعنى أنها مستعدة لتدمير أي نخب ممنافسة لها، أو أي نخب وطنية مناهضة لها). بل الأمر أكثر تعقيداً.
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٦ يناير ٢٠٢٤
نحن في وضع مشابه للفوضى التي سادت في بداية النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، ومن الممكن الإشارة إلى هذا بوصفه "وباء الفوضى" باستخدام العبارة التي استخدمها آنذاك الرئيس الأمريكي روزفلت. ويرجع ذلك إلى تصاعد النزاعات المسلحة في شرق أوروبا والشرق الأوسط، واستمرار القلق في جنوب شرق آسيا (السلام الهش)، والانقلابات العسكرية والتوترات في إفريقيا، وغيرها من المؤشرات. هذا يعني أنه إذا اندلعت نزاع مسلح آخر في الشرق الأوسط أو آسيا أو شرق أوروبا، فإننا قد نكون على وشك كارثة عالمية أوسع نطاقًا. العالم يضطرب بشكل متزايد (ومجنون)، واحتمالية عودته من هذا الجنون تتضاءل كل يوم. وفي حال استمر مستوى الجنون العالمي الحالي، فقد يقود هذا إلى اصطدام كارثي بين القوى الكبرى المتنافسة. د. عبد القادر نعناع
بواسطة Dr. ABD ALQADER NANAA ٢٦ يناير ٢٠٢٤
We are in a situation similar to the chaotic beginning of the second half of the 1930s, and it is possible to refer to this as an "epidemic of lawlessness" to borrow the phrase used by then US President Roosevelt. We are in a situation similar to the chaotic beginning of the second half of the 1930s, and it is possible to refer to this as an "epidemic of lawlessness" to borrow the phrase used by then US President Roosevelt. This is due to the growth of armed conflicts in Eastern Europe and the Middle East, the ongoing anxiety in Southeast Asia (fragile peace), many coups and military tensions in Africa, and other indicators. That means if another armed conflict breaks out in the Middle East, Asia, or Eastern Europe, it would only be necessary for us to be on the brink of a much vaster global catastrophe. The world is going insane, and the likelihood that it will come back from this madness is dwindling every day. If the current level of worldwide insanity persists, this will culminate in a catastrophic collision. Dr. ABD ALQADER NANAA Prepared for the Consulting Office for the Middle East Risks and Solutions
الحرب
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٨ نوفمبر ٢٠٢٣
يُعتَبر إشعال حرب أمراً فردياً مُناطاً بجهة أو قائد أو جماعة مسلّحة، لأهداف متعدّدة، لكن إيقاف الحرب لن يكن فردياً بشكل من الأشكال. فالحرب دعوة لكلّ الأطراف المعنية (دولاً وجماعات) للمشاركة في الحصول على مكاسب أو تصفية قضايا عالقة، أو حتى لأسباب تتعلق بالانتقام التاريخي وتصحيح أوضاع راهنة أو مختلّة في ميزان القوى، وسواها من مبرّرات انخراط عديد من الأطراف في الحرب، وخصوصاً أنّ الحرب غالباً ما تكون استمراراً لإشكاليات سياسية قائمة. إشكاليّة انخراط عدة أطراف سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تخلق إشكاليّة أخرى تتعلّق بتعثر مسار الحرب وفق تصور صانعيه، فكثيراً ما انحرفت الحروب عما خُطِّطَ لها لتتحوّل إلى كارثة على أطرافها، كما حصل في الحربين العالميتين مثلاً، أو في الغزو العراقي للكويت عام 1990. نناقش في هذه الدراسة، بعض الإشكاليات التي طرأت في مشهد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في غزة بعد عملية طوفان الأقصى –التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023–، بهدف بناء سيناريوهات لتوقّع المسار المفضي إلى وقف إطلاق النار، وهو المحور الأخير، أو النتيجة التي نسعى للوصول إليها. لكن قبل ذلك، لابدّ من تحديد مقوّمات مشهد النزاع لفهم مداخله المُفضِيَة إلى احتمال وقف إطلاق النار. فيما نحاول أن نطبّق فرضيّات عرضها كل من: Govinda Clayton وزملائه حول المسارات المفترضة لوقف إطلاق النار. حيث تستعرض هذه الدراسة الإشكاليّة في تحديد الطرف البادئ في العمليات العسكرية، وذلك بهدف تحديد المسؤولية في القانون الدولي. وعليه يمكن تحديد أهداف كلا الطرفين حماس وإسرائيل. ويبدو أن هناك نهجاً جديداً تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى تطبيقه على حماس بهدف تصفيتها، وهو نهج تشبيه الحدث بأحداث أيلول/سبتمبر 2001، وتشبيه حماس بداعش، وهو تشبيه لابدّ للدراسة من التوقّف عنده. كما تتناول هذه الدراسة تكاليف الحرب المتنوعة، وتكاليف استمرار الحرب، لما في ذلك من تأثير على مستقبل التفاوض والتسوية بين الطرفين. حيث تقوم إشكاليّات تعيق عملية التفاوض بينهما، وأبرز تلك الإشكاليات هو الدور الأمريكي الرافض للتسوية، حتى لحظة إعداد هذه الدراسة. قبل أن تنتقل الدراسة إلى اختبار فرضيّات Clayton وزملائه لوقف إطلاق النار، بهدف بناء سيناريوهات وقف إطلاق النار. بالإجمال تستند الدراسة إلى منهج دراسة الحالة، في الفترة الزمنية الممتدة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و14 تشرين الثاني/نوفمبر. ترى الدراسة أنّ الإشكال بين طرفيّ النزاع هو إشكال دائم، وعليه فإنّ الانتفاضات المدنية والنزاعات المسلّحة والحروب، هي فعل طبيعي بالنتيجة، وفعل متواصل، باعتبار أنّ هذه الأفعال حقّ من حقوق أصحاب الأرض، كما تقرّ بذلك المواثيق والقوانين والأعراف الدولية، وكما يفرضه الوعي البشري السليم بالذات وبالهوية، عدا عن أنّ الإشكال متصل بالإشكال الإقليمي في الشرق الأوسط، والمضطرب في العقود الأخيرة، ضمن فاعلين متعددين (فاعلين من الدول ومن دون الدولة). ويتعمق الإشكال نتيجة موقف القانون الدولي. حيث يقر القانون الدولي لإسرائيل بحق الدفاع عن النفس باعتبارها تعرّضت لاعتداء من قبل جماعة مسلحة دون الدولة، ويترافق ذلك مع دعم أميركي لإسرائيل ضمن مجلس الأمن، ما يعيق اتخاذ أية إجراءات عقابية على إسرائيل. ومن جهة ثانية، لم تحترم إسرائيل المواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقيات ومسارات التفاوض بين الطرفي، كما أنّها رفضت تطبيق قرارات الأمم المتحدة (الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي)، وتستمر بانتهاك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني عبر مجازر ترقى إلى مستوى جرائم حرب. وتتنوع أهداف الطرفين من هذه الحرب. ففي حال حماس، يمكن القول إن هناك أهداف غير معلنة تتعلق بالترتيبات الإقليمية وحلفائها في المنطقة، وأهدافاً معلنة غير مباشرة تتعلق باستمرار النضال التحرري، وهدفاً مركزياً معلناً مباشراً وهو الوصول إلى صفقة تبادل أسرى. وشكّلت عملية حماس، إهانة بالغة الحدة لإسرائيل ومشاريعها الإقليمية، وأمنها الداخلي، وسمعتها الدولية، ومنظوماتها الأمنية والعسكرية. وعليه، فإن أهداف إسرائيل من الحرب، تتمحور حول الانتقام واستعادة السمعة وتدمير حماس، حتى لا تتكرر الحادثة من جهة، وحتى تكون مشاريعها أكثر استقراراً في الإقليم، مهما كانت تكلفة عملية الانتقام. وقد قادت عملية طوفان الأقصى إلى استحضار الروح الانتقامية لأحداث أيلول/سبتمبر 2001، وسعياً أميركياً لتصفية حماس بنهج تصفية داعش. ونتيجة التكاليف الباهظة التي تكبدتها إسرائيل، السياسية والبشرية والاقتصادية وعلى مستوى سمعة إسرائيل، وضعت إسرائيل أهدافاً بالغة التطرف قبل الوصول إلى وقف إطلاق النار، عقّدت عملية التفاوض بشكل كبير. وقد اختبرت الدراسة مجموعة فرضيات، ظهرت من خلالها إسرائيل غير مستعدة أو راغبة بوقف إطلاق النار، مع وجود دعم أمريكي وغربي واسع لها، وشارع إسرائيلي يتطلع إلى اجتثاث حماس. وفيما تزداد التكاليف البشرية والمادية على حماس، وتجعلها أكثر استعداداً لتقديم التنازلات. لكن حماس تواجه مشكلة أكبر، تتعلق بالمعادلة الصفرية، أو تطلّع إسرائيل والولايات المتحدة إلى اجتثاثها –وربّما كل الفلسطينيين– من قطاع غزة نهائياً. وحيث وضعت الدراسة مجموعة من السيناريوهات للوصول إلى وقف إطلاق نار، فإنّها نعتقد أنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً للوصول إلى وقف إطلاق نار (مع تحييد المتغيرات الأخرى والمتغيرات المستقبلية)، هو: ارتفاع كلفة الحرب السياسية والبشرية والاقتصادية، مع وجود وساطة مقبولة من كل الأطراف، مترافقة مع ارتفاع مستوى الإدانة العالمي للجرائم الإسرائيلية. الدراسة متاحة للتنزيل، بصيغة PDF: كما أنها متاحة بشكل موجز على شكل بودكاست، يمكن الاستماع لها على قناة الدكتور عبد القادر نعناع، على الرابط التالي: https://youtu.be/GYR0P83k0Ak?si=geRPJAgl45cuPw0a
الشرق الأوسط
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٠ نوفمبر ٢٠٢٣
لا يمكن فصل حدث طوفان الأقصى عن أبعاده الإقليمية، فهو فاعل ومتفاعل فيها، ككل الأحداث الأخرى، وذلك نتيجة مسبّبات عديدة، منها ترابطه الهُويّتي بالمنطقة، ومنها اشتغال عدّة قوى على توظيف القضية الفلسطينية أداةً في حراكها الإقليمي، والأهم من ذلك، استعصاء الحدث سياسياً وإنسانياً، حتى باتت القضية الفلسطينية محور القضايا العربية والإسلامية، وشكلاً من أشكال النزاع العربي-الغربي، والذي يتجلى في بعض صوره كنمط من أنماط الهيمنة الغربية المستمرة في المنطقة. وفي هذه الورقة، نحاول أن نستعرض السياق الإقليمي الذي اندلعت فيه عملية طوفان الأقصى، والتأثيرات التي خلّفها هذا السياق في العملية. البيئة الإقليمية قُبيل عملية طوفان الأقصى يعيش الشرق الأقصى عقوداً متتالية من الفوضى، أدّت في محصلتها إلى انهيار وفشل مجموعة دول عربية (سورية، اليمن، العراق، لبنان، الصومال، السودان، ليبيا)، عدا عن أزمات إنسانية واقتصادية حادّة تبرز في مصر والأردن وتونس خصوصاً. ويبدو أن لكل عقدٍ من العقود الماضية سياسات عامة أدّت إلى شكل جديد من الفوضى المتراكمة. تشتغل على تغذية هذه الفوضى مجموعة قوى عسكرية إقليمية ودولية (الولايات المتحدة وحلفاؤها، إسرائيل، روسيا، إيران، تركيا)، جنباً إلى جنب مع الجماعات المسلحة من دون الدولة (الميليشيات الطائفية، المنظمات الإرهابية، المتمردون والثوار)، فيما لا تزال بعض الاستبداديات العسكرية تهدم بنيان دول أخرى. خلّف هذا المشهد تداعياً كبيراً في العالم العربي، واختلالاً في ميزان القوى لصالح القوى العسكرية المتدخِّلة في المنطقة، وأزمات متراكبة بنيوية مستعصية على كل أشكال الحل. وهو ما دفع ما تبقى من دول عربية فاعلة إلى إطلاق مسار من المصالحات مع الأزمات (التطبيع مع الأزمات)، منذ مطلع هذا العقد، سواءً تلك المصالحات البينية، أو المصالحات مع الأنظمة الاستبدادية، أو مع الخصوم الإقليميين، ضمن ما أسماه البعض نهج "تصفير الأزمات". لكنها أزمات بالغة الاستعصاء، ولا يمكن بشكل من الأشكال إلغاء وجودها، فهي في عملية تفاعل مستمر، وإن ركدت لفترات وجيزة نتيجة فقدان بعض من طاقتها الدافعة، لكن غياب العمل المشترك لحلها، يشكّل عامل تغذيةٍ لانطلاقها من جديد، لذا يمكن تسمية النهج العربي بنهج "تبريد الأزمات"، أو قمعها، بهدف خلق بيئة إقليمية مواتية لمشاريع تنموية عابرة للحدود. لكن بالمحصلة، كانت نتيجة هذه المصالحات: - الإقرار بنفوذ إيران وميليشياتها في مجموعة من الدول العربية. - إيقاف كل أشكال العمل العسكري ضد هذه الميليشيات، وإيقاف كل أشكال الدعم للقوى المناهضة لها. - استمرار النهج الإيراني على ذاته دون تغيير، أي نهج مدّ النفوذ في العالم العربي عبر الميليشيات وأدوات أخرى. - محاولة إدراج إيران في المصالح الإقليمية. لكن إيران لم تكن معنيّةً بهذه المصالح، بقدر تطلعها لمزيد من الهيمنة على العالم العربي. فالمشروعان مختلفان كلياً، ففيما المشروع العربي الأخير يرنو لتنمية مشتركة عابرة للحدود، فإن إيران تتطلع لتغيير هذه الجغرافيا، وتغيير البيئة السكانية والهُويّتية للمنطقة بأسرها، بما يخدم مشروع "امبراطورية فارسية". - ثم جاء الاندفاع غير المبرّر نحو إسرائيل، عبر اتفاقات أبراهام وما بعدها، دون الدفع نحو تسوية سلمية ونهائية للقضية الفلسطينية، بل ربما مع تخلٍّ واضح عنها. فيما النقاط الأربعة الأولى كانت بمثابة رسالة إلى إيران لتستمر بذات النهج العدواني، فإن النقطة الأخيرة كانت بمثابة رسالة إلى إسرائيل بأنّ القضية الفلسطينية باتت خارج الحسابات الإقليمية العربية. واعتقدت إسرائيل بالتالي أنّ الوقت بات مناسباً لتصفية هذه القضية تصفية نهائية. إشكاليّة الدور الإيراني شجّع التخلي العربي عن القضية الطرفين: الإسرائيلي على تصفيتها، والإيراني على توظيفها. إذ خلق التخلي عن القضية عربياً، فراغاً سارعت إيران إلى ملئه عبر تقديم عدة أشكال من الدعم (عسكري، مالي، استخباراتي، سياسي، إعلامي، لوجستي)، وهو ما كانت بالضبط تحتاجه المقاومة الفلسطينية في غزة لتبقى قادرة على مواجهة إسرائيل. مع التذكير بأنّ فعل المقاومة، هو فعل مستمر ودائم، وتأكيد على استمرار المطالبة بالحقوق الفلسطينية، ومنع تصفية القضية إسرائيلياً ودولياً. وهذه واحدة من أكثر الإشكاليات التي تؤخذ على المقاومة الفلسطينية في العقد الأخير، ففيما كانت إيران تدمّر مجموعة من الدول العربية، كانت حماس والجهاد على تنسيق دائم مع إيران، رغم القطيعة التي شهدتها العلاقة بين حماس ونظام الأسد في الفترة (2011-2021). لمن حماس والجهاد، سلكتا نفس المنهج الذي سلكته الدول العربية في تقديم المصالح الذاتية على الأمن القومي بالإجمال، حتى لم يعد بالإمكان تعريف الأمن القومي العربي وتوضيح حدوده والمخاطر التي تهدده. وخصوصاً بعد إنشاء غرفة عمليات مشتركة في بيروت مع حزب الله والحرس الثوري (كما تشير بعض التقرير بعد عام 2021) لتنسيق العمل المشترك بين هذه الجهات. إذاً، تبقى إيران حاضرة في كل فعل عسكري للمقاومة الفلسطينية، وهو حضور يتمثل بأدنى أشكاله في التدريب والتنسيق والاستخبارات والتسليح، وفي أعلى أشكاله بالتخطيط والإدارة والتوجيه والتصعيد. لذا نفضل الرأي الذي يرى أنّ إيران كانت على بينة من الطوفان قبل وقوعه بفترة كافية، حتى تكون مستعدة لتلقي أية ردود فعل إسرائيلية محتملة. ونستدل على ذلك بخطاب خامنئي السابق للحدث بأيام قليلة، عندما وصف الدول العربية المُطبِّعة مع إسرائيل بأنها تقف في الجانب الخاسر. هذا يعني أن التطبيع مع إسرائيل، ربما كان سبباً من أسباب عملية طوفان الأقصى. إشكالية التطبيع بالعودة إلى المشهد الإقليمي قبل عملية طوفان الأقصى، كان واضحاً اختلال ميزان القوى لصالح القوى الإقليمية وفي مقدّمتها إيران. لكن عمليات التطبيع –وتحديداً التطبيع المرتقب بين السعودية وإسرائيل– حملت تهديداً لميزان القوى المختلّ هذا، وأدركت إيران أن السعودية قد تمتلك مقدرات تعيد تصحيح بعض الخلل، وخصوصاً مع مطالبها بتعهد دفاعي أمريكي، وبإنشاء مفاعل نووي على الأراضي السعودية، وسواها من المطالب الأمنية، ما قد يشكّل تحدياً لمشاريع النفوذ الإيرانية المستقبلية. الإشكال الثاني في خلل التوازن هذا أنه سيكون لصالح إسرائيل، التي ستصبح أكثر اندماجاً وقبولاً ببيئتها الإقليمية، بعد التطبيع مع السعودية، ما يعني تعزيز قوتها في مواجهة إيران، وربما لاحقاً تشكيل حلف إقليمي على رأسه السعودية وإسرائيل، وهو تهديد محتمل آخر لمشاريع النفوذ الإيرانية في المنطقة. بالأساس، النزاع الإيراني-الإسرائيلي، هو نزاع نفوذ وليس نزاع وجود، أي أن الطرفين يعملان على توسيع نفوذهما في ذات البيئة الإقليمية، ففيما تعمل إيران على بناء مجال حيوي لها في العالم العربي عبر الاستحواذ العسكري، تعمل إسرائيل على بناء ذات المجال في ذات البيئة عبر عمليات التطبيع المستمرة مع دول المنطقة. الظرف الزمني لإطلاق العملية بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن الظرف كان ملحّاً بالنسبة لإيران، لعرقلة أية ترتيبات إقليمية جديدة، وربما التقى هذا الطارئ الزمني بالنسبة لإيران، مع ترتيبات خاصة بحماس، تتعلق بقدراتها واستخباراتها ومرونة حركتها، وتقديرها بأن إسرائيل في حالة تراخٍ أمنية في الفترة الأخيرة عدا عن فترة الأعياد الدينية التي تمر بها، وارتفاع مستوى الحنق العام في الشارع الفلسطيني نتيجة مسببين رئيسين في الأشهر الماضية: تسارع عمليات التطبيع دون أفق للقضية الفلسطينية، وإصرار اليمين الإسرائيلي المتطرف على نهج الاعتداءات الممنهجة والمستمرة على المقدسات الإسلامية. وفق حسابات أخرى، ربما لا يكون المشهد على هذه الحال، بل مجرد تصادف زمني بين الحدثين. في كلا التحليلين، يمكن ملاحظة حالة التزامن المصلحي بين الطرفين، وبين المتغيرات الإقليمية. الفوضى المتحركة رغم أنّ عملية طوفان الأقصى، هي في أحد أشكالها، تأكيد للحق الفلسطيني المشروع بمقاومة الاحتلال بكافة الطرق المتاحة، إلا أنها تحمل في أوجه أخرى مخاطر إقليمية واسعة، إذ يترتب إشكال إقليمي آخر عليها، متمثلاً بالفوضى المتحركة. كما ورد أعلاه، فإنّ الشرق الأوسط يعيش حالة فوضى مستمرة –منذ عقدين على الأقل–، ومن سمات هذه الفوضى الاستمرارية والتحرك لضمّ بيئات جديدة إليها، أي توسيع الفوضى المستمر من قبل القوى المغذية لها، ويبدو أن مشروع التهجير الواسع لسكان غزة نحو مصر، هو شكل من أشكال تحريك هذه الفوضى نحو مصر. رغم رفض فكرة إخراج سكان غزة من الإقليم، وصعوبة تحقيقها، لكنها تعني نقل خط المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى داخل مصر، فحق المقاومة مشروع ودائم. لذا، فإن عملية النقل تعني استخدام الأراضي المصرية في عمليات عسكرية مدعومة من إيران، وستكون بشكل حتمي في مواجهة مع الجيش المصري الملتزم باتفاقيات سلام مع إسرائيل منذ 1979. هذا بدروه قد يحفز جماعات أخرى على امتداد الإقليم لتغذية النزاعات المسلحة العابرة للإقليم. عدا عن إشكالية توطين ما يزيد على مليوني مواطن فلسطيني، في مصر، وما يترتب عليه من تصفية للقضية الفلسطينية التي قد تقود إلى بروز جماعات أكثر تطرفاً في مواجهة إسرائيل والدول العربية المحيطة بها والمطبِّعة معها. أيضاً، يمكن ملاحظة جهة أخرى هي هدف لهذه الفوضى المتحركة: الأردن. حيث تضمّ حجماً سكانياً فلسطينياً كبيراً، وحدوداً مضطربة مع العراق وسورية، واشتغالاً إيرانياً لمدّ النفوذ إليها، وهشاشة في بنيتها الاقتصادية. رغم موقعها كدولة حليف للولايات المتحدة من خارج الناتو، إلا أن تهديد نفوذ إيران في المنطقة عبر عمليات التطبيع، قد يدفع إيران نحو توسيع هذا النفوذ، وخصوصاً أن الأردن مجاورة لبيئات تهمين عليها الميليشيات الإيرانية من جهة، كما أنها تتعرض لجملة ضغوط إيرانية (عسكرية ومذهبية وتهريب مخدرات) في السنوات الماضية. تهديد السلام في الشرق الأوسط لذا، يرى البعض أن عملية طوفان الأقصى تشكل تهديداً للسلام في الشرق الأوسط. ولا نذهب في هذا الاتجاه لأسباب عديدة قد ذكرناها، وهي أن الشرق الأوسط بالأساس لم يكن في حالة سلام. ما كان يميز المنطقة قبل العملية، هو الفوضى والعمليات العسكرية الخارجية (دول وغير دول)، وملايين المواطنين العرب اللاجئين، واستمرار الاشتباكات المسلحة على امتداد الإقليم. ربما كان هناك سلام مؤقت أو محاصر في بعض الدول العربية، لكنه لا يرقى إلى مستوى إطلاق وصف "السلام في الشرق الأوسط"، بمعنى غياب النزاعات المسلحة والتهديدات الخارجية وكل أشكال العنف، واستقرار دول الإقليم. عدا عن أن إسرائيل غير معنية بالسلام مع الفلسطينيين أبداً، فمنذ اتفاق أوسلو 1993، والقضية الفلسطينية في مرحلة تراجع واضحة للعيان. ورغم تشكيل سلطة فلسطينية ومنحها بعض الصلاحيات الشرطية والبلدية، إلا أنه لم يعد هناك أرض بالمعنى الجغرافي القابل لتطبيق حل الدولتين الموعود في تلك الاتفاقيات. بالأساس، إسرائيل فصلت سلامها مع الدول العربية عن سلامها مع الفلسطينيين، وهو ما قامت به الدول العربية أيضاً. وبالمحصلة، لم يعد للفلسطينيين أية آمال بالمفاوضات التي توقفت منذ سنوات عديدة، وبدا لهم أن الكفاح المسلح وسيلة للحفاظ على ما تبقى من المشروع/الحق الفلسطيني. مستقبل المواجهة في الشرق الأوسط قادت عملية طوفان الأقصى، والأزمات المتراكمة في المنطقة، والفوضى المتحركة، إلى تصعيد على امتداد الشرق الأوسط، شمل وصول حاملات طائرات أمريكية إلى إسرائيل وكم كبير من الدعم والعتاد العسكري واللوجستي الأمريكي، ما يوحي باستعداد أمريكي لشن حرب إقليمية. في ذات الوقت، لا ترغب أي من دول الإقليم بشن حرب إقليمية واسعة، فهذا قد يعني خراباً أكبر على امتداد الإقليم. ربما إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي كانت تدفع طيلة السنوات الماضية إلى هكذا مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. لكن للولايات المتحدة حساباتها الدولية المختلفة، فهي منشغلة بترتيبات التغيير الحاصل في النظام الدولي، وهو انشغال بالغ الكلفة مالياً وعسكرياً في أوروبا وآسيا، وترتّب عليه تخفيض التزام الولايات المتحدة عسكرياً بمناطق عدة، من ضمنها الشرق الأوسط. لذا فإن عودتها للانشغال بحرب إقليمية في الشرق الأوسط، قد تمتد لسنوات، وقد تبلغ كلفتها مئات مليارات أو تريليونات الدولارات (حتى الآن كلفت حروب الولايات المتحدة في المنطقة قربة 6.4 تريليون دولار مع فوائد قد تصل إلى 2 تريليون دولار)، ما يعني التسليم بالتخلي عن مساحات مهمة من التنافس الدولي لصالح الصين وروسيا. كما أن هكذا حرب، ستعني حتماً ارتفاعاً مهولاً في أسعار النفط بما يضر بكل الاقتصاديات الصناعية الكبرى، وتهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها عبر الإقليم (فميليشيات إيران منتشرة عبر الإقليم)، وربما عودة توظيف خلايا التنظيمات الإرهابية النائمة في المواجهة الإقليمية. لذا، ربما يكون الحضور العسكري الأمريكي المبكر والسريع، هو رسالة إلى كل الإقليم، وخصوصاً إيران وميليشياتها، بأن الولايات المتحدة ملتزمة التزاماً دائماً ومفتوحاً بأمن إسرائيل، وبأنها لن تسمح بتحويل التهديد الأمني إلى تهديد وجودي لها. لكن تبقى المشاركة الأمريكية المباشرة رهن التطورات العسكرية على الأرض، وهو أمر لا ترغب الولايات المتحدة بتوسيعه، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال التصريحات الأمريكية التي تشير إلى عدم تورط إيران –حتى الآن– في عملية طوفان الأقصى. عدا عن أن هذا الحضور العسكري، يعني التزام إدارة بايدن التزاماً مفتوحاً بأمن إسرائيل، وهو ما يمكن أن يوفر له أصوات اللوبي اليهودي في الانتخابات القادمة. ما ترغب به إسرائيل والولايات المتحدة، هو إبقاء النزاع داخل فلسطين المحتلة، وإبقاء دول الإقليم والجماعات المسلحة بعيداً عن هذا النزاع، وصولاً إلى تصفية حماس وربما قطاع غزة بالكامل. لكن هكذا طرح، ربما يكون –بحد ذاته– دعوة لكثير من الأطراف الإقليمية للتدخل في هذا النزاع. ختاماً، تبقى القضية الفلسطينية القضية المحورية في العالم العربي، وهي قضية ذات بعد هويتي وإنساني وديني، لا يمتلك أحد حق إسقاطه أو التنازل عنه. لكن عمليات التطبيع التي جاءت على حساب هذا الحق، جعلته أداة للتوظيف من قبل خصوم المنطقة، وهو ما يجب استدراكه عربياً، عبر جهود في اتجاهين: رفض كل أشكال التصفية للقضية الفلسطينية، وربط عمليات التطبيع الحالية والمستقبلية بتسوية تضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة وأمنهم. د. عبد القادر نعناع نشرت هذه المادة، في مجلة شؤون إيرانية، العدد 27، تشرين الأول/أكتوبر 2023، ص 65-68 ومتوفرة على موقع مركز الخليج للشؤون الإيرانية، على الرابط التالي: https://alkhalej.net/p/12178414
بواسطة Dr. ABD ALQADER NANAA ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣
The Middle East appears to be heading toward worse chaos in the coming months, as military operations and the targeting of civilians and infrastructure coincide in multiple parts of the region -notably in northern Syria and the Gaza Strip- and with the participation of all foreign powers operating militarily in the region. The Consulting Office for MENA warns of the dangers of attempting to depopulate these areas. If such a step takes place, it will not bring peace to the region. On the contrary, it will serve as a trigger for increased tension, which will be used more flexibly by external powers and extremist organizations to fuel ongoing regional and international conflicts in the region. Proposals to create a so-called "alternative homeland" or geographical alternatives for displaced peoples will be tools for igniting more violence and turmoil in the Middle East. Also, it will be used flexibly by external powers and extremist organizations to fuel region's ongoing regional and international conflicts. In addition to, the insistence on labeling people's demands, grievances, and movements as terrorist contributes to the creation of a breeding ground for extremist organizations. More violence, use of military force, armed mobilization, and external intervention will not solve the Middle East's problems. The desired stability begins with finding fair solutions to the region's peoples' grievances. Dr. ABD ALQADER NANAA Prepared for the Consulting Office for the Middle East Risks and Solutions
مزيد من المنشورات
Share by: