د. عبد القادر نعناع

النظام القديم/الجديد للشرق الأوسط: زيارة بايدن واستمرار الإخفاق الأمريكي في المنطقة

د. عبد القادر نعناع • ٢٦ أغسطس ٢٠٢٢
مارك لينش
ترجمة: عبد القادر نعناع

 
لم تسفر زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، شهر يوليو/تموز الماضي، عن نتائج مبهرة بقدر ما أسفرت عن تذمر واضح. وأثبتت أن المكاسب التي حصل عليها بايدن لقاء قبضته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تكاد لا تذكر. إذ لم تلتزم السعودية بزيادة إنتاج النفط، ولم يتم الإفراج عن أي من المعارضين، ولم تظهر مسائل حقوق الإنسان إلى العلن، إلا عندما رفض الأمير محمد بن سلمان الانتقاد الموجه له بخصوص مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وذلك عبر الإشارة إلى الصمت الأمريكي تجاه مقتل شيرين أبو عاقله، الصحفية الفلسطينية الأمريكية التي قُتلت في مايو/أيار الماضي في الضفة الغربية على يد الجيش الإسرائيلي، كما لم تعلن السعودية عن تحركات واسعة نحو التطبيع مع إسرائيل، ولم يتبلور تحالف أمني جديد في المنطقة.

لكن على ما يبدو، فإن لدى إدارة بايدن طموحات أوسع من تلك الزيارة، لا يمكن رصدها من خلال ملاحظة سجل الإنجازات قصيرة الأجل. حيث تعتقد الإدارة الأمريكية أنها بحاجة إلى إعادة العلاقات مع السعودية والحلفاء الإقليميين الآخرين، والعمل من منظور مصلحتهم في التعامل بشكل أفضل مع مجموعة متنوعة من القضايا. ما زاد في إلحاح هذه النظرية، هو احتمال الإخفاق الوشيك لمفاوضات إحياء اتفاقية نووية مع إيران، فضلاً عن الصدمات الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. في حين أن الشائعات الإعلامية التي سبقت الزيارة حول إنشاء تحالف عسكري رسمي مع الدول العربية وإسرائيل، وأن القصد من الرحلة هو دفع المنطقة نحو نظام إقليمي جديد قائم على التعاون الإسرائيلي العربي ضد إيران، بتوجيه من الولايات المتحدة، لم تكن سوى تصريحات سابقة لأوانها. ورغم أن الزيارة أنجزت بعض الخطوات الصغيرة في هذا الاتجاه، لكن لا يبدو أن هذه الإجراءات قادرة على زيادة مستوى الاستقرار الإقليمي، ولن تكون البنية الأمنية التي تصورتها الإدارة جديدة قابلة للتحقق حالياً.

يتنامى اصطفاف إسرائيل مع الدول العربية ضد إيران منذ عقود، فيما جعلت اتفاقات أبراهام، التي تم التوصل إليها تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، التعاون رسمياً وعلنياً، وأزالت صراحة مسائل فلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة. وفي ذات الوقت، تراهن الولايات المتحدة على قدرة الدول العربية الأتوقراطية على تبني نظام إقليمي يشمل إسرائيل، دون القلق بشأن كيفية استقبال الجماهير العربية لهذه السياسات. لكن هذه مخاطرة في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في معظم أنحاء المنطقة، ومن المرجح أن تأتي بنتائج عكسية، كما حدث في الماضي.

طالما كان ضبط نظام إقليمي في الشرق الأوسط، بقيادة الولايات المتحدة، سلوكاً أمريكياً (أشبه بالتسلية) منذ عام 1991، عندما نجحت الولايات المتحدة بقيادة عملية عسكرية لإخراج صدام حسين من الكويت. لكن الشرق الأوسط الحالي لم يعد يأتمر بأوامر واشنطن كما كان حينها. حيث أصبح قادة الشرق الأوسط، أكثر تحوطاً في المراهنة على الولايات المتحدة، في وقت يُلاحِظ فيه هؤلاء القادة صعود عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، وهذا واضح في رفضهم الانحياز مؤخراً إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا.

لكن إن نجح بايدن وبشروطه، في خلق تحالف إقليمي رسمي موجه ضد إيران، يضم إسرائيل والأنظمة الأوتوقراطية العربية، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تكرار أخطاء الماضي. وقد يقود إلى تسريع الانهيار التالي للنظام الإقليمي من خلال عكس مسار التقدم نحو خفض التصعيد، وتشجيع القمع المحلي، وتمهيد الطريق للجولة التالية من الانتفاضات الشعبية.

 
ميثولوجيا/أساطير عام 1991

يمكن اعتبار السلوك الأمريكي القائم على إقامة نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة، هو سلوكي جيني في تكوين السياسات الأمريكية. وعلى وجه الخصوص، هناك جيل من صنّاع السياسة الخارجية الأمريكية، ينظر إلى عام 1991 والنظام الإقليمي الذي تم بناؤه في الشرق الأوسط آنذاك، باعتباره النموذج الأمثل الذي يجب محاكاته. من السهل معرفة أسباب هذه النظرة، وخصوصاً أن تلك الحقبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، كانت تمثل ذروة تفوق الولايات المتحدة على العالم. وقد بدأت فعلياً بعد تدخل الولايات المتحدة عامي 1990-1991 لعكس نتائج احتلال العراق للكويت. وأطلقت إدارتي جورج بوش الأب وبيل كلينتون جهوداً طموحة لإعادة ربط المنطقة بالقطبية الأحادية للولايات المتحدة، والحفاظ على نظام إقليمي ملائم لمصالح الولايات المتحدة.

وللحظة وجيزة من التاريخ، كانت كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. إذ أطلقت الولايات المتحدة عملية السلام في مدريد لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولإنشاء نظام إقليمي بقيادة الولايات المتحدة، يمكن أن يشمل كلاً من إسرائيل والدول العربية. فيما بحث حلفاء السوفييت السابقون –مثل سورية– طرق الدخول إلى هذا النظام الجديد، من خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل. حتى إيران –المنهكة من عقد من الحرب مع العراق– سعت هي الأخرى إلى إعادة بناء علاقاتها بأوروبا ودول الخليج، وإطلاق "حوار الحضارات" في الأمم المتحدة، واتخاذ خطوات محدودة في التعاون مع واشنطن، بل والتراجع عن سياستها التدخلية في الإقليم.

ولفترة وجيزة، ظهرت أسس معيارية إيجابية أخرى، إلى جانب الأساس العسكري، لنظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة. تمثل ذلك في شرعية العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير الكويت، والتي كانت عملية متعددة الأطراف حقاً، في ظل شرعية ممنوحة من مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية. كما قدّم الاستثمار الأمريكي المكثف في صنع السلام العربي-الإسرائيلي بعد عام 1991، والإشراف على عملية أوسلو للسلام، رؤية إيجابية محتملة لمستقبل الشرق الأوسط.

لكن تلك الأسس المعيارية لم تتجذر في البيئة الإقليمية، وثبتت صعوبة إدارة النظام الإقليمي المتصور. ورغم الحنين العميق لواشنطن إلى الشرق الأوسط إبان التسعينيات، لكن تلك الفترة لم تكن كما تُصوِّرها الميثولوجيا/الأسطورة الأمريكية. حيث فشل النهج الأمريكي لعام 1991 في إنتاج نظام إقليمي مستقر وشرعي بقيادة الولايات المتحدة، حتى عندما كانت في ذروة قوتها العالمية، وهو ما يزودنا بدروس بالغة الإفادة اليوم.

 
لا شيء يمكن استعراضه

لم يقم النظام الإقليمي بعد عام 1991 بإدارة نفسه بنفسه، فيما تطلبت سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق إنشاء قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة في جميع أنحاء المنطقة، وخاصة في الخليج العربي. كان هذا تحولاً هائلاً عن السياسة الأمريكية في العقود السابقة، التي قامت على أساس الموازنة الخارجية للإقليم، من خلال مراقبة المنطقة، واستخدام حلفائها المحليين، وتجنب إقامة قواعد عسكرية دائمة واسعة النطاق. شمل هذا التحول، تكريس قدر غير متناسب من الطاقة الدبلوماسية لمشاكل المنطقة، حتى بدا أن كل أزمة في الإقليم تتطلب اهتماماً أمريكياً أكبر. وأدت سياسة التعامل مع الأزمات التي لا نهاية لها بهذه الطريقة، إلى تجاهل أو حتى تعزيز الأنظمة الأوتوقراطية التي كان من شأنها أن تقوض النظام الإقليمي في نهاية المطاف.

في قلب تلك السياسات الأمريكية، كانت عملية احتواء العراق، التي تطلبت الحفاظ على نظام عقوبات صارم وغير مسبوق تاريخياً. لكن حرمان العراق من وارداته وصادراته كان بدوره مسؤولاً عن أعداد لا حصر لها من الوفيات المتزايدة، ومسؤولاً عن البؤس الإنساني الذي قوّض بشدة الادعاءات الأخلاقية الأمريكية، بنظر العرب.

