المؤلف: Lukas Milevski
ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع
هذه ترجمة وتلخيص لدراسة Lukas Milevski، حول "ما الذي يجعل المفهوم الاستراتيجي جيداً"، والمنشورة عام 2023. تتناول هذه الدراسة أهمية تقييم جودة المفاهيم الاستراتيجية في العلوم الاجتماعية، وتقدم تحليلاً لآراء كل من غاري غويرتز وجون غيرينغ وجيوفاني سارتوري حول كيفية تحسين جودة المفاهيم. يركز النص على كيفية تطوير المفاهيم بشكل علمي وفعّال من خلال التقييم النقدي والتحليل المنهجي. كما يعرض النص كيفية بناء المفاهيم التي تسهم في تطوير النظريات الاستراتيجية والنماذج العملية في هذا المجال الأكاديمي.
المقدمة
تُعتبر جودة المفاهيم الاستراتيجية أحد الموضوعات الأساسية في الدراسات الأكاديمية والعسكرية، حيث تجمع بين جوانب النظرية والتطبيق. يتطلب فهم الاستراتيجية استكشافًا شاملاً للمتطلبات والتحديات التي تطرحها، بما في ذلك كيفية تحويل الأفكار الاستراتيجية من النظرية إلى التطبيق العملي. يُشير مفهوم "الاستراتيجية" إلى الجوانب التي تتعلق بالعلاقات بين القوة العسكرية والتأثير السياسي، وكذلك العلاقات بين الأعداء. مع ذلك، فإن مفهوم "الاستراتيجية" يتنوع حسب المدارس الفكرية والتطبيقات العملية، مما يجعل من الصعب تحديد تعريف شامل ومحدد.
صناعة المفهوم:
يُعاني علماء العلوم الاجتماعية من نقص في التركيز على جودة المفاهيم التي يستخدمونها في أبحاثهم، مما يؤدي إلى صعوبة في تقييم قيمة المفاهيم الحالية أو الجديدة. تناول قلة من العلماء هذا الموضوع، أبرزهم غاري غويرتز Gary Goertz، وجون غيرينغ John Gerring، وجيوفاني سارتوري Giovanni Sartori.
يعتبر غاري غويرتز Goertz أحد أبرز المساهمين في مناقشة جودة المفاهيم، حيث يرى أن المفاهيم تتضمن تحليلًا نظريًا وتجريبيًا للظواهر التي تشير إليها. يُميز غويرتز بين مدرستين لتعريف المفهوم: الاسمية، التي تعتمد كليًا على التعريفات المُعطاة، والواقعية، التي ترى أن المفاهيم تشمل خصائص أساسية تحدد جوهرها. حيث تُعتَبر المدرسة الواقعية أكثر فائدة، إذ تُفهم المفاهيم كـ "نظريات حول الوجود" تعكس العناصر الأساسية لظاهرة معينة.
ويقسم غويرتز المفاهيم إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأعلى هو المفهوم المركزي، والطبقة الوسطى التي تحتوي على خصائص ثانوية تشكل المفهوم، والمستوى السفلي الذي يربط هذه الخصائص بالأدلة التجريبية. وتعتبر الطبقة الوسطى مهمة لأنها تتضمن التفاصيل النظرية التي تقترح العلاقات بين الخصائص الرئيسية. كما يعرض غويرتز أيضًا نموذجين لبنية المفاهيم: المنطق الفلسفي الكلاسيكي الذي يتطلب استيفاء جميع الشروط لتطبيق المفهوم، وبنية "الشبه العائلي" الأكثر مرونة، التي تعتبر مجموعة من الخصائص يمكن أن تفي بها الظواهر الواقعية. بينما النموذج الكلاسيكي لا يزال سائدًا، فإن نهج الشبه العائلي قد يكون مفيدًا في السياقات الاستراتيجية.
فيما قدّم جون غيرينغ Gerring ثمانية مقاييس لجودة المفاهيم: الألفة، الجذب، الإيجاز، التماسك، التمايز، العمق، الفائدة النظرية، والفائدة الميدانية. حيث تشير الألفة إلى مدى معرفة الجمهور بالمفهوم، ويتعلق الجذب بجاذبية المصطلح، والإيجاز بمدى اختصار وتبسيط المصطلح. فيما يشير العمق إلى الصفات الضمنية التي تنشأ من تفاعل ميزات التعريف، كما يتعلق التماسك بمدى ترابط الميزات التعريفية، بينما يقيس التمايز مدى تميز المفهوم عن المفاهيم الأخرى.
وانتقد جيوفاني سارتوري Sartori بدوره انتقد ما أسماه "جنون الحداثة"، والذي يظهر من خلال إدخال مفاهيم جديدة دون الاعتبار للأفكار السابقة. حيث أشار إلى أن المعاني يجب أن تكون مستندة إلى التجارب التاريخية، وأن التغييرات في المفاهيم تحتاج إلى تبرير قوي يثبت عدم فقدان المعنى أو زيادة الغموض. وفضّل سارتوري المحافظة على المفاهيم القائمة ولكن حذّر من تحولها إلى تقليد غير متفكر.
الأبعاد البينية للاستراتيجية:
يحدد كولين جراي Colin S. Gray الأبعاد المختلفة للاستراتيجية، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات رئيسية:
- الأشخاص والسياسة: تشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية التي تؤثر على الاستراتيجية.
- التحضير للحرب: يتضمن هذا البعد الجوانب الاقتصادية واللوجستية، والتنظيم، والإدارة العسكرية، وجمع المعلومات، والنظرية الاستراتيجية والعقيدة، والتكنولوجيا.
- الحرب نفسها: يتناول هذا البعد العمليات العسكرية، القيادة، الجغرافيا، الاحتكاك، والتغير، والشك، والعدو، والوقت.
تؤثر كل فئة من هذه الفئات على التفكير والممارسة الاستراتيجية بشكل مختلف حسب السياق، حيث يعتقد بعض النقاد أن استخدام مصطلح "استراتيجي" في جميع هذه الأبعاد يمكن أن يخفف من قوة المصطلح ويجعله غير ذي معنى في بعض الأحيان.
الاختلافات بين المدارس الفكرية:
تختلف المدارس الفكرية حول كيفية تطبيق المفاهيم الاستراتيجية:
- ترى المدرسة الأولى، والتي تمثلها أعمال سون تزو Sun Tzu، أن الاستراتيجية يجب أن تقدم توجيهات واضحة ومباشرة حول كيفية شن الحرب وتحقيق النصر. وفقًا لهذه المدرسة، توفر الاستراتيجية مبادئ وإجراءات محددة يمكن اتباعها لضمان النجاح العسكري.
- من ناحية أخرى، تركز المدرسة الثانية، التي يمثلها كارل فون كلاوزفيتز Carl von Clausewitz، على تطوير فهم عميق للمبادئ الاستراتيجية من خلال دراسة نظرية الحرب وكيفية مواجهة التحديات غير المتوقعة. في هذه المدرسة، لا تهدف النظرية إلى تقديم خطوات عملية محددة، بل إلى إعداد القادة لمواجهة التحديات المستقبلية.
عمق المفاهيم الاستراتيجية:
يشير غارينغ Gerring إلى أن فائدة المفهوم تتعزز من خلال قدرته على "تجميع" الخصائص. ومع ذلك، فإن استخدام المفاهيم الاستراتيجية قد يكون معقدًا بسبب التفسيرات الضمنية التي قد تحد من التفكير الاستراتيجي. على سبيل المثال، مفهوم "حرب المنطقة الرمادية Gray-Zone" قد يفرض نمطًا متماثلًا من التفكير في مواجهة التهديدات، مما قد يكون ضارًا عندما تكون الاستجابة غير متوقعة أو غير متكافئة. وقد يؤدي التفسير غير المتوازن للمفاهيم إلى محدودية في التفكير الاستراتيجي، مما يؤثر في فعالية الاستراتيجية في الميدان.
الطبيعة النظرية للاستراتيجية:
تُفَصَّل النظريات الاستراتيجية إلى نوعين: الوصفية والتنبؤية. حيث تهدف النظريات الوصفية إلى تنظيم وتصنيف وشرح المفاهيم، مما يساعد في توقع المستقبل من خلال الانخراط النشط في النظرية. من جهة أخرى، تقدم النظريات التنبؤية تنبؤات محددة بناءً على إدخال كافة المتغيرات في النظرية. وفيما تكون النظريات الوصفية أكثر ملاءمة للسيناريوهات التي تتطلب التفاعل النشط مع النظرية لفهم كيفية تحقيق الأهداف الاستراتيجية، فإن النظرية التي تفتقر إلى دعم تجريبي أو منطقي قد تكون غير فعالة وقد تكون ضارة في بعض الحالات.
النظريات النظامية والآنية:
كما تُفَصَّل النظريات إلى نوعين: النظامية والآنية. إذ توفر النظريات النظامية إطارًا فكريًا يشمل المبادئ والقوانين التي تطبق بشكل منتظم. من ناحية أخرى، تطوِّر النظريات الآنية استجابة لتحديات أو أحداث محددة، وتكون مصممة للتعامل مع الوضع الحالي. يتمثل دور النظريات النظامية في توفير إطار عام لفهم الاستراتيجية، بينما تسعى النظريات الآنية إلى الاستجابة للتحديات الخاصة بمرونة وسرعة. وكلا النوعان لهما أهمية في فهم وتطبيق الاستراتيجية بفعالية.
مرحلة الترجمة الأولى: تطوير المفاهيم الآنية
تبدأ عملية نقل النظرية الوصفية إلى التطبيق بتطوير مفاهيم آنية استنادًا إلى النظرية النظامية. يتم استخدام المفاهيم الأساسية مثل "القيادة" أو "اللوجستيات" كإطار لتطوير مفاهيم آنية مصممة خصيصًا للسياق الحالي. على سبيل المثال، تم تطوير مفهوم "معركة جو-أرض Air-Land" استنادًا إلى مفهوم المستوى التشغيلي للحرب، لمواجهة تحديات محددة مثل احتمالية غزو السوفييت لأوروبا الغربية. يتطلب هذا التطور مرونة في استخدام المفاهيم الأساسية لتلبية متطلبات التحديات الخاصة.
مرحلة الترجمة الثانية: إنشاء نظرية النجاح الآنية
في هذه المرحلة، يتم تحويل مجموعة المفاهيم الآنية إلى نظرية نجاح آنية. تتطلب هذه المرحلة تجميع المفاهيم المختلفة من مصادر متعددة وتطوير نظرية متماسكة حول كيفية تحقيق النجاح. يجب أن تكون عملية إنشاء النظرية مدعومة بالنظرية النظامية، ولكن في الممارسة العملية، قد تكون غير منتظمة بسبب ضغوط الزمن والتحديات العملية. يتطلب هذا التحويل التفاعل بين النظرية النظامية والمفاهيم الآنية لتطوير نظرية متكاملة وفعالة.
مرحلة الترجمة الثالثة: تنفيذ النظرية من خلال الأوامر
المرحلة الأخيرة هي تحويل النظرية إلى أوامر عملية لتنفيذها على الأرض. يتضمن ذلك ترجمة متطلبات الاستراتيجية إلى أوامر تكتيكية وعملياتية ولوجستية. يجب أن تتيح الأوامر للضباط الميدانيين فهم كيفية تماشي إجراءاتهم مع الاستراتيجية الكبرى. ويعتبر التواصل الفعال بين مختلف فروع العلوم العسكرية ضرورياً لضمان تنفيذ الاستراتيجية بفعالية. كما يجب أن توفر الأوامر توجيهات واضحة حول ما يتوقع من التكتيكات والأداء التكتيكي لضمان تحقيق الأهداف الاستراتيجية.
معايير جودة المفاهيم الاستراتيجية:
تُقيَّم المفاهيم الاستراتيجية وفقًا لمعيارين رئيسيين: أكاديمي وعملي. حيث تركز المعايير الأكاديمية على تطوير مفاهيم دقيقة وصارمة، بينما تركز المعايير العملية على تمكين العمل الفعّال في الميدان. ويعتمد مدى التزام المفهوم بأحد المعايير على موقعه في عملية النقل من النظرية النظامية إلى الأوامر التكتيكية. وعلى الرغم من أن المفاهيم الأساسية للنظرية النظامية ضرورية للتفكير الاستراتيجي الفعّال، فإن الممارسة العملية تتطلب مفاهيم آنية مصممة خصيصًا للتحديات الحالية. كما أن التوازن بين النظرية العامة والمفاهيم العملية ضروري لضمان فعالية الاستراتيجية في التطبيق العملي.
التأثير المتبادل بين المفاهيم والنظريات
يجب أن تتكامل النظرية النظامية والمفاهيم العملية بشكل فعال لتحقيق نجاح الاستراتيجية، حيث أن التفاعل بين جميع مراحل النقل وجميع مستويات المفاهيم والنظريات أمر لا مفر منه. بينما يمكن أن تكون المفاهيم الآنية ضارة إن تم تطويرها دون إطار نظري عام، إذ تكون مفيدة عندما يتم دمجها بشكل صحيح مع النظرية النظامية. ويتطلب النجاح الاستراتيجي التوازن بين النظرية والتطبيق، مع الاستفادة من كلا النوعين لتحقيق الأهداف الاستراتيجية بفعالية.
للاطلاع على الدراسة الأصلية:
Lukas Milevski, "What makes a good strategic concept?" Comparative Strategy
(Leiden: Institute for History, Leiden University, 2023, VOL. 42, NO. 5), pp. 718–728