في حين أدت الاشتباكات حول عمليات التفتيش على الأسلحة إلى أعمال عسكرية متكررة، منها مثلاً عملية ثعلب الصحراء، والتي كانت عبارة عن حملة قصف لأهداف عراقية استمرت أربعة أيام نفذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 1998. لكن في النهاية، لم تنجح تلك الجهود، واستغل صدام برنامج النفط مقابل الغذاء التابع للأمم المتحدة لتأمين نظامه، فيما تآكل الامتثال الإقليمي للعقوبات الدولية.

ورغم المجهود الدبلوماسي، فشلت الولايات المتحدة في الوفاء بوعدها بتحقيق سلام إسرائيلي–فلسطيني. ورغم أن إدارة كلينتون بذلت جهداً في المفاوضات، لكنها لم تتمكن من التغلب على تداعيات اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين عام 1995، أو الموجات المتتالية من إرهاب حماس، أو التوسع الإسرائيلي المستمر في سياسة الاستيطان في الضفة الغربية. وبالمثل، فشلت واشنطن في تحقيق سلام إسرائيلي-سوري.

كما شهد عقد التسعينيات أيضاً، التقليل من أهمية الديمقراطية في المنطقة، خوفاً من فوز الإسلاميين في صناديق الاقتراع. وبدلاً من ذلك، تظاهرت واشنطن بالاعتقاد بأن الحكام العرب الأوتوقراطيين سيعملون على تطوير المجتمعات المدنية لتهيئة شعوبهم ليكونوا على أهبة الاستعداد للديموقراطية الحقة يوماً ما. هذه بالطبع، هي نفس الحجة التي ساقتها وتسوقها معظم الأنظمة الأوتوقراطية العربية اليوم، وهو ادعاء لم يُظهر فريق بايدن أي جهد للتشكيك فيه. إذ تمت مقايضة الترويج للديمقراطية بالحصول على نظام إقليمي مستقر وترسيخ الأوتوقراطية العربية بكل عللها. وعليه، لم يكن من قبيل الصدفة أن عقد التسعينيات كان أيضاً فترة تمرد إسلامي في مصر والجزائر وفترة حضانة القاعدة.

محصلة ذلك، أن الأيام المجيدة لقيادة الولايات المتحدة للشرق الأوسط، هي أقل بكثير مما تبدو عليه. حيث فشلت جهود احتواء العراق، وفشلت الجهود الأمريكية لتأمين سلام عربي-إسرائيلي. ولم تفلح أطروحة بناء شروط الديمقراطية من خلال العمل مع الأوتوقراطيين العرب. وعليه يمكن القول إن بروز دور الولايات المتحدة في كل هذه الإخفاقات، جعلها هدفاً جذاباً للقاعدة، والتي حولت نشاطها من "العدو القريب" إلى "العدو البعيد" في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

 
تكرار الأخطاء

حاولت كل الإدارات الرئاسية التي أعقبت كلينتون، إعادة تصميم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، شرعت إدارة جورج دبليو بوش في استراتيجية التفوق الأمريكي، ليكون محور هذا النظام الإقليمي الجديد هو "الحرب العالمية على الإرهاب"، والتي تضمنت في الشرق الأوسط تعاوناً وثيقًا بين الولايات المتحدة وأجهزة الأمن الإقليمية، وتوسيعًا هائلًا وتدخلياً للوجود الأمريكي في المنطقة. لكن غزو العراق للإطاحة بصدام، أثبت بكل تأكيد مدى كارثية هذا النهج الذي خلق فراغاً من الاستقرار في قلب الشرق الأوسط. وأطلق الاحتلال الأمريكي للعراق العنان للطائفية المتوحشة، ومكّن كلاً من إيران والحركات الجهادية السنية مثل الدولة الإسلامية الوليدة، وتسبب في تدفق ملايين اللاجئين. وحيث استنفدت حرب العراق الرغبة والقدرة الأمريكية على العمل عسكرياً في الشرق الأوسط، فإنها انتهت بانتصار إيران الباهظ –إلى حد ما– وتمكنها من ترسيخ حلفائها في مواقع مهيمنة في الدولة العراقية.

تلك الفوضى، هي ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس خلال ذروة حرب إسرائيل على لبنان "الشرق الأوسط الجديد"، ورغم أنه كان عنيفاً وتنافسياً مفرطاً، لكن من الناحية الهيكلية هو مشابه تماماً لما هو عليه الشرق الأوسط اليوم.

فمن جهة، كان هناك ما أسماه المسؤولون الأمريكيون "محور المعتدلين"، والذي شمل إسرائيل ومعظم الدول العربية تحت المظلة الأمنية الأمريكية، في مقابل "محور المقاومة" الذي شمل إيران وسورية والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حماس وحزب الله. وغالباً ما يتم تجاهل حقيقة أن وسائل الإعلام المملوكة للسعودية دعمت في البداية هجوم إسرائيل عام 2006 على حزب الله، بسبب كراهيتها للحركة الشيعية المدعومة من إيران، إلى أن أجبرها رد عام معادٍ على تغيير خطها التحريري. فيما قادت عدم شعبية التدخل الأمريكي، مثل الحروب في العراق وأفغانستان، إلى تعظيم مكاسب تركيا وقطر السياسية، من خلال التصرف كدول متأرجحة الموقف، متخذة مواقف أكثر انسجاماً مع الرأي العام العربي بشكل عام.

بدوره، قدّم الرئيس باراك أوباما، رؤية مختلفة حقاً للنظام الإقليمي، تستند إلى خلق توازن قوى مستقر وقابل للتطبيق بين إيران وجيرانها، من خلال الدبلوماسية النووية، وتقليص الوجود العسكري الأمريكي. لكن إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة، جميعها، عارضت عملياً كل ما حاولت إدارة أوباما تطبيقه، بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني، ونظروا إلى مشروع أوباما على أنه النقيض لحالة الازدهار التي تشهدها دولهم في تلك الآونة.

لم ترغب دول الخليج العربي مشاركة المنطقة مع إيران (كما اقترح أوباما)، ولم تكن راغبة فيما اعتبرته أفكار أوباما الهرطقية حول تبني الديمقراطية وانتفاضات الربيع العربي. في الوقت نفسه، عارض القادة الإسرائيليون أفكار أوباما حول استئناف مفاوضات السلام التي من شأنها أن تعمل على إنشاء دولة فلسطينية، بل وعارضوا بشكل أكبر فكرة أن حل الدولتين سيكون ضرورياً لإقامة علاقات مع الدول العربية. كما أثبتت إيران أيضاً أنها غير راغبة في تعديل سياساتها الإقليمية بشكل هادف والتوقف عن استخدام وكلاء للقتال في أماكن مثل العراق وسورية واليمن بعد توقيع الاتفاق النووي. جميع هذه المواقف، أدت هذا إلى تقويض جهود أوباما في صياغة نظام إقليمي جديد.

وهذا يفسر سبب ترحيب إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة –مثل العديد من القادة العرب الآخرين– بعودة إدارة ترامب إلى نموذج بوش الابن: "الشرق الأوسط الجديد". حيث تبنى ترامب وجهات نظرهم على أنها وجهة نظره هو، وتوقف عن الضغط على الدول العربية بشأن سجلاتها الحقوقية، أو دفعها لحل القضية الفلسطينية. كما تخلت إدارته عن الاتفاق النووي الإيراني، وواصلت بدلاً من ذلك ما وصفته بحملة "الضغط الأقصى" على إيران. لكن مرة أخرى، جاءت محاولات فرض نظام إقليمي بنتائج عكسية، إذ شجع احتضانه الشديد لهذه الدول العربية وإسرائيل على أسوأ غرائز تلك الحكومات، بما في ذلك التدخل العدواني الذي أدى بشكل حتمي إلى تسريع الحروب الأهلية وفشل الدولة في جميع أنحاء المنطقة، من اليمن إلى ليبيا وسورية. وأدى القمع المتصاعد داخل تلك الدول، إلى زيادة عدم الاستقرار الداخلي وخطر تجدد الانتفاضات، بينما أدى تسارع سياسة إسرائيل في مصادرة الأراضي الفلسطينية إلى حدوث أزمات متكررة.

كما ثبت أن تبني ترامب لنهج "الشرق الأوسط الجديد" له حدود، وهو ما أثار استياء الحلفاء الإقليمين. وخصوصاً مع رفض ترامب الرد على إيران بعد هجومها غير المسبوق على منشأتين نفطيتين رئيسيتين داخل السعودية عام 2019، وأشار ذلك إلى أن الشرق الأوسط بات مسألة تقع مسؤوليتها على حكمة قادة المنطقة. كان هذا بمثابة إثبات بأنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على العلاقة المتينة بالإدارة الأمريكية للرد عسكرياً على مثل هذا الهجوم العدواني، فهل يمكن الوثوق بأي ضمانات أمنية أمريكية؟

 
لا أحاديث منمقة بعد الآن

يُظهر مفهوم بايدن للمنطقة أن هذه الرؤية للنظام الإقليمي ما تزال قائمة بين قادة المنطقة وفي دوائر السياسة في واشنطن، على الرغم من كل الصراع والبؤس الإنساني الذي ولّدته. لقد تكيفت الأنظمة العربية بشكل فعال في مواجهة مطالب واشنطن، وأثبتت فعاليتها في صد أي جهود أمريكية لتغيير السياسات. ورغم أن أعضاء فريق بايدن هم –في غالبهم– تمت صناعتهم من قبل إدارة كلينتون، ويعتقدون أنهم تعلموا الدروس الصحيحة من سنوات أوباما وترامب، لكن من المفارقة أن الشرق الأوسط الذي يأملون في تصميمه، يشبه بدرجة أكبر النظام الإقليمي الذي حاوله الرئيس جورج دبليو بوش الوصول إليه.

ولعل الفارق بين نموذج بايدن عن نموذج بوش الابن، هو ما تخلى عنه بايدن: "أجندة الحرية". ربما يكون بوش قد تخلى عن أفكار الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط بمجرد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، لكن خطاب إدارته حول التغيير الديمقراطي في المنطقة، قدّم على الأقل بعض الرؤية الإيجابية للنظام الإقليمي. في المقابل، فإن بايدن، في رحلته الأخيرة إلى السعودية، تخلى عن ذلك تماماً. وهذا ما يمكن اعتباره مفهوم بايدن لإدارة تريد إصلاح العلاقات مع القادة العرب وتجنب أي شيء قد يثير استعداءهم. لكن لها تكاليف حقيقية يتم التضحية بها.

كانت الأوتوقراطيات العربية الملاط الذي ربط النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة خلال عقدي التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن. فيما أدت الانتفاضات العربية عام 2011 إلى تفكيك هذا الرابط بطريقة لم يتم استيعابها كاملة بعد. ولم يتم إنتاج تحولات ديمقراطية مستدامة في أي مكان في العالم العربي، فيما حسم الانقلاب الرئاسي في تونس في يوليو/تموز 2021 مصير واحدة من التجارب القليلة التي ظهرت.

ويسعى الأوتوقراطيون العرب اليوم، إلى إقناع واشنطن، بأنهم قد استعادوا النظام القديم كاملاً، وأن الديمقراطية أصبحت ملفاً غير قابلة للنقاش، وأنهم استعادوا سيطرتهم بشكل حازم. في حين أن المؤشرات الاقتصادية الكئيبة في معظم المنطقة، والتي تفاقمت بسبب كوفيد -19 وحرب روسيا في أوكرانيا، والانفجارات المتكررة للحشود الشعبية في أماكن غير متوقعة مثل الجزائر والعراق ولبنان والسودان، تشير إلى أن تصوراتهم هذه ما هي إلا تصورات مضللة.

 
عالم مختلف

وبغض النظر عن احتمالية اندلاع انتفاضات شعبية جديدة، تبدو المنطقة اليوم مختلفة تماماً عن تلك المرحلة السابقة للنظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة. إذ أصبح الشرق الأوسط متعدد الأقطاب داخلياً، وتحولت مراكز القوى العربية عن المناطق التقليدية في قلب العالم العربي (بلاد الشام ومصر) باتجاه دول الخليج العربي، واشتركت دول غير عربية مثل إسرائيل وإيران وتركيا بشكل متزايد في معادلات القوة هذه. بينما أدى انعدام أمن النظام –بشكل وجودي– أعقاب صدمة عام 2011، إلى جانب انتشار الدول الفاشلة والحروب الأهلية، إلى تغيير منطق التدخل وتغيير ميزان القوى في المنطقة. بينما أدى رفض أوباما التدخل المباشر في سورية، ورفض ترامب الرد على الهجمات الإيرانية على المنشآت النفطية السعودية، وانسحاب بايدن من أفغانستان، إلى تغيير وجهة نظرة القادة العرب في الولايات المتحدة كضامن للأمن في المنطقة.

وعليه، لا يمكن اعتبار الفترة الحالية، فترة هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لكن هذا لا يعني أن هناك ما يشبه القطبية الثنائية الجديدة أو حتى التعددية القطبية في العالم. إذ لطالما كانت روسيا مُفسِدَة أكثر من كونها قطباً منافساً لقوة الولايات المتحدة، فيما تستهلكها حالياً حربها في أوكرانيا. وبدروها، لم تقدّم الصين بعدُ محاولة لترجمة وجودها الاقتصادي المتنامي بسرعة، إلى نفوذ سياسي أو عسكري، وفي الغالب، تشارك الصين الولايات المتحدة المصالح الأساسية مثل الحفاظ على تدفق النفط من الخليج.

ولكن حتى مع عدم وجود منافس حقيقي، فإن الولايات المتحدة، ببساطة، لا تملك الموارد أو القدرات السياسية للعب دور المهيمن في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، لم تعد القوى الإقليمية تعتقد أن الولايات المتحدة تستطيع أو ستعمل عسكرياً للدفاع عنها. إذ علّمت الانتفاضات العربية هؤلاء القادة الأوتوقراطيين أن واشنطن لا تستطيع ضمان بقاء الأنظمة التي تعمل من أجل المصالح الأمريكية. وعليه لا يمكن اعتبار مواقفهم القومية، وشكواهم المتزايدة من تخلي واشنطن، أنها مجرد موقف مساومة تهدف إلى تأمين المزيد من الأسلحة الأمريكية والدعم السياسي. بل مواقف هي تعكس القدرات المتزايدة للدول العربية ومشاعرها العميقة بعدم الأمان، ولن تثمر المحاولة غير الفعالة لطمأنة هذه الدول، فشكوكهم عميقة للغاية، في وقت يبدو فيه أن القدرات الأمريكية والإرادة السياسية غير كافية بشكل واضح.

يبدو هذا المشهد سيئاً، لكن لا يجب أن يكون كذلك. فبدلاً من محاولة إعادة بناء نظام تآكلت أساساته بشكل لا يمكن إصلاحه، فإن النهج الأفضل هو تشجيع التحركات التي تتخذها الدول بمفردها لتهدئة التوتر الإقليمي في غياب القيادة الأمريكية.

فخلال العام الماضي، أعادت دولة الإمارات بناء علاقاتها مع قطر وتركيا، فيما سرى وقف إطلاق النار في ليبيا واليمن، وعقدت السعودية محادثات أولية مع إيران. لذا فإن تحركات الولايات المتحدة لبناء جبهة موحدة ضد إيران –تصعيد مبيعات الأسلحة وإعادة تأكيد الضمانات الأمنية–، يمكن أن تكون ذات نتائج عكسية للغاية لهذه الجهود المحلية. فكلما تحركت واشنطن لتوسيع التزاماتها العسكرية والسياسية لقيادة نظام إقليمي جديد، كان من المرجح أن تصبح المنطقة أقل استقراراً.

تعاني المنطقة من اضطراب عميق منذ عام 2011، وتعتبر مشاكلها كثيرة. لكن كيفية إعادة بناء نظامها الإقليمي له عواقب وخيمة، وستسهم مفاهيم النظام القديمة بسرعة في مزيد من الفشل. إذ أصبح الخليج اليوم، منطقة أكثر استقلالية، وأصبحت دوله العربية مستعدة وقادرة على التصرف دون اعتبار لقوة عظمى راعية لهم.

لكن خارج عدد قليل من دول الخليج الثرية، تعد المنطقة أيضاً مزيجاً من العمليات العسكرية ومكاناً بالكاد يستطيع فيه الأوتوقراطيون التمسك بالسلطة في مواجهة مشكلات اقتصادية هائلة ومتفاقمة. وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الأخير، استمرت الصراعات في ليبيا وسورية واليمن في الاشتعال، ويمكن أن تشتعل في أي وقت. فيما يسعى الحكام الأوتوقراطيون والملوك في جميع أنحاء المنطقة لترويج فكرة الاستقرار واستعادة الحالة الطبيعية، لكن واقع الظروف الاقتصادية والسياسية على حد سواء اليوم، أسوأ مما كان عليه عشية انتفاضات 2011.

كما أنه في ظل غياب أي أمل في حل الدولتين أو أي قيود دولية جادة على الاحتلال الإسرائيلي، فإن توسع إسرائيل المستمر في الضفة الغربية والحصار المستمر لغزة يمكن أن يؤدي إلى أزمة أخرى في أية لحظة.

بدورها، فإن الولايات المتحدة نفسها في حالة من الفوضى، ويستنزفها الاستقطاب والتنافس السياسي الداخلي، فيما تخلت إلى حد كبير، حتى عن التظاهر، بتعزيز الديمقراطية أو حقوق الإنسان.

وفيما يجادل المدافعون في إسرائيل والخليج بأن اتفاقيات أبراهام توفر رؤية للمنطقة يمكن بناء نظام حولها، لكن كل الأدلة تشير إلى أن الجمهور العربي يرفض بأغلبية ساحقة فكرة التطبيع مع إسرائيل دون حل للقضية الفلسطينية. ما يعني بناء نظام إقليمي يعتمد على أنظمة أوتوقراطية لقمع الرأي العام بدلاً من بناء نظام تحكمه الشرعية خارج القصور، لن يكون مستقراً أو وثابتاً.

سيكون من السخرية حقًا، إن انتهى هذا النظام الإقليمي كما انتهى النظام الإقليمي لكلينتون في التسعينيات، عبر حرب غير ضرورية وكارثية. إذ أدى انسحاب ترامب أحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018 إلى تقويض جهود أوباما لبناء نظام بديل، ولم يستطع بايدن التغلب على التداعيات السلبية لذلك. ومع طي الاتفاق النووي الإيراني، بات من السهل جداً تصور الانزلاق نحو مشروع أمريكي يهدف إلى شن حرب لتغيير النظام في إيران. من المؤكد أن بايدن تجنب مناقشة استخدام القوة ضد إيران، كما أن انسحابه من أفغانستان يعطي بعض المصداقية لتصميمه على تجنب حرب أخرى واسعة النطاق، لكن الضغط لاتخاذ إجراء حاسم سيزداد مع تضييق الخيارات إلى: قبول إيران نووية، أو العمل عسكرياً لمنعها. إن المسار الذي يسلكه بايدن لإعادة بناء النظام الإقليمي يجعل هذه النتيجة الكارثية أكثر احتمالية.

 

الكاتب: البروفيسور مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن

المترجم: د. عبد القادر نعناع، باحث وأكاديمي مختص بالشرق الأوسط والعلاقات الدولية.

للاطلاع على النص الأصلي، انظر:

 

Marc Lynch, "The New Old Middle Eastern Order: Biden’s Trip Shows Why Washington Is Still Getting the Region Wrong", Foreign Affairs, July 26, 2022:

https://www.foreignaffairs.com/united-states/new-old-middle-eastern-order
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٨ فبراير ٢٠٢٥
يشهد الشرق الأوسط مرحلة جديدة من اختلال توازن القوى الإقليمي، الذي تتسابق فيه كل من تركيا وإسرائيل لتصحيح هذا الخلل بما يعزز مكانتهما الإقليمية. ربما تكون إسرائيل الأكثر فعالية في ذلك، حيث أنها هي المتسبب الأكبر بهذا الخلل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وخلال عام واحد، استطاعت كسر المحور الإيراني في اثنتين من محطات ارتكازه شرق أوسطياً (لبنان وسورية)، وبالتالي أحدثت فراغاً استراتيجياً غير معتاد، يحتاج إلى كثير جهد لملئه. عموماً، يشهد الشرق الأوسط ما نسميه (التغييرات العَقْدِية: أي أن هناك تغييرات كبيرة كل عقد من الزمن)، وهذه التغييرات تكون بناء على ما سبق وتأسيساً لما سيلي. لكن التغييرات هذه المرة كانت أكبر بكثير، وهي شبيهة بوقع احتلال العراق. وربما تكون أكبر من ذلك، فمنذ احتلال العراق عام 2003، اشتغلت إيران على بناء شرق أوسط إيراني سيمتد حتى صيف 2024، كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، والحراك العسكري الأكثر انتشاراً، والمكاسب الأكثر استراتيجية. وبالتالي، فإن ما حصل منذ اغتيال نصر الله في أيلول/سبتمبر 2024 وهروب الأسد في كانون الأول/ديسمبر، هو انهيار الشرق الأوسط الإيراني، وبداية شرق أوسط إسرائيلي سيتم تأسيسه خلال سنين قادمة. ولكل شرق أوسط لزومه الخاص بقيامه، ومن لزومه تصفية كل ما يتعلق بالمشروع الإيراني، وهنا لا نعني تصفية النظام الإيراني، بل إخراجه من معادلات القوة شرق الأوسط، عبر إخراجه من المرتكزين الآخرين: العراق واليمن أولاً ، وإعادة إيران إلى ما دون مرحلة توازن الرعب (التوازن النووي الوشيك) لضمان التفوق النووي الإسرائيلي، وإيجاد وكلاء جدد للشرق الأوسط الإسرائيلي، ومن ذلك كان تصفية كل عناصر القوة العسكرية لسورية ما بعد الأسد (تدمير أكثر من 80% من قوتها العسكرية)، وهو ما قد يحتاج إلى سنوات من الاستهداف المستمر (ضربات جوية، اغتيالات، تخريب، دعم قوى محلية، تحشيد دولي)، قبل الوصول إلى مرحلة "السلام الإسرائيلي Pax Israeliana"، ونشك في إمكانية الوصول إلى هذا النمط من السلام (حيث تعيش إسرائيل آمنة تماماً على ذاتها ومصالحها)، حيث أن إسرائيل تسعى لفرض هذا السلام دون أية تسويات فعلية لتعقيدات الشرق الأوسط التي تسببت بها. وفيما يستند نتنياهو إلى مشروع شخصي بالغ التطرف منذ 2023، فإنه الآن يستند إلى ترامب صاحب المشاريع المتطرفة الأخرى في المنطقة (صفقة القرن، اتفاقات أبراهام، نقل السفارة، الاعتراف باحتلال الجولان، حملة الضغط الأقصى)، وبالتالي يشكل ترامب عامل تحفيز أكبر لتعزيز الشرق الأوسط الإسرائيلي، سواءً في الطرح المتطرف المتعلق بتهجير سكان غزة، أو بدء عمليات عسكرية غير محدودة في الضفة الغربية، أو فرض توجهات شرق أوسطية تتفق مع بناء أمن إسرائيلي جديد. وربما يكون من سمات هذا الشرق الأوسط، طي صفحة استخدام القوى العسكرية دون الدولة (الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى)، والعودة إلى العمل ما بين الحكومي في المنطقة، لكن ذلك لا ينفي أن لإسرائيل مطامع ما تزال حاضرة في تفتيت المنطقة ما استطاعت إلى ذلك، وخصوصاً مع سلوكها العلني تجاه سورية ولبنان. ولا يعني أن إسرائيل ستشتغل على تحقيق شرق أوسطها كما فعلت إيران (عبر ميليشياتها)، بل هي أكثر حاجة إلى وجود كلاء شرق أوسطيين يتولون هذه المهمة، ومع صعوبة تشكيل ميليشيات على النمط الإيراني، فإن أمام إسرائيل نمطين آخرين: تعزيز النزعات الانفصالية كما تفعل مع قسد في شرق سورية، أو الاعتماد على حكومات شرق أوسطية مقابل منافع وضمانات أمنية واقتصادية، ومن غير الواضح بعد أي النمطين أكثر إمكانية (وإن كنا نرجح النمط الثاني أكثر). ورغم ما يظهر من رفض عربي معلن حول مشروع تهجير سكان غزة، لكن لا حدود لتطرف محور نتنياهو-ترامب، وبالتالي تبقى قدرة الدول العربية على التأثير الحقيقي محدودة، وإن كان طرح ترامب بجعل غزة منطقة استثمار سياحي وتهجير سكانها داخلياً أو خارجياً قد يكون نوعاً من بوالين الاختبار لقياس مدى قدرة ترامب على الضغط على شركائه في الشرق الأوسط، وخصوصاً مع رفض فلسطيني-عربي لأية عمليات تهجير من غزة، تبقى قدرة الدول العربية على فرض موقف موحد فعّال موضع تساؤل، خاصة في ظل الانقسامات الداخلية والتباين في المصالح بين العواصم العربية، فيما قد تحمل زيارة ترامب المرتقبة للسعودية تبياناً للتوجهات القادمة. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ فبراير ٢٠٢٥
عميد كلية العلوم السياسية في جامعة الزيتونة الدولية الدكتور السوري عبد القادر نعناع تحدث لـ «القدس العربي» عن مجموعة من الهواجس التي قد تكون مشتركة بين مصر وسواها من دول عربية أو غربية، لكن ما يجعل الموقف المصري أكثر تعقيدا من وجهة نظره «بنية العقل السياسي المصري التقليدية أولاً، والعسكرية الأمنية ثانياً، والمستندة إلى حالة قلق مفرط من حراك أي طرف من قوى الإسلام السياسي ثالثاً». وقال نعناع: مصر، كغالبية الدولة العربية، لا تتفق مع التغييرات الراديكالية في نظم الحكم العربية، وإن كانت دول الخليج كذلك، لكن الشبه الجمهوري – العسكري يجعل مصر أكثر حساسية للتغيير الحاصل في سوريا. ورغم أن مصر لم تكن على وئام مع نظام الأسد، ولم تكن على عداء كذلك، بل يمكن وصف العلاقة بأنها مجمدة، بل ولم تبادر مصر إلى كسر هذا الجمود مع نظام الأسد كما فعلت السعودية والإمارات، لكنها في الطرف الآخر استقبلت مئات آلاف السوريين (لأسباب إنسانية، وليس لأسباب سياسية) دون أن يعني ذلك أي علاقة مع قوى المعارضة السورية منذ يونيو/حزيران 2013. وتحدث الخبير في العلاقات الدولية عن تجربة مصر الراهنة التي «تستند إلى صدام مع الإسلام السياسي المتمثل في حركة الإخوان المسلمين، ولا تزال الدولة المصرية تلاحق بقايا عناصر الحركة، فإن ذلك يجعل تقبل حركة إسلام سياسي في دولة عربية أخرى غير مقبول للقيادة المصرية، عدا عن ظهور بعض الشخصيات الملاحقة مصرياً في دمشق بعد ساعات فقط من سقوط نظام الأسد، بل وتجرأ بعضها على توجيه رسائل تهديد للحكومة المصرية. عدا عن مطالب مصرية بتسليم بعض الشخصيات المصرية الموجودة في سوريا كما أشيع». وربما تشترك الدول العربية عموما بهذه الهواجس ذاتها، لكنها في الحالة المصرية وفق وصف نعناع «تبدو مضاعفة» عازيا السبب إلى الاعتقاد المصري بمركزية الدور المصري في الشرق الأوسط، وهي مركزية فائتة لم تعد قائمة بالشكل ذاته، وإن كانت حاضرة في مناسبات مختلفة، لكنها لم تعد تلك المركزية الناصرية التي تجعل من الحكومة السورية حريصة على ضمان تأييد مصر، وإن كانت الحكومة السورية حريصة على علاقات طبيعية وودية مع كل الدول العربية، لكنها ربما لم تقدم لمصر ما ظنت أنها تستحقه: أمنياً، وسياسياً، ومكانة شرق أوسطية. لكن لا أظن أن موضوع المكانة كثير الأهمية في الموقف المصري، كما هي بقية العوامل، بل يمكن وضع مسألة المكانة في ذيل القائمة، ولو كان كذلك، لكانت الخارجية السورية بادرت بزيارة مصر مبكراً. وقال: هناك أحاديث عن انزعاج مصري سابق من موقف «هيئة تحرير الشام» ذاتها من الإخوان المصريين وتأييدهم للحركة، لكن ذلك كان في زمن مضى، فيما يتسم نهج الحكومة السورية منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 بالمبادرة تجاه القوى الإقليمية والدولية، وبمحاولة طي ما سبق، ومد الجسور نحو المحيط العربي. وقال: من جهة أخرى، لن يكون الموقف المصري على كثير من الاختلاف عن الموقف في عدة دول عربية، سواء انفتحت على دمشق أم لا تزال متحفظة، فجميعها في حالة ترقب لمجريات الأحداث السورية، مستخدمة جملة معايير للحكم على المرحلة المقبلة، وأهمها قدرة الشرع على فرض سيادة الدولة السورية وتسوية التهديدات الأمنية القائمة، ونوعية الإسلام السياسي الذي سيتبلور في الشارع السوري، وإن كانت مصر أكثر حساسية لهذه الجماعات، لكن وجود إسلام سياسي تتم إعادة إنتاجه بشكل أكثر مدنية وانفتاحاً (على النمط التركي ربما) غير معادٍ للحكومات العربية، وغير ثوري أو مُستَقطِب لقوى خارجية، قد يخفف من قلق العرب (والسوريين أيضاً). إضافة إلى مسألة تصدير «النموذج الثوري» السوري، وخصوصاً أن ما حدث في سوريا هو امتداد للربيع العربي الذي شهد موجتين (2011، 2019) واستقرار سوريا قد يشجع على التخطيط لموجة ثالثة في بعض الدول، عبر تحويل الحالة السورية إلى نموذج يحتذى به. ولا يبدو حتى الآن أن هناك رغبة في الشارع السوري والحكومة، بتحويل سوريا إلى «نموذج» سواء عبر الاحتذاء أو الاستقطاب أو الرعاية. وعن تاريخ العلاقات السورية ـ المصرية قال المتحدث: شهدت العلاقات المصرية-السورية فترات من الاضطراب والعداء والقطيعة، ربما كان أشدها بعد الانفصال (1961-1967) وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد (1979-1990) ونتمنى ألا تكون هذه فترة أخرى. وهناك مؤشرات مقبلة يمكن الاستفادة منها في فهم الموقف المصري، وخصوصاً مع أول اجتماع يجري في جامعة الدول العربية (بغض النظر عن مستوى التمثيل والاجتماع) لكنه سيكون دليل عمل لفهم الموقف المصري التقليدي بشكل أوضح. منشور ضمن تحقيق صحفي، صحيفة القدس العربي 7 شباط/فبراير 2025 على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%d9%85%d8%b5%d8%b1-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%87%d9%88%d8%a7%d8%ac%d8%b3-%d9%88%d9%85%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawISkjFleHRuA2FlbQIxMAABHfjVDKctScYyhYWYQFygpkdB5YmsmRKllj9iA1nP3CYjwhzVeMVhf-2Isw_aem_NWxceJhYOYG5Ag8jtcP0Uw
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣ فبراير ٢٠٢٥
السعوديون بطبعهم شعب مضياف، وكل من عاش في تلك البلاد يدرك ذلك تماماً. لكنهم في ذات الوقت يتميزون بالهدوء والتأني في اتخاذ قراراتهم، لا سيما في القضايا السياسية، ويميلون إلى دراسة المعطيات بدقة قبل الالتزام بخطوات طويلة الأمد. هذا النهج يختلف إلى حد ما مع النهج السوري، حيث يتسم السوريون بسرعة الإيقاع، والسعي إلى الإنجاز المتسارع، وتحمل الأعباء الكبيرة، مما يجعلهم أكثر اندفاعاً في بعض المواقف. وتعكس الزيارات السورية المتكررة إلى السعودية، بوضوح، رغبة دمشق في إعادة تموضعها ضمن الفضاء العربي، وخاصة في الخليج (وتحديداً السعودية)، مع التأكيد على فك الارتباط مع المشروع الإيراني، الذي لطالما اعتُبر مصدر تهديد رئيس للمنطقة. ويفهم هذا التحول أيضاً في سياق التوازنات الإقليمية، حيث تسعى سورية إلى طمأنة العواصم العربية بأنها ليست مجرد امتداد لنفوذ تركي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول الإدارة السورية الجديدة إغلاق أي أبواب محتملة للصدام مع الدول العربية، وهو ما يتجلى في زيارة الإمارات، والنهج الهادئ تجاه مصر، إلى جانب زيارة الأردن وقطر والانفتاح على الكويت والبحرين ولبنان، وباقي المحيط العربي. إلا أن السعودية تظل الفاعل العربي الأبرز في المشهد السوري الخارجي، حيث يحمل التحول السوري معها انعكاسات مباشرة على موازين القوى الإقليمية، مما يستقطب الرياض، سواء أرادت ذلك أم لا، لتكون جزءاً من معادلة إعادة ترتيب المحاور في الشرق الأوسط، وهي معادلة لا تزال قائمة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ورغم الاحتفاء السعودي الرسمي بالوفود السورية، إلا أن الحذر يظل السمة الأبرز في السياسة السعودية تجاه دمشق (إعلامياً وسياسياً)، وهو حذر لا يقتصر على السعودية وحدها، بل ينسجم مع الموقف الدولي والإقليمي الأوسع، سواء الأوروبي أو الأمريكي أو العربي. فمن الواضح أن الرياض ليست في عجلة من أمرها لتقديم التزامات طويلة الأمد، قبل اختبار مدى استقرار الإدارة السورية الجديدة، وقدرتها على الحكم الفعلي، ومدى اتساق خطابها السياسي مع ممارساتها على الأرض. كما أن هناك مخاوف من مسألة "تصدير النموذج"، التي تثير حساسية لدى عدد من الدول العربية. وإلى جانب البعد السياسي، هناك أيضاً اعتبارات اقتصادية وأمنية في التأني السعودي، حيث تراقب الرياض الوضع الاقتصادي في سورية ومدى استقراره قبل الانخراط في أي مشاريع استثمارية، كما تأخذ في الحسبان الملفات الأمنية المعقدة في المنطقة. وترقب السعودية أيضاً مواقف دول أخرى مثل مصر والإمارات وتركيا تجاه سورية. حتى الآن، تبدو الخطوات السورية متماشية إلى حد كبير مع خطابها المعلن، مما يقلل من المخاوف الإقليمية، لكن هذه المخاوف لن تتلاشى بالكامل قريباً. فالتطورات المقبلة داخلياً وخارجياً ستحدد ما إن كان هذا المسار سيستمر، أم أن المنطقة ستشهد تقلبات جديدة في المشهد السوري. لكن من المؤكد، أن الزيارة الأولى للسعودية، هي خطوة موفقة من الإدارة السورية داخلياً وخارجياً، وتفتح آفاقاً مغلقة، وتحضِّر البلاد لعلاقات طبيعية في الشرق الأوسط، ومن المؤكد أن السعودية شرعت أبوابها للقيادة السورية الجديدة، وترحب بخطواتها المتتالية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣١ يناير ٢٠٢٥
شهد القرن الماضي انقساماً بين شكلَي نظام حكم: عسكري انقلابي (سُمِّي بالجمهوري)، وآخر ملكي وراثي (على اختلاف مسمياته)، وامتاز كل منهما بسمات خاصة، ففيما اتّجه الأول نحو ما عُرِف بالنموذج الناصري للتنمية: أي أنّ الدولة هي المسؤولة عن عمليات التنمية والاقتصاد والتحرير ومحاربة الصهيونية والتصدي للإمبريالية العالمية وتحقيق أهداف الثورة/الانقلاب مقابل عدم تدخل العامة في الشأن السياسي إلا عبر السلطة وحدها، كان النموذج الآخر أقل وعوداً من نظيره، أي أنه لم يُحمِّل نفسه كثير مسؤولية أمام شعوبه واكتفى بخطاب التنمية والسيادة، لكنه أغلق هو الآخر المجال العام (في معظمه، حيث حافظت ملكيات كالأردن والكويت والمغرب على حيز لا بأس من المجال للاشتغال السياسي). ونلحظ اليوم بروز ما يمكن أن يكون نموذجاً ثالثاً، وهو أقرب إلى أن يكون حالة وسط بين النموذجين السابقين، عبر خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال خطابه المقتضب الذي تحمّل فيه مسؤولية المرحلة الانتقالية، محدِّداً المهام التي سيتصدّى لها (والمُساءلة عنها لاحقاً)، في نقاط شملت تحرير كامل التراب السوري، مع وعود بالتنمية، وأخرى بالعدالة والسلم الأهلي، ورابعة بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وخامساً استعادة مكانة الدولة والمواطن السوري. وهي وعود جديرة بالتقدير والمشاركة التي طالب الجميع بها باعتبار كل السوريين (كلنا) شركاء في النصر. إذاً، أصبح لدى القوى السورية برنامج عمل تستدرك فيه مسار السلطة في السنوات القادمة أولاً، ومحددات مسبقة لمحاسبة السلطة ثانياً، وقضايا أخرى كثيرة –لم يتمّ التطرق لها– يمكن بناء مشاريع سياسية عليها ولأجلها، وهو ما يشبه رمي الكرة في ملعب النخب والقوى السياسية السورية. أي أن المرحلة القادمة تتطلب تحركاً نخبوياً واسعاً لوضع السلطة أمام الاختبار الفعلي: اختبار إطلاق المجال العام أمام الاشتغال السياسي، واختبار الشراكة التي جاءت في الخطاب، واختبار قدرة النخب ذاتها ومصداقيتها في العمل لأجل البلاد ونهضتها أيضاً. فلا يمكن تصور أن تنجِز السلطة وحدها هذه الوعود، فيما تُحجِم القوى السورية عن الانخراط بدورها التاريخي، أو أن تنشغل بتعظيم مصالحها (قوى وأفراداً)، إذ إنّ محاسبة السطلة تستوجب بدروها محاسبة النخب "الشريكة" للسلطة في المسؤولة. رغم تأخر الخطاب، وقد يكون ذلك لأسباب تتعلق بحجم الانتقال التاريخي الذي شهدته سورية، لكنه يشكل بداية لنا –نحن السوريين– جميعاً لنبدأ العمل على إعادة بناء الدولة والتاريخ السوري. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٣٠ يناير ٢٠٢٥
ما يزال المشهد السوري مُضطَرباً في غالبية جوانبه: السياسية والاقتصادية والأمنية، وليس من المتوقع أن يشهد استقراراً مُستداماً في القريب العاجل. فيما تتحمّل السلطة جزءاً مهمّاً من هذه الفوضى، لكثير أسباب، منها: عدم المساهمة في توضيح الصورة للمجتمع السوري المترقِّب، وترك فراغٍ تملؤه فوضى الشائعات والوسطاء. وحتى خطاب النصر المُنتظَر منذ خمسين يوماً، أتى بذات الفوضوية، صحيح أنه بقي في سياقه المتوقع منه، لكنه خرج عن بعض نصوص ما كان مُنتَظراً. فبداية، لم يأتِ الخطاب خارجاً السياق الذي حدثت فيه التغيرات السورية الكبرى خلال الشهرين الماضيين، والتي كانت انتصاراً عسكرياً سريعاً وحاسماً، أقرب إلى حالة انقلاب عسكري لمجموعة منظَّمة على نظامٍ بالٍ ما كان قابلاً للحياة، أكثر منه انتصار ثورة شعبية اجتاحت الشوارع والمدن وأسقطت الطاغية، ولا ضير في ذلك، طالما أنّ الطرفين متفقان على هذا الهدف وعنده. إذاً، ما سيجري بعد التحرير/إسقاط النظام، مبنيٌّ على هذه المقدمة، وهنا نضع الأمر في سياق الانقلابات العسكرية المعهودة في التاريخ السوري، رغم خصوصية/تمايز الزمان والجماعة والآليات والبيئات. وفي هذا السياق، أتى ما كان متوقّعاً بالضبط، احتكار السلطة الانتقالية في يد الجماعة الانقلابية، وما عدا ذلك أمر غير ممكن، وما المطالبة بالشراكة والانتخابات والانفتاح (الآن)، ما هو إلا ضرب من الفوضى في هذه المرحلة، لن يقبل بها أصحاب القوة. فمن طبيعة الانقلابات أن تضع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في يدها عبر زعيمها أو عبر مجلس عسكري يدير البلاد، ويتخذ جملة إجراءات استثنائية ذات طابع مؤقت: دستور مؤقت، هيئة تشريعية مؤقتة، حكومة مؤقتة، وهنا لا كثير فرق بين المؤقتة والانتقالية، فكلاهما مرحلي وليس مستقراً. لكن هناك خروجاً محموداً عن أدبيات الانقلابات المعهودة، عبر غياب حالة الطوارئ المترافقة بالأحكام العرفية، وإن كان هناك شكوك وشكاوى من طبيعة إجراءات السلطة القضائية المؤقتة. إذاً، خطاب النصر أتى كما يجب أن يأتي، وأتى في سياق ذات الخطابات الانقلابية كلها: "إنما نحن انتصرنا للشعب ولقضاياه العادلة". وحيث أنه خطاب يهيئ المجال للمرحلة الانتقالية فإن لا كثير تعويل عليه، خارج ما قال به الشرع أولاً: ملء الفراغ السلطوي، السلم الأهلي، بناء مؤسسات الدولة، العمل على بنية اقتصادية تنموية، استعادة المكانة الدولية والإقليمية. أو في الإعلان ذاته: حل كل القوى السياسية والعسكرية والأمنية السابقة، والبدء بالتأسيس من جديد. لكنه أيضاً أغفل مواضيع بالغة الأهمية (وربما الخطورة) ينتظر الجمهور البتّ فيها، ومنها: محاسبة المجرمين، وتوحيد سورية. كما أنه ثانياً لم يظهر كما يجب أن يظهر: أي أنه لم يُوجَّه إلى الشعب السوري مباشرة، مع غياب أي خطاب تعويضي من السلطة للشعب، بل الإصرار على ترك فجوة بين السلطة والشعب تملؤها جهات وسيطة سيكون لها دور غير حميد لاحقاً. وربما يكون ثالث الاعتراضات أنه لم يتأسس على إعلان دستوري مؤقت، وهنا (حيث سلطة الأمر الواقع) فلا كثير فرق بين من يأتِ أولاً. أما الاحتجاج الرابع الأبرز، فهو غياب أطر زمنية للمرحلة الانتقالية، ولا أظن أن نظاماً انقلابياً يرغب بتسليم السلطة، فكيف بوضع جدول زمني لذلك. ويذهب الاحتجاج الخامس، إلى غياب مصطلحات تأسيسية للمرحلة القادمة: ديموقراطية، حقوق إنسان، حريات، انتخابات، عدالة، وهو –وفق ما أرى- أكثر الاحتجاجات صواباً ومداعاة للقلق من توجهات السلطة. فمنذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. ختاماً، لم يأت خطاب النصر خارج ما كان متوقعاً، ورغم أنه لم يأت كما كان متوقعاً بالضبط، إلا أنه وعبر إزاحة نظام إجرام طائفي شرس، فإنه يمنح الشعب مبررات جديدة للاحتفال، لا بالسلطة بل بالمنجز ذاته، على أن الوظيفة القادمة في مراقبة السطلة الانقلابية المؤقتة تبقى مسؤولية النخب السياسية السورية، التي يناط بها تشكيل المجال العام والمناخ السياسي والحواضن المجتمعية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ يناير ٢٠٢٥
على مدى ستة عقود، عمل النظام البائد على تجريف المجال العام، ما أدى إلى تغييب طويل لأي بيئة صحية تسمح بتطور نخب وطنية فاعلة ومستقلة. ورغم نجاح عمليات التجريف هذه في إنتاج فراغ فكري وسياسي كبير، إلا أن النخبة السورية لم تُلغَ بشكل كامل، وظلت حاضرة في الظل أو في الشتات. لكن في ذات الوقت، نتج جيل جديد من النخب المشوهة بالفساد والانتهازية، هيمنت على العديد من المؤسسات التي برزت بعد 2011، بما في ذلك بعض المؤسسات "الثورية"، إلى جانب نخب نكوصية ما تزال حبيسة القرن الماضي (حبيسة لحظة الاستقلال). أعتقد أن المشهد النخبوي قبل وصول البعث إلى السلطة كانت أكثر تنوعاً وتمثيلاً لاتجاهات فكرية وأيديولوجية متعددة، تميزت بانتمائها إلى تيارات قومية ويسارية ودينية، إضافة إلى نخب ليبرالية ذات تأثير محدود. كما ضم المشهد نخباً عسكرية وشخصيات من الأعيان، فضلاً عن أشكال أخرى من القيادات المجتمعية والسياسية (ماسونية، إقطاعية، ريفية، إثنية، ...) أسهمت في تشكيل الحياة العامة وتوجيه الأحداث الوطنية. وكان تنوع هذه النخب، رغم اختلافاتها، يعكس حيوية اجتماعية وفكرية افتقدتها البلاد لاحقاً بعد عقود من حكم شمولي سعى لتقويض هذا التنوع وتقليص المساحة العامة. رغم الأمل الكبير في دور النخب السورية اليوم، إلا أن المشهد يتسم بالتداعي والصراع الداخلي. من أبرز مظاهر هذا التداعي السعي المحموم للحصول على حصة من "الكعكة السورية" بدلاً من العمل على طرح مشاريع سياسية بناءة، سواء بالتعاون مع السلطة أو بشكل مستقل عنها. هذا التنافس على المكاسب الشخصية يقف في وجه العمل الوطني الجماعي الذي تحتاجه البلاد بشدة. فيما يواجه جزء كبير من النخب الوطنية المستقلة صعوبات تحول دون عودتهم الفورية إلى سورية، بينما يسعى آخرون إلى احتكار المجال العام وتوجيهه لخدمة مصالحهم الضيقة، فالعصبية والانتماءات الضيقة، بالإضافة إلى الارتهان لأجهزة الاستخبارات، تبقى من أبرز نقاط ضعف المشهد النخبوي السوري. أما وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أضافت تحدياً جديداً عبر خلق "نخب شعبوية" تتغذى على التفاعل السريع بدلًا من الفعل العميق. في حين تواجه النخب السورية تحدياً كبيراً في استعادة ثقة الشعب، وهو ما يتطلب تواصلاً حقيقياً يتجاوز الخطاب النخبوي المنعزل عن هموم المواطنين. ولا يمكن بناء الثقة دون انخراط فعلي مع المجتمع، والاستماع إلى تطلعاته، وتقديم حلول واقعية تعالج معاناته. ورغم قتامة هذا المشهد، تبقى الفرصة قائمة لنهوض جديد يعيد للنخب دورها القيادي عبر تحمل مسؤولياتها الوطنية والعمل على مشاريع تعزز التغيير وتدفع نحو مستقبل أفضل. فالنخبة السورية اليوم بحاجة إلى إعادة بناء ووعي جديد يعيد للمجال العام دوره ويصنع نخباً مسؤولة تحمل مشروعًا وطنياً جامعاً. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية – جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ يناير ٢٠٢٥
منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والمجال العام السوري منشغل بشكل نظام الحكم القادم، ومرشحيه وآلياته ومؤسساته، في تعبير عن أمل بنظام ديموقراطي "موعود"، لا يبدو أنه قريب الأفق في ظل المعطيات الحالية. فالسلطة، وخاصة السلطات الانقلابية والعسكرية والثورية المسلحة، لا تمنح الديموقراطية من تلقاء نفسها (إلا نادراً)، بل هي نتيجة خضوعها لعمليات اشتغال سياسي نخبوي ومجتمعي تضغط على السلطة وتدفعها نحو إقرار الديموقراطية ولو على مراحل متتالية، أو من الأبسط إلى الأعقد. وهنا لا أتحدث عن "انتخابات" فهذه شكل أو أداة من أدوات الديموقراطية، فيما يقع كثير في هذا الخطأ بالقول إن وجود انتخابات وفوز أكثرية إثنية هو حصل الديموقراطية الموعودة، وعلينا إقفال الباب على ذلك. هذه الديموقراطية، لا يمكن لها الظهور أو النمو في بيئات غير حاضنة لها، أو غير ديموقراطية، فحديث الائتلاف (الذي طالما كان إقصائياً) عن الديموقراطية هو مهزلة سياسية. وحديث اليمين الإسلامي المتطرف هو كذلك، وحديث النخب الاستعلائية والقمعية أيضاً، وأحاديث بعض الأقليات عن عدم قبول الآخر واشتراطات تفكيكية وغير عقلانية هو في ذات المسار. أي أن البيئة السورية في حد ذاتها –اليوم على الأقل– هي بيئة غير منتجة وغير حاضنة للديموقراطية، مع التذكير بأن الديموقراطية ليست صندوقاً يطوف حوله المواطنون. لذا، فإن الحلم الديموقراطي السوري، لن يبدأ من قبل السلطة أولاً، بل من قبل المجتمع، وذلك عبر تبني أسس الديموقراطية وآلياتها فيما بينه من جهة، وفي منزله وعمله وأسرته وحزبه ونقابته، حتى يصل إلى مرحلة الاقتناع بنفعية الديموقراطية للجميع، وحينها سيكون مستعداً لقبول نتائجها (الخسارة أو الربح)، ثم يبدأ مسار الضغط على السلطة بهذا الاتجاه، وتتشكل الموالاة والمعارضة على هذا الأساس (وليس على أسس إثنية). في حالات أخرى، تكون نخب السلطة ذاتها ذات ميل ديموقراطي (وهو أمر غير متوفر حتى الآن في سورية). كما أن غياب الطرف المجتمعي/النخبوي الديموقراطي الآخر، سيدفع السلطة إلى تأجيل الدمقرطة قدر الإمكان، والاستئثار بالسلطة. بالإجمال، هناك الكثير من المعارك السياسية التي علينا خوضها في الأشهر والسنوات القادمة، قبل الوصول إلى الحلم الديموقراطي المنشود (هذا إن كان حلماً للجميع)، وما الأصوات التي تحاول قمع حريات التعبير التي تتشكل اليوم، إلا مساعٍ من أطراف سياسية أو من قوى شعبوية لمنع تهيئة البيئة السورية لاحتضان غرسة الديموقراطية (تحت شعارات أشبه بشعار: لا صوت يعلو على صوت المعركة). د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٤ يناير ٢٠٢٥
رغم الادعاءات الدبلوماسية التي صرح بها وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، حول تعزيز الاستقرار والانتقال السلمي والسيادة، إلا أن الزيارة الفرنسية الألمانية المشتركة تحمل إشارات تخدم أهدافاً جيوسياسية تتعارض مع مبادئ السيادة الوطنية واحترام إرادة الشعوب، ضمن السلوكيات ما بعد الاستعمارية التي تنتهجها أوروبا في العالم كله. ويمكن تسجيل النقاط التالية في الزيارة: أولاً، يمثل اللقاء الفرنسي برجال دين سوريين (مسيحيين) تناقضاً مع العلمانية (بالغة التطرف) التي تدّعي فرنسا التمسك بها لضمان إبعاد الدين عن المجال العام. فبدلاً من الالتزام بمبدأ الفصل بين الدين والدولة (بشكله الفرنسي الصارم)، سعت فرنسا إلى استخدام الدين وسيلةً لتحقيق أهداف سياسية، في ازدواجية جديدة في تطبيق قيمها العلمانية خارج حدودها. هذا التناقض هو مثال على التوظيف ما بعد الاستعماري للهوية الدينية لتحقيق مكاسب سياسية. ثانياً، ثم إن لقاء/اتصال الوفد الفرنسي والألماني مع ممثلي "قسد" ودعوتهم للمشاركة في مستقبل سورية يتناقض كلياً مع مفهوم السيادة السورية. بل إن دعم ميليشيات إرهابية ذات ارتباطات أجنبية، رغماً عن الحكومة السورية، يعكس ممارسة ما بعد استعمارية تفرض هيمنة القوى الكبرى على الدول الضعيفة، ويتناقض مع الخطاب الأوروبي في "مكافحة الإرهاب". ثالثاً، كما أن الإصرار على خطاب "حماية الأقليات والمرأة" بدلاً من التركيز على حماية المواطنين السوريين كافة وتكريس حقوق الإنسان، يعكس منظورًا استشراقياً يُقسّم الشعب السوري سياسياً إلى طوائف وأعراق، ما يساهم في تعزيز الانقسامات المجتمعية في هذه المرحلة بالغة الحرج. ويتجاهل هذا النهج حقيقة أن الحماية الحقيقية تتطلب نظاماً شاملاً يحترم حقوق الجميع. رابعاً، كما أن رفض التواصل مع الهوية الإسلامية باعتبارها هوية الأغلبية السورية وفرض سرديات غربية حول العلمانية (التي تم انتهاكها في النقطة الأولى) يعيد إنتاج آليات السيطرة الثقافية الأوروبية ما بعد الاستعمارية، حيث يتجاهل هذا النهج أن هوية الشعوب يجب أن تتشكل بحرية دون تدخل خارجي. خامساً، وهذا يظهر من خلال التمويل المشروط الذي اقترحته الدول الغربية، وسيلةً للإذلال السياسي وفرض الإملاءات (لا تمويل للمؤسسات الإسلامية). حيث أن ربط المساعدات الإنسانية والاقتصادية بشروط سياسية دينية يعكس عقلية الهيمنة ويؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنية، ولا يعزز عملية الانتقال السلمي التي تطالب بهد الدول الأوروبية ذاتها. سادساً، ولابد من التذكير طبعاً، بفشل فرنسا وألمانيا في اتخاذ أي موقف جاد لوقف المجازر التي ارتكبتها الأقلية الحاكمة (نظام الأسد البائد)، المدعومة/المصنوعة من الغرب نفسه، وهو ما يُظهر ازدواجية أخرى في تطبيق معايير حقوق الإنسان، واستمرار الدعم غير المباشر للأنظمة القمعية لضمان حماية المصالح الغربية ما بعد الاستعمارية. سابعاً، ومما يؤكد النظرة الأوروبية ما بعد الاستعمارية (الامتداد الاستعماري القديم)، هو محاول تحويل سورية إلى ساحة للتوترات بين فرنسا وألمانيا من جهة وتركيا من جهة ثانية، بشأن "قسد"، ومحاولة فرضها توجهات جيوسياسية على سورية بما يضمن المصالح ما بعد الاستعمارية التي ما تزال تُشكّل السياسة الدولية. وأخيراً، يتضح الإصرار على إبقاء سورية دولة ضعيفة ومجزأة بما يعكس تناقضًا بين خطاب السيادة والاستقرار والواقع العملي الذي يهدف إلى تفريغ هذه المفاهيم من محتواها الحقيقي. وتُظهر هذه الزيارة أن الغرب الأوروبي لا يزال يسعى إلى إعادة إنتاج الهيمنة عبر أدوات ما بعد استعمارية حديثة، مستخدماً خطاباً "تحررياً" يُخفي مصالحه الجيوسياسية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية بجامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢ يناير ٢٠٢٥
هناك بون واسع ظهر في الأسابيع الثلاثة الماضية، بين خطاب الشرع (المعتدل والمنفتح) وبين سلوكيات جماعته (المنغلقة على ذاتها)، وهنا يقع لبس يصعب تحليله، بين الطرفين. ربما يكون سبب اللبس هو الهدف الذي يتطلع كل طرف منهما لمستقبله ورؤيته السياسية، فالشرع، كما هو معروف لنا جميعاً، صاحب طموح سياسي عالٍ جداً، جعله ينتقل من سورية إلى القاعدة فداعش فالنصرة فالهيئة إلى "لبس الكرافة والتواصل مع الطوائف المحلية والقوى الخارجية"، وهذا (ربما) يكون دليلاً على طموح سياسي وليس على بعد أيديولوجي، يحاول تسخير المتغيرات التي تجري حوله بما يخدم الطموح نفسه. وهذا يفسر انتقاله للقاعدة عندما كانت رائجة، ثم داعش عندما أصبحت أكثر رواجاً، ثم النصرة عندما كانت ضرورة، ثم الهيئة بعد أن أصبحت النصرة عبئاً، ثم البحث عن حل الهيئة بعد أن انتهت وظيفتها بالنسبة له. على المقلب الآخر، فإن جماعته، وهم أصحاب بيعة في عنقهم (للجولاني تحديداً)، فإنهم أصحاب أيديولوجيا، يسعون إلى فرضها على مناطق نفوذهم بشتى الطرق المتاحة، حتى بالصدام والعنف. وبالتالي هم أسرى أيديولوجيتهم "السلفية الجهادية". إن قبلنا هذه الفرضية، بين طامح سياسي يحاول الاستفادة من المتغيرات، وبين جماعة أيديولوجية تحاول فرض مسار المتغيرات، فهذا قد يقودنا إلى مجموعة من النتائج: حل الهيئة، يعني حل البيعة، وبالتالي تحلل الشرع من "بيعة الجولاني"، وما يترتب عليها من تحلل من مكافأة "الإخوة" أو "إخوة السلاح"، ومن الدفاع عنهم وحمايتهم. وقد أشار الشرع مراراً إلى ضرورة حل الهيئة، ويبدو أنه في عجلة من أمره في ذلك، للتخلص من اليمين الديني المتطرف. قبول الأمريكان والأوروبيين والسعوديين والأتراك، للمخرجات السياسية حتى الآن، يعني أن هناك فعلاً توجهاً لدى الشرع للتحلل من "الجولاني وفكره وبيعته"، والذهاب نحو شكل مقبول إقليمياً ودولياً. هذا الحل، يستوجب إنشاء كتلة سياسية بديلة للهيئة، يكون قوامها حواضن جديدة، مطواعة قابلة للتشكيل والتوجيه، غير مأدلجة كسابقتها، على أن تكون: وسط اليمين، أو يسار اليمين الديني. ويمكن هنا الانتقال من السلفية الجهادية إلى السلفية الدعوية أو ما يشابهها. لكن حتى الآن لا تشير الدلائل على التخلص منه اليمين المتطرف، بل على تنصيبهم في كل المناصب العليا، وهنا الإشكال أكثر تعقيداً، فهل يعني هذا التنصيب حرقاً لهم. حيث أنه –وجميعنا يعلم ذلك- من غير الممكن لجماعة منفردة إدارة بلد أنهكه الفساد والاستبداد لستة عقود، وأن مصير من يتصدى لهذه المهمة منفرداً، هو تماماً مثل مصير مرسي وجماعته في مصر –الفشل الحتمي والتصادم مع المجتمع بكل قواه- وخصوصاً أن مؤشرات التصادم مع المجتمع بدأت تظهر رويداً رويداً، وستزداد في الأيام القادمة. بغض النظر عن صحة هذه الافتراضيات الأولية من عدمه، فإنه من المؤكد أن هناك صراعاً يتصاعد لا على السلطة، بل على الهوية السياسية والدينية السورية، موقعه المساجد والتعليم والقوانين وسواها، بحيث تحاول "الهيئة" خطفها والاستفراد بها ثم فرضها على الجمهور كله، ويبدو أنها في عجلة من أمرها، ليقينها أن التأخير ليس في صالحها، فكلما تأخرت في ذلك، زادت قوة القوى السياسية والمجتمع المدني في سورية، وزادت القدرة على مقاومة هذا التيار. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٤
كل سلطة مفسدة، ولن تتنازل السلطة طواعية عن جزء من الحيز العام من تلقاء نفسها، كما أنها ستسارع إلى ملئ أي فارغ في الحيز العام، باعتبارها الأكثر قوة وقدرة على الحركة. ولا توجد سلطة تحتفظ بحصص سياسية لمعارضيها إلى حين أن ينضجوا ويصبحوا قادرين على العمل السياسي. بناء على ذلك، ستسعى السلطة الحالية لتملئ كثيراً من المجال العام، مغلِقَةً الأبواب خلفها، معتمدة على عناصرها (وكثيرٌ منه لا خبرة له)، أو على عناصر مضمونة الولاء، في صراع سياسي تقليدي على القوة والسلطة. هنا تبرز الوظيفة الحقيقة للنخب السورية، فيما يلي: تشكل قوى سياسية (أحزاب، لوبيات، تكتلات، ائتلافات)، داخل سورية، وهذا يشترط عودة كثير من هذه النخب في الأسابيع والأشهر القادمة، لرفد النخب السياسية التي في الداخل. العمل على بناء حواضن اجتماعية وتوسيعها وربطها بشبكات الحواضن الأخرى. استدراك وسائل الضغط على السلطة، لإجبار السلطة على: تعديل سلوكها السلطوي، أو إجبارها على اتخاذ سلوك نأت بنفسها عنه، أو على مشاركة المجال العام، أو الحصول على مناصب عليا منها، وما إلى ذلك. ووسائل الضغط هنا كثيرة ويتم استكشافها وفق خصوصية كل بلد. ولعل أبرز مواقع العمل التي يجب أن تتطلع إليها النخب السورية في المرحلة القريبة القادمة، هي البرلمان السوري، فهو أكثر أهمية في المرحلة الحالية من وزارات (مؤقتة أو انتقالية)، فهذه كلها يجب أن تخضع للبرلمان (مركز الصراعات السياسية والتفاوض السياسي وبناء الثقل السياسي وصناعة السياسة والهوية السورية الجديدة). ما يجري من تهافت لمقابلة السلطة الجديدة والحصول على مكسب ولو كان (قائمة كرسي بالية)، ليس عملاً سياسياً ذي قيمة، مقابل بناء القوى السياسية وبناء الحواضن الاجتماعية لها. ما أقصده بالقوى السياسية، هو تشكيل واسع من: القوى الدينية التقليدية، النخب الصناعية والتجارية، النخب العلمية والأكاديمية، النخب السياسية، وبالطبع القوى السياسية الأقلوية، إلى جانب مجموعة من لوبيات الضغط. وفي كل من هذه القوى هناك تفريعات كثيرة. عدم تبلور هذه القوى السياسية حتى الآن، هو ما يسمح للسلطة بالاستئثار بالمجال العام (وتجريب كيف تشتغل الدولة)، لكن هذه القوى تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور وتعلن عن نفسها وتبدأ بنشاطها، ولعل وجودنا في (حالة مؤقتة) يخدم حال الانتظار هذه. في المقابل، عدم نضوج هذه القوى خلال عام 2025، هو استقالة طوعية من النخب السورية (وبالتالي من المجتمع السوري)، من دورها في بناء السياسة السورية. د. عبد القادر نعناع عميد كلية العلوم السياسية - جامعة الزيتونة الدولية
مزيد من المنشورات
Share by: