د. عبد القادر نعناع

النظام القديم/الجديد للشرق الأوسط: زيارة بايدن واستمرار الإخفاق الأمريكي في المنطقة

د. عبد القادر نعناع • ٢٦ أغسطس ٢٠٢٢
مارك لينش
ترجمة: عبد القادر نعناع

 
لم تسفر زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، شهر يوليو/تموز الماضي، عن نتائج مبهرة بقدر ما أسفرت عن تذمر واضح. وأثبتت أن المكاسب التي حصل عليها بايدن لقاء قبضته مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، تكاد لا تذكر. إذ لم تلتزم السعودية بزيادة إنتاج النفط، ولم يتم الإفراج عن أي من المعارضين، ولم تظهر مسائل حقوق الإنسان إلى العلن، إلا عندما رفض الأمير محمد بن سلمان الانتقاد الموجه له بخصوص مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وذلك عبر الإشارة إلى الصمت الأمريكي تجاه مقتل شيرين أبو عاقله، الصحفية الفلسطينية الأمريكية التي قُتلت في مايو/أيار الماضي في الضفة الغربية على يد الجيش الإسرائيلي، كما لم تعلن السعودية عن تحركات واسعة نحو التطبيع مع إسرائيل، ولم يتبلور تحالف أمني جديد في المنطقة.

لكن على ما يبدو، فإن لدى إدارة بايدن طموحات أوسع من تلك الزيارة، لا يمكن رصدها من خلال ملاحظة سجل الإنجازات قصيرة الأجل. حيث تعتقد الإدارة الأمريكية أنها بحاجة إلى إعادة العلاقات مع السعودية والحلفاء الإقليميين الآخرين، والعمل من منظور مصلحتهم في التعامل بشكل أفضل مع مجموعة متنوعة من القضايا. ما زاد في إلحاح هذه النظرية، هو احتمال الإخفاق الوشيك لمفاوضات إحياء اتفاقية نووية مع إيران، فضلاً عن الصدمات الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. في حين أن الشائعات الإعلامية التي سبقت الزيارة حول إنشاء تحالف عسكري رسمي مع الدول العربية وإسرائيل، وأن القصد من الرحلة هو دفع المنطقة نحو نظام إقليمي جديد قائم على التعاون الإسرائيلي العربي ضد إيران، بتوجيه من الولايات المتحدة، لم تكن سوى تصريحات سابقة لأوانها. ورغم أن الزيارة أنجزت بعض الخطوات الصغيرة في هذا الاتجاه، لكن لا يبدو أن هذه الإجراءات قادرة على زيادة مستوى الاستقرار الإقليمي، ولن تكون البنية الأمنية التي تصورتها الإدارة جديدة قابلة للتحقق حالياً.

يتنامى اصطفاف إسرائيل مع الدول العربية ضد إيران منذ عقود، فيما جعلت اتفاقات أبراهام، التي تم التوصل إليها تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، التعاون رسمياً وعلنياً، وأزالت صراحة مسائل فلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة. وفي ذات الوقت، تراهن الولايات المتحدة على قدرة الدول العربية الأتوقراطية على تبني نظام إقليمي يشمل إسرائيل، دون القلق بشأن كيفية استقبال الجماهير العربية لهذه السياسات. لكن هذه مخاطرة في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في معظم أنحاء المنطقة، ومن المرجح أن تأتي بنتائج عكسية، كما حدث في الماضي.

طالما كان ضبط نظام إقليمي في الشرق الأوسط، بقيادة الولايات المتحدة، سلوكاً أمريكياً (أشبه بالتسلية) منذ عام 1991، عندما نجحت الولايات المتحدة بقيادة عملية عسكرية لإخراج صدام حسين من الكويت. لكن الشرق الأوسط الحالي لم يعد يأتمر بأوامر واشنطن كما كان حينها. حيث أصبح قادة الشرق الأوسط، أكثر تحوطاً في المراهنة على الولايات المتحدة، في وقت يُلاحِظ فيه هؤلاء القادة صعود عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، وهذا واضح في رفضهم الانحياز مؤخراً إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا.

لكن إن نجح بايدن وبشروطه، في خلق تحالف إقليمي رسمي موجه ضد إيران، يضم إسرائيل والأنظمة الأوتوقراطية العربية، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تكرار أخطاء الماضي. وقد يقود إلى تسريع الانهيار التالي للنظام الإقليمي من خلال عكس مسار التقدم نحو خفض التصعيد، وتشجيع القمع المحلي، وتمهيد الطريق للجولة التالية من الانتفاضات الشعبية.

 
ميثولوجيا/أساطير عام 1991

يمكن اعتبار السلوك الأمريكي القائم على إقامة نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة، هو سلوكي جيني في تكوين السياسات الأمريكية. وعلى وجه الخصوص، هناك جيل من صنّاع السياسة الخارجية الأمريكية، ينظر إلى عام 1991 والنظام الإقليمي الذي تم بناؤه في الشرق الأوسط آنذاك، باعتباره النموذج الأمثل الذي يجب محاكاته. من السهل معرفة أسباب هذه النظرة، وخصوصاً أن تلك الحقبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، كانت تمثل ذروة تفوق الولايات المتحدة على العالم. وقد بدأت فعلياً بعد تدخل الولايات المتحدة عامي 1990-1991 لعكس نتائج احتلال العراق للكويت. وأطلقت إدارتي جورج بوش الأب وبيل كلينتون جهوداً طموحة لإعادة ربط المنطقة بالقطبية الأحادية للولايات المتحدة، والحفاظ على نظام إقليمي ملائم لمصالح الولايات المتحدة.

وللحظة وجيزة من التاريخ، كانت كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. إذ أطلقت الولايات المتحدة عملية السلام في مدريد لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ولإنشاء نظام إقليمي بقيادة الولايات المتحدة، يمكن أن يشمل كلاً من إسرائيل والدول العربية. فيما بحث حلفاء السوفييت السابقون –مثل سورية– طرق الدخول إلى هذا النظام الجديد، من خلال مفاوضات السلام مع إسرائيل. حتى إيران –المنهكة من عقد من الحرب مع العراق– سعت هي الأخرى إلى إعادة بناء علاقاتها بأوروبا ودول الخليج، وإطلاق "حوار الحضارات" في الأمم المتحدة، واتخاذ خطوات محدودة في التعاون مع واشنطن، بل والتراجع عن سياستها التدخلية في الإقليم.

ولفترة وجيزة، ظهرت أسس معيارية إيجابية أخرى، إلى جانب الأساس العسكري، لنظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة. تمثل ذلك في شرعية العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير الكويت، والتي كانت عملية متعددة الأطراف حقاً، في ظل شرعية ممنوحة من مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية. كما قدّم الاستثمار الأمريكي المكثف في صنع السلام العربي-الإسرائيلي بعد عام 1991، والإشراف على عملية أوسلو للسلام، رؤية إيجابية محتملة لمستقبل الشرق الأوسط.

لكن تلك الأسس المعيارية لم تتجذر في البيئة الإقليمية، وثبتت صعوبة إدارة النظام الإقليمي المتصور. ورغم الحنين العميق لواشنطن إلى الشرق الأوسط إبان التسعينيات، لكن تلك الفترة لم تكن كما تُصوِّرها الميثولوجيا/الأسطورة الأمريكية. حيث فشل النهج الأمريكي لعام 1991 في إنتاج نظام إقليمي مستقر وشرعي بقيادة الولايات المتحدة، حتى عندما كانت في ذروة قوتها العالمية، وهو ما يزودنا بدروس بالغة الإفادة اليوم.

 
لا شيء يمكن استعراضه

لم يقم النظام الإقليمي بعد عام 1991 بإدارة نفسه بنفسه، فيما تطلبت سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق إنشاء قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة في جميع أنحاء المنطقة، وخاصة في الخليج العربي. كان هذا تحولاً هائلاً عن السياسة الأمريكية في العقود السابقة، التي قامت على أساس الموازنة الخارجية للإقليم، من خلال مراقبة المنطقة، واستخدام حلفائها المحليين، وتجنب إقامة قواعد عسكرية دائمة واسعة النطاق. شمل هذا التحول، تكريس قدر غير متناسب من الطاقة الدبلوماسية لمشاكل المنطقة، حتى بدا أن كل أزمة في الإقليم تتطلب اهتماماً أمريكياً أكبر. وأدت سياسة التعامل مع الأزمات التي لا نهاية لها بهذه الطريقة، إلى تجاهل أو حتى تعزيز الأنظمة الأوتوقراطية التي كان من شأنها أن تقوض النظام الإقليمي في نهاية المطاف.

في قلب تلك السياسات الأمريكية، كانت عملية احتواء العراق، التي تطلبت الحفاظ على نظام عقوبات صارم وغير مسبوق تاريخياً. لكن حرمان العراق من وارداته وصادراته كان بدوره مسؤولاً عن أعداد لا حصر لها من الوفيات المتزايدة، ومسؤولاً عن البؤس الإنساني الذي قوّض بشدة الادعاءات الأخلاقية الأمريكية، بنظر العرب.

في حين أدت الاشتباكات حول عمليات التفتيش على الأسلحة إلى أعمال عسكرية متكررة، منها مثلاً عملية ثعلب الصحراء، والتي كانت عبارة عن حملة قصف لأهداف عراقية استمرت أربعة أيام نفذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 1998. لكن في النهاية، لم تنجح تلك الجهود، واستغل صدام برنامج النفط مقابل الغذاء التابع للأمم المتحدة لتأمين نظامه، فيما تآكل الامتثال الإقليمي للعقوبات الدولية.

ورغم المجهود الدبلوماسي، فشلت الولايات المتحدة في الوفاء بوعدها بتحقيق سلام إسرائيلي–فلسطيني. ورغم أن إدارة كلينتون بذلت جهداً في المفاوضات، لكنها لم تتمكن من التغلب على تداعيات اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين عام 1995، أو الموجات المتتالية من إرهاب حماس، أو التوسع الإسرائيلي المستمر في سياسة الاستيطان في الضفة الغربية. وبالمثل، فشلت واشنطن في تحقيق سلام إسرائيلي-سوري.

كما شهد عقد التسعينيات أيضاً، التقليل من أهمية الديمقراطية في المنطقة، خوفاً من فوز الإسلاميين في صناديق الاقتراع. وبدلاً من ذلك، تظاهرت واشنطن بالاعتقاد بأن الحكام العرب الأوتوقراطيين سيعملون على تطوير المجتمعات المدنية لتهيئة شعوبهم ليكونوا على أهبة الاستعداد للديموقراطية الحقة يوماً ما. هذه بالطبع، هي نفس الحجة التي ساقتها وتسوقها معظم الأنظمة الأوتوقراطية العربية اليوم، وهو ادعاء لم يُظهر فريق بايدن أي جهد للتشكيك فيه. إذ تمت مقايضة الترويج للديمقراطية بالحصول على نظام إقليمي مستقر وترسيخ الأوتوقراطية العربية بكل عللها. وعليه، لم يكن من قبيل الصدفة أن عقد التسعينيات كان أيضاً فترة تمرد إسلامي في مصر والجزائر وفترة حضانة القاعدة.

محصلة ذلك، أن الأيام المجيدة لقيادة الولايات المتحدة للشرق الأوسط، هي أقل بكثير مما تبدو عليه. حيث فشلت جهود احتواء العراق، وفشلت الجهود الأمريكية لتأمين سلام عربي-إسرائيلي. ولم تفلح أطروحة بناء شروط الديمقراطية من خلال العمل مع الأوتوقراطيين العرب. وعليه يمكن القول إن بروز دور الولايات المتحدة في كل هذه الإخفاقات، جعلها هدفاً جذاباً للقاعدة، والتي حولت نشاطها من "العدو القريب" إلى "العدو البعيد" في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

 
تكرار الأخطاء

حاولت كل الإدارات الرئاسية التي أعقبت كلينتون، إعادة تصميم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. فبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، شرعت إدارة جورج دبليو بوش في استراتيجية التفوق الأمريكي، ليكون محور هذا النظام الإقليمي الجديد هو "الحرب العالمية على الإرهاب"، والتي تضمنت في الشرق الأوسط تعاوناً وثيقًا بين الولايات المتحدة وأجهزة الأمن الإقليمية، وتوسيعًا هائلًا وتدخلياً للوجود الأمريكي في المنطقة. لكن غزو العراق للإطاحة بصدام، أثبت بكل تأكيد مدى كارثية هذا النهج الذي خلق فراغاً من الاستقرار في قلب الشرق الأوسط. وأطلق الاحتلال الأمريكي للعراق العنان للطائفية المتوحشة، ومكّن كلاً من إيران والحركات الجهادية السنية مثل الدولة الإسلامية الوليدة، وتسبب في تدفق ملايين اللاجئين. وحيث استنفدت حرب العراق الرغبة والقدرة الأمريكية على العمل عسكرياً في الشرق الأوسط، فإنها انتهت بانتصار إيران الباهظ –إلى حد ما– وتمكنها من ترسيخ حلفائها في مواقع مهيمنة في الدولة العراقية.

تلك الفوضى، هي ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس خلال ذروة حرب إسرائيل على لبنان "الشرق الأوسط الجديد"، ورغم أنه كان عنيفاً وتنافسياً مفرطاً، لكن من الناحية الهيكلية هو مشابه تماماً لما هو عليه الشرق الأوسط اليوم.

فمن جهة، كان هناك ما أسماه المسؤولون الأمريكيون "محور المعتدلين"، والذي شمل إسرائيل ومعظم الدول العربية تحت المظلة الأمنية الأمريكية، في مقابل "محور المقاومة" الذي شمل إيران وسورية والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حماس وحزب الله. وغالباً ما يتم تجاهل حقيقة أن وسائل الإعلام المملوكة للسعودية دعمت في البداية هجوم إسرائيل عام 2006 على حزب الله، بسبب كراهيتها للحركة الشيعية المدعومة من إيران، إلى أن أجبرها رد عام معادٍ على تغيير خطها التحريري. فيما قادت عدم شعبية التدخل الأمريكي، مثل الحروب في العراق وأفغانستان، إلى تعظيم مكاسب تركيا وقطر السياسية، من خلال التصرف كدول متأرجحة الموقف، متخذة مواقف أكثر انسجاماً مع الرأي العام العربي بشكل عام.

بدوره، قدّم الرئيس باراك أوباما، رؤية مختلفة حقاً للنظام الإقليمي، تستند إلى خلق توازن قوى مستقر وقابل للتطبيق بين إيران وجيرانها، من خلال الدبلوماسية النووية، وتقليص الوجود العسكري الأمريكي. لكن إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة، جميعها، عارضت عملياً كل ما حاولت إدارة أوباما تطبيقه، بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني، ونظروا إلى مشروع أوباما على أنه النقيض لحالة الازدهار التي تشهدها دولهم في تلك الآونة.

لم ترغب دول الخليج العربي مشاركة المنطقة مع إيران (كما اقترح أوباما)، ولم تكن راغبة فيما اعتبرته أفكار أوباما الهرطقية حول تبني الديمقراطية وانتفاضات الربيع العربي. في الوقت نفسه، عارض القادة الإسرائيليون أفكار أوباما حول استئناف مفاوضات السلام التي من شأنها أن تعمل على إنشاء دولة فلسطينية، بل وعارضوا بشكل أكبر فكرة أن حل الدولتين سيكون ضرورياً لإقامة علاقات مع الدول العربية. كما أثبتت إيران أيضاً أنها غير راغبة في تعديل سياساتها الإقليمية بشكل هادف والتوقف عن استخدام وكلاء للقتال في أماكن مثل العراق وسورية واليمن بعد توقيع الاتفاق النووي. جميع هذه المواقف، أدت هذا إلى تقويض جهود أوباما في صياغة نظام إقليمي جديد.

وهذا يفسر سبب ترحيب إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة –مثل العديد من القادة العرب الآخرين– بعودة إدارة ترامب إلى نموذج بوش الابن: "الشرق الأوسط الجديد". حيث تبنى ترامب وجهات نظرهم على أنها وجهة نظره هو، وتوقف عن الضغط على الدول العربية بشأن سجلاتها الحقوقية، أو دفعها لحل القضية الفلسطينية. كما تخلت إدارته عن الاتفاق النووي الإيراني، وواصلت بدلاً من ذلك ما وصفته بحملة "الضغط الأقصى" على إيران. لكن مرة أخرى، جاءت محاولات فرض نظام إقليمي بنتائج عكسية، إذ شجع احتضانه الشديد لهذه الدول العربية وإسرائيل على أسوأ غرائز تلك الحكومات، بما في ذلك التدخل العدواني الذي أدى بشكل حتمي إلى تسريع الحروب الأهلية وفشل الدولة في جميع أنحاء المنطقة، من اليمن إلى ليبيا وسورية. وأدى القمع المتصاعد داخل تلك الدول، إلى زيادة عدم الاستقرار الداخلي وخطر تجدد الانتفاضات، بينما أدى تسارع سياسة إسرائيل في مصادرة الأراضي الفلسطينية إلى حدوث أزمات متكررة.

كما ثبت أن تبني ترامب لنهج "الشرق الأوسط الجديد" له حدود، وهو ما أثار استياء الحلفاء الإقليمين. وخصوصاً مع رفض ترامب الرد على إيران بعد هجومها غير المسبوق على منشأتين نفطيتين رئيسيتين داخل السعودية عام 2019، وأشار ذلك إلى أن الشرق الأوسط بات مسألة تقع مسؤوليتها على حكمة قادة المنطقة. كان هذا بمثابة إثبات بأنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على العلاقة المتينة بالإدارة الأمريكية للرد عسكرياً على مثل هذا الهجوم العدواني، فهل يمكن الوثوق بأي ضمانات أمنية أمريكية؟

 
لا أحاديث منمقة بعد الآن

يُظهر مفهوم بايدن للمنطقة أن هذه الرؤية للنظام الإقليمي ما تزال قائمة بين قادة المنطقة وفي دوائر السياسة في واشنطن، على الرغم من كل الصراع والبؤس الإنساني الذي ولّدته. لقد تكيفت الأنظمة العربية بشكل فعال في مواجهة مطالب واشنطن، وأثبتت فعاليتها في صد أي جهود أمريكية لتغيير السياسات. ورغم أن أعضاء فريق بايدن هم –في غالبهم– تمت صناعتهم من قبل إدارة كلينتون، ويعتقدون أنهم تعلموا الدروس الصحيحة من سنوات أوباما وترامب، لكن من المفارقة أن الشرق الأوسط الذي يأملون في تصميمه، يشبه بدرجة أكبر النظام الإقليمي الذي حاوله الرئيس جورج دبليو بوش الوصول إليه.

ولعل الفارق بين نموذج بايدن عن نموذج بوش الابن، هو ما تخلى عنه بايدن: "أجندة الحرية". ربما يكون بوش قد تخلى عن أفكار الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط بمجرد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، لكن خطاب إدارته حول التغيير الديمقراطي في المنطقة، قدّم على الأقل بعض الرؤية الإيجابية للنظام الإقليمي. في المقابل، فإن بايدن، في رحلته الأخيرة إلى السعودية، تخلى عن ذلك تماماً. وهذا ما يمكن اعتباره مفهوم بايدن لإدارة تريد إصلاح العلاقات مع القادة العرب وتجنب أي شيء قد يثير استعداءهم. لكن لها تكاليف حقيقية يتم التضحية بها.

كانت الأوتوقراطيات العربية الملاط الذي ربط النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة خلال عقدي التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن. فيما أدت الانتفاضات العربية عام 2011 إلى تفكيك هذا الرابط بطريقة لم يتم استيعابها كاملة بعد. ولم يتم إنتاج تحولات ديمقراطية مستدامة في أي مكان في العالم العربي، فيما حسم الانقلاب الرئاسي في تونس في يوليو/تموز 2021 مصير واحدة من التجارب القليلة التي ظهرت.

ويسعى الأوتوقراطيون العرب اليوم، إلى إقناع واشنطن، بأنهم قد استعادوا النظام القديم كاملاً، وأن الديمقراطية أصبحت ملفاً غير قابلة للنقاش، وأنهم استعادوا سيطرتهم بشكل حازم. في حين أن المؤشرات الاقتصادية الكئيبة في معظم المنطقة، والتي تفاقمت بسبب كوفيد -19 وحرب روسيا في أوكرانيا، والانفجارات المتكررة للحشود الشعبية في أماكن غير متوقعة مثل الجزائر والعراق ولبنان والسودان، تشير إلى أن تصوراتهم هذه ما هي إلا تصورات مضللة.

 
عالم مختلف

وبغض النظر عن احتمالية اندلاع انتفاضات شعبية جديدة، تبدو المنطقة اليوم مختلفة تماماً عن تلك المرحلة السابقة للنظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة. إذ أصبح الشرق الأوسط متعدد الأقطاب داخلياً، وتحولت مراكز القوى العربية عن المناطق التقليدية في قلب العالم العربي (بلاد الشام ومصر) باتجاه دول الخليج العربي، واشتركت دول غير عربية مثل إسرائيل وإيران وتركيا بشكل متزايد في معادلات القوة هذه. بينما أدى انعدام أمن النظام –بشكل وجودي– أعقاب صدمة عام 2011، إلى جانب انتشار الدول الفاشلة والحروب الأهلية، إلى تغيير منطق التدخل وتغيير ميزان القوى في المنطقة. بينما أدى رفض أوباما التدخل المباشر في سورية، ورفض ترامب الرد على الهجمات الإيرانية على المنشآت النفطية السعودية، وانسحاب بايدن من أفغانستان، إلى تغيير وجهة نظرة القادة العرب في الولايات المتحدة كضامن للأمن في المنطقة.

وعليه، لا يمكن اعتبار الفترة الحالية، فترة هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لكن هذا لا يعني أن هناك ما يشبه القطبية الثنائية الجديدة أو حتى التعددية القطبية في العالم. إذ لطالما كانت روسيا مُفسِدَة أكثر من كونها قطباً منافساً لقوة الولايات المتحدة، فيما تستهلكها حالياً حربها في أوكرانيا. وبدروها، لم تقدّم الصين بعدُ محاولة لترجمة وجودها الاقتصادي المتنامي بسرعة، إلى نفوذ سياسي أو عسكري، وفي الغالب، تشارك الصين الولايات المتحدة المصالح الأساسية مثل الحفاظ على تدفق النفط من الخليج.

ولكن حتى مع عدم وجود منافس حقيقي، فإن الولايات المتحدة، ببساطة، لا تملك الموارد أو القدرات السياسية للعب دور المهيمن في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، لم تعد القوى الإقليمية تعتقد أن الولايات المتحدة تستطيع أو ستعمل عسكرياً للدفاع عنها. إذ علّمت الانتفاضات العربية هؤلاء القادة الأوتوقراطيين أن واشنطن لا تستطيع ضمان بقاء الأنظمة التي تعمل من أجل المصالح الأمريكية. وعليه لا يمكن اعتبار مواقفهم القومية، وشكواهم المتزايدة من تخلي واشنطن، أنها مجرد موقف مساومة تهدف إلى تأمين المزيد من الأسلحة الأمريكية والدعم السياسي. بل مواقف هي تعكس القدرات المتزايدة للدول العربية ومشاعرها العميقة بعدم الأمان، ولن تثمر المحاولة غير الفعالة لطمأنة هذه الدول، فشكوكهم عميقة للغاية، في وقت يبدو فيه أن القدرات الأمريكية والإرادة السياسية غير كافية بشكل واضح.

يبدو هذا المشهد سيئاً، لكن لا يجب أن يكون كذلك. فبدلاً من محاولة إعادة بناء نظام تآكلت أساساته بشكل لا يمكن إصلاحه، فإن النهج الأفضل هو تشجيع التحركات التي تتخذها الدول بمفردها لتهدئة التوتر الإقليمي في غياب القيادة الأمريكية.

فخلال العام الماضي، أعادت دولة الإمارات بناء علاقاتها مع قطر وتركيا، فيما سرى وقف إطلاق النار في ليبيا واليمن، وعقدت السعودية محادثات أولية مع إيران. لذا فإن تحركات الولايات المتحدة لبناء جبهة موحدة ضد إيران –تصعيد مبيعات الأسلحة وإعادة تأكيد الضمانات الأمنية–، يمكن أن تكون ذات نتائج عكسية للغاية لهذه الجهود المحلية. فكلما تحركت واشنطن لتوسيع التزاماتها العسكرية والسياسية لقيادة نظام إقليمي جديد، كان من المرجح أن تصبح المنطقة أقل استقراراً.

تعاني المنطقة من اضطراب عميق منذ عام 2011، وتعتبر مشاكلها كثيرة. لكن كيفية إعادة بناء نظامها الإقليمي له عواقب وخيمة، وستسهم مفاهيم النظام القديمة بسرعة في مزيد من الفشل. إذ أصبح الخليج اليوم، منطقة أكثر استقلالية، وأصبحت دوله العربية مستعدة وقادرة على التصرف دون اعتبار لقوة عظمى راعية لهم.

لكن خارج عدد قليل من دول الخليج الثرية، تعد المنطقة أيضاً مزيجاً من العمليات العسكرية ومكاناً بالكاد يستطيع فيه الأوتوقراطيون التمسك بالسلطة في مواجهة مشكلات اقتصادية هائلة ومتفاقمة. وعلى الرغم من وقف إطلاق النار الأخير، استمرت الصراعات في ليبيا وسورية واليمن في الاشتعال، ويمكن أن تشتعل في أي وقت. فيما يسعى الحكام الأوتوقراطيون والملوك في جميع أنحاء المنطقة لترويج فكرة الاستقرار واستعادة الحالة الطبيعية، لكن واقع الظروف الاقتصادية والسياسية على حد سواء اليوم، أسوأ مما كان عليه عشية انتفاضات 2011.

كما أنه في ظل غياب أي أمل في حل الدولتين أو أي قيود دولية جادة على الاحتلال الإسرائيلي، فإن توسع إسرائيل المستمر في الضفة الغربية والحصار المستمر لغزة يمكن أن يؤدي إلى أزمة أخرى في أية لحظة.

بدورها، فإن الولايات المتحدة نفسها في حالة من الفوضى، ويستنزفها الاستقطاب والتنافس السياسي الداخلي، فيما تخلت إلى حد كبير، حتى عن التظاهر، بتعزيز الديمقراطية أو حقوق الإنسان.

وفيما يجادل المدافعون في إسرائيل والخليج بأن اتفاقيات أبراهام توفر رؤية للمنطقة يمكن بناء نظام حولها، لكن كل الأدلة تشير إلى أن الجمهور العربي يرفض بأغلبية ساحقة فكرة التطبيع مع إسرائيل دون حل للقضية الفلسطينية. ما يعني بناء نظام إقليمي يعتمد على أنظمة أوتوقراطية لقمع الرأي العام بدلاً من بناء نظام تحكمه الشرعية خارج القصور، لن يكون مستقراً أو وثابتاً.

سيكون من السخرية حقًا، إن انتهى هذا النظام الإقليمي كما انتهى النظام الإقليمي لكلينتون في التسعينيات، عبر حرب غير ضرورية وكارثية. إذ أدى انسحاب ترامب أحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018 إلى تقويض جهود أوباما لبناء نظام بديل، ولم يستطع بايدن التغلب على التداعيات السلبية لذلك. ومع طي الاتفاق النووي الإيراني، بات من السهل جداً تصور الانزلاق نحو مشروع أمريكي يهدف إلى شن حرب لتغيير النظام في إيران. من المؤكد أن بايدن تجنب مناقشة استخدام القوة ضد إيران، كما أن انسحابه من أفغانستان يعطي بعض المصداقية لتصميمه على تجنب حرب أخرى واسعة النطاق، لكن الضغط لاتخاذ إجراء حاسم سيزداد مع تضييق الخيارات إلى: قبول إيران نووية، أو العمل عسكرياً لمنعها. إن المسار الذي يسلكه بايدن لإعادة بناء النظام الإقليمي يجعل هذه النتيجة الكارثية أكثر احتمالية.

 

الكاتب: البروفيسور مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن

المترجم: د. عبد القادر نعناع، باحث وأكاديمي مختص بالشرق الأوسط والعلاقات الدولية.

للاطلاع على النص الأصلي، انظر:

 

Marc Lynch, "The New Old Middle Eastern Order: Biden’s Trip Shows Why Washington Is Still Getting the Region Wrong", Foreign Affairs, July 26, 2022:

https://www.foreignaffairs.com/united-states/new-old-middle-eastern-order
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٧ أغسطس ٢٠٢٤
دراسة هاكان إيدستروم ويعقوب ويستبرغ، "الاستراتيجية المقارنة – إطار عمل جديد للتحليل"، المنشورة في مجلة الاستراتيجية المقارنة، بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 2023. ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع تحليل الاستراتيجيات العسكرية: الأبعاد والتصنيفات والتحديات تُعد الاستراتيجية العسكرية عنصراً أساسياً في تحديد كيفية استخدام الدول لقدراتها العسكرية لتحقيق أهدافها السياسية والأمنية. تتضمن الاستراتيجية العسكرية ثلاثة عناصر رئيسية: الأهداف (Ends)، والوسائل (Means)، والطرق (Ways). يتمثل الهدف في تحديد الأهداف الاستراتيجية للدولة، بينما تشمل الوسائل الموارد المتاحة لتنفيذ الاستراتيجية، وتغطي الطرق كيفية استخدام هذه الموارد بفعالية. وتم مناقشة هذه العناصر بمزيد من التفصيل في سياق تحليلي استند إلى بيانات من 31 دولة خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين. الأهداف: البقاء، التأثير، والمكانة تختلف النظريات حول الأهداف الأساسية التي يجب أن تسعى الدول لتحقيقها عبر استراتيجياتها العسكرية. ينظر الواقعيون الدفاعيون، مثل كينيث والتز، إلى بقاء الدولة كأولوية أساسية. حيث يُعتبر البقاء شرطاً مسبقاً لتحقيق أي هدف آخر، وتُستخدم استراتيجيات التوازن لمنع القوى الصاعدة من الهيمنة العالمية. في المقابل، يدعو الواقعيون الهجوميّون، مثل هانز مورغنثاو وجون ميرشايمر، إلى تبني استراتيجيات لتعظيم القوة لزيادة التأثير والسيطرة على الآخرين، ويهدفون إلى تحقيق الهيمنة العالمية. أحد الأبعاد الأخرى للأهداف هو تحقيق المكانة. المكانة هي متغير علائقي يعتمد على التقديرات المتبادلة بين الدول حول تصنيفاتها وسمعتها في النظام الدولي. يمكن أن يؤدي الحصول على اعتراف بالمكانة إلى تعزيز نفوذ الدولة وإعطائها صوتاً أقوى في القضايا العالمية. تشمل الأبعاد الأساسية للأهداف: بقاء الدولة، زيادة التأثير، وتحقيق مكانة مرموقة. الوسائل: الموارد والتحديات تتضمن الوسائل الموارد السياسية والعسكرية التي تستخدمها الدولة لتحقيق أهدافها. يتم تصنيف الوسائل إلى مستويين: المستوى الاستراتيجي والسياسي، حيث تشمل: الموارد العسكرية، الاستخباراتية، الدبلوماسية، القانونية، والمالية؛ والمستوى العسكري الذي يركز على جودة وكمية وقوة استعداد القوات المسلحة. يتعين على الدول أن توازن بين الموارد قصيرة الأجل، مثل جودة القوات، وموارد طويلة الأجل، مثل ميزانية الدفاع والبنية التحتية العسكرية. تواجه الدول تحديات في تحويل قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية إلى قدرات عسكرية فعالة. يتطلب الأمر وقتاً طويلاً لتجهيز القدرات العسكرية الجديدة وجعلها جاهزة للتشغيل، حيث يعتمد الوقت اللازم على مستوى التكنولوجيا وإمكانية تحويل الموارد الاقتصادية إلى قدرات عسكرية. الطرق: استراتيجيات وطرق الاستخدام عند تناول الطرق، يُستخدم نموذج تصعيد الصراع الذي قدمه سام تانجريدي، والذي يحدد ثلاثة مستويات: وقت السلم، النزاع، والحرب. تُصنف الاستراتيجيات إلى أربعة سياقات رئيسة: تجنب النزاع، إدارة الأزمات، منع الحرب، والقتال. كما قدم غراي تصنيفاً للأنواع المختلفة من النزاع، مثل الحروب العامة، الحروب المحدودة، النزاعات غير النظامية، والإرهاب. أحد الأبعاد الرئيسة في تقييم الطرق هو القدرة على التكيف مع متطلبات العمليات العسكرية متعددة الأطراف وإدارة الأزمات. يشمل ذلك تطوير المهارات المهنية والاستراتيجيات الخاصة مثل مكافحة التمرد، واستخدام وحدات صغيرة وسريعة وقابلة للتكيف مع بيئات النزاع المعقدة. تختلف الاستراتيجيات بناءً على ما إذا كانت الدولة تركز على الدفاع الوطني أو العمليات العسكرية البعيدة. تصنيفات الدول وتأثيرات القوة غير المتكافئة تُصنف الدول وفقاً لقدراتها الاقتصادية والعسكرية إلى فئات مختلفة، مثل القوى الكبرى، القوى المتوسطة، والقوى الصغيرة. تتمتع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، بقدرات عسكرية واقتصادية عالمية ولها دور نشط في جميع مناطق العالم. فيما تتمتع القوى المتوسطة، مثل ألمانيا واليابان، بقدرات كبيرة ولكنها تركز على التأثير الإقليمي أو العالمي من خلال بناء تحالفات. أما القوى الصغيرة، مثل دول البلطيق، فتمتلك قدرات محدودة وغالباً ما تعتمد على التحالفات لدعم دفاعها الوطني. تُستخدم مجموعة من المؤشرات لتحديد هذه الفئات، بما في ذلك الناتج المحلي الإجمالي، الإنفاق العسكري، والاعتراف الدولي بالمكانة. على سبيل المثال، تُصنف الدول التي تُحقق أعلى مرتبة في الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق العسكري كقوى متوسطة رئيسة، بينما تُصنف الدول التي لا تفي بهذه المعايير كقوى صغيرة. الاختلافات بين الفئات والتشابهات داخلها: الاختلافات بين الفئات نلاحظ اختلافات بين فئات الدول الكبرى في استراتيجياتها العسكرية. الدول الكبرى مثل الصين وروسيا تركز على الاستراتيجية أحادية الجانب، بينما فرنسا والمملكة المتحدة تفضل الاستراتيجية متعددة الأطراف. فيما تتبع الولايات المتحدة نهجًا متوازنًا، حيث توازن بين النهجين الأحادي ومتعدد الأطراف. أما بين القوى المتوسطة الكبرى مثل أستراليا وكندا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية، فنجد تفضيلًا واضحًا للنهج متعدد الأطراف. وتُظهِر إيطاليا نهجًا متوازنًا، بينما تميل بولندا إلى النهج الأحادي. وتُفضِّل الدول الصغيرة مثل بلغاريا وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا أيضًا النهج متعدد الأطراف، بينما تميل الدول الأخرى في هذه الفئة إلى الاستراتيجية متعددة الأطراف بشكل أوضح. أسباب عدم تناسب استراتيجية واحدة للجميع: الاختلافات في القوة والموضع في النظام الدولي تختلف استراتيجيات الدول بناءً على موقعها وقوتها في النظام الدولي. تركز الدول القوية مثل القوى الكبرى على تحقيق الوضع والنفوذ، بينما تركز الدول الأضعف على البقاء. وتميل القوى المتوسطة إلى التركيز على النفوذ. وعلى الرغم من أن القوى الكبرى تملك موارد عسكرية أكثر بكثير من الدول الصغيرة، فإن الدول التي تركز على الاستراتيجية متعددة الأطراف تفضل التعاون المتعدد الأطراف، بينما تركز الدول التعديلية على الدفاع الوطني والنهج الأحادي. التفسيرات لاختلافات الاستراتيجيات داخل الفئات: القوى الكبرى في فئة القوى الكبرى، نرى اختلافًا بين الصين وروسيا من جهة، وفرنسا والمملكة المتحدة من جهة أخرى. بينما تركز الصين وروسيا على الدفاع الوطني والنهج الأحادي، تركز فرنسا والمملكة المتحدة على التوسع الإقليمي والتعاون متعدد الأطراف. تُفسَّر هذه الفروقات بوجود تباين في مستوى التكامل الإقليمي: تكاملت أوروبا الغربية بشكل عميق في الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية، في حين أن المناطق التي توجد فيها الصين وروسيا أقل تكاملًا وأقل استقرارًا. القوى المتوسطة الكبرى تختلف القوى المتوسطة الكبرى مثل البرازيل والهند واليابان وكوريا الجنوبية بناءً على تجاربها التاريخية وإعداداتها الإقليمية. فعلى الرغم من تفضيل كل من البرازيل والهند للدفاع الوطني، فإن اليابان وكوريا الجنوبية تركزان على البقاء والتعاون المتعدد الأطراف. ويقوم التاريخ الإقليمي، مثل الحروب والصراعات مع القوى العظمى، بدور في تفضيلات الدول. كما توجد البرازيل والهند في بيئات إقليمية تتسم بالقلق الأمني، مما يفسر تفضيلهما للدفاع الوطني. القوى المتوسطة الصغرى تُظهِر الدول المتوسطة الصغرى مثل جمهورية التشيك والدنمارك وإسبانيا وفنلندا وبلدان أخرى اختلافات في تفضيلات الاستراتيجية. بينما تركز جمهورية التشيك والدنمارك وإسبانيا على النفوذ والحروب التساهمية، تركز فنلندا والنرويج والسويد على التوازن بين النفوذ والبقاء والدفاع الوطني. الاختلافات في الموقع الجغرافي والحدود مع القوى الكبرى مثل روسيا تفسر تباين الاستراتيجيات. الدول الصغيرة تتمتع الدول الصغيرة مثل بلغاريا وكرواتيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا بتشابه كبير في تفضيلها للبقاء والتعاون المتعدد الأطراف. يعزز تقارب هذه الدول الجغرافي مع روسيا، والأحداث التاريخية مثل الحروب العالمية والحكم الشيوعي، تفضيلها للبقاء والتعاون. وتعود الفروقات بين هذه الدول إلى ظروف تاريخية وجغرافية محددة. تشابهات بين الدول من فئات مختلفة: مجموعة الدول المعرضة للخطر تشمل مجموعة الدول المعرضة للخطر دولًا صغيرة مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، بالإضافة إلى فنلندا وكوريا الجنوبية واليابان. جميع هذه الدول تركز على البقاء والدفاع الوطني والتعاون المتعدد الأطراف. بينما تشترك هذه الدول في جغرافية متشابهة في مواجهة قوى كبرى محتملة مثل روسيا والصين، فإن التاريخ المشترك، مثل الحروب العالمية، يساهم في تفسير هذه التشابهات. مجموعة الدول الساعية للتأثير تشمل هذه المجموعة كندا وجمهورية التشيك والدنمارك وإسبانيا. على الرغم من وجودها في مجمعات أمنية مختلفة، فإن هذه الدول تشترك في التركيز على التعاون متعدد الأطراف. يمكن تفسير هذا التركيز على التعاون بسبب التكامل العالي في مجمعاتهم الإقليمية. لا تعاني هذه الدول من تهديد مباشر من قوى كبرى، مما يفسر تفضيلها للتعاون والمساهمة في الناتو. مجموعة الدول الساعية للوضع تشمل هذه المجموعة ألمانيا ورومانيا، اللتين تسعيان لتحقيق الوضع ضمن الناتو. تقع هذه الدول في نفس المجمع الأمني المتكامل، مما يفسر تفضيلها للتعاون متعدد الأطراف. على الرغم من عدم مواجهتهما لتهديدات مباشرة من القوى العظمى، فإن تاريخهما المشترك، مثل معاهدات السلام وتغيرات الأراضي، قد يساهم في سعيهما لتحقيق الوضع. مجموعة الدول غير الآمنة تشمل هذه المجموعة بلغاريا وكرواتيا وسلوفاكيا. تركز هذه الدول على البقاء، والمساهمة في الحروب، والتعاون متعدد الأطراف. وعلى الرغم من التشابهات التاريخية، تفسر المجموعة الإقليمية المشابهة تفضيلها للتعاون. فيما التهديدات الجغرافية التي تواجهها هذه الدول أقل وضوحًا مقارنة بالدول الأخرى، مما يفسر التركيز على البقاء والتعاون المتعدد الأطراف. الاستنتاجات أظهرت النتائج أن الأداة التحليلية المستخدمة قد سمحت لنا بتحديد الفروق الدقيقة في عناصر الاستراتيجية العسكرية. كما أن الاعتراف بالاختلافات في القوة النسبية بين الدول أتاح لنا رؤية اختلافات منهجية بين الدول في فئات مختلفة. بينما تؤكد الكبرى العظمى والقوى المتوسطة الكبرى على الوضع والنفوذ، تركز الدول الصغيرة والمتوسطة الصغرى على البقاء. تختلف استراتيجيات الوسائل بين الدول، حيث تميل الدول إلى التعاون متعدد الأطراف بدلاً من تحقيق التوازن ضد الهيمنة. وتشير النتائج إلى أن البحث في الاستراتيجية العسكرية للدول يجب أن يشمل تحليل التعرض الاستراتيجي الإقليمي والجغرافي وتجارب النزاعات المسلحة. وعلى الرغم من أن حوالي ربع الدول كان لديها تركيبة فريدة من العناصر الاستراتيجية، فإن ثلاثة أرباع الحالات المتبقية تشير إلى تشابهات بين الدول في فئات مختلفة، مما يساهم في تطوير أدوات النظرية في مجال الاستراتيجية المقارنة. إن فهم الاستراتيجيات العسكرية يتطلب تحليلاً متكاملاً للعناصر الثلاثة: الأهداف، الوسائل، والطرق، بالإضافة إلى تصنيف الدول وفقاً لقدراتها ومواردها. حيث توفر هذه التحليلات إطاراً لفهم كيفية توجيه الدول لاستراتيجياتها العسكرية لتحقيق أهدافها في سياقات مختلفة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات والموارد المتاحة. فيما تساعد التصنيفات والتقييمات في توضيح كيف يمكن للدول استخدام استراتيجياتها العسكرية بشكل فعال لتحقيق أهدافها وتعزيز موقعها في النظام الدولي. تعاريف: الدفاع الوطني: التركيز على حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية عبر تعزيز القدرة العسكرية والوجود الأمني. التوسع الإقليمي: استراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرة على التأثير والسلطة ضمن منطقة جغرافية معينة. التعاون متعدد الأطراف: نهج يركز على العمل الجماعي والتنسيق مع دول أخرى عبر منظمات دولية أو تحالفات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. النهج الأحادي: استراتيجية تركز على اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات بشكل منفرد دون تنسيق أو تعاون مع الدول الأخرى. الوضع: الهدف من استراتيجية عسكرية يركز على تحسين مكانة الدولة وتأثيرها الدولي بشكل عام. النفوذ: السعي لزيادة التأثير السياسي والعسكري والاقتصادي للدولة على الدول الأخرى أو في مناطق معينة. البقاء: التركيز على ضمان استمرارية وجود الدولة وأمنها في مواجهة التهديدات المحتملة. المساهمة في الحروب (التساهمية): استراتيجية تعتمد على دعم الحروب والتدخلات العسكرية كجزء من التحالفات أو الأهداف الدولية، بدلاً من التركيز على الحماية الداخلية فقط. وهي عملية دعم الأهداف العسكرية من خلال المشاركة في عمليات عسكرية ضمن تحالفات دولية أو لمهام معينة. وتخصيص الموارد والمشاركة في العمليات العسكرية لدعم تحالفات أو لتحقيق أهداف استراتيجية دون التركيز الكامل على الدفاع الوطني. تعريف باري بوسن للاستراتيجية الكبرى: هي سلسلة وسائل وغايات سياسية-عسكرية، وهي نظرية الدولة حول كيفية "تأمين" نفسها بشكل أفضل. يجب أن تحدد الاستراتيجية الكبرى التهديدات المحتملة لأمن الدولة وأن تضع الحلول السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها لمواجهة تلك التهديدات. العقيدة العسكرية هي المكون الفرعي للاستراتيجية الكبرى الذي يتعامل بشكل صريح مع الوسائل العسكرية. للاطلاع على النص الأصلي كاملاً: Håkan Edström & Jacob Westberg, "Comparative strategy – A new framework for analysis", Comparative Strategy (Oxford: Routledge, 19 Jan 2023, 42:1, 80-102, DOI: 10.1080/01495933.2022.2130676). To link to this article: https://doi.org/10.1080/01495933.2022.2130676
الاستراتيجية
بواسطة ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع ٢٤ يوليو ٢٠٢٤
المؤلف: Lukas Milevski ترجمة وتلخيص: د. عبد القادر نعناع
بواسطة Dr. ABD ALQADER NANAA ١٢ مايو ٢٠٢٤
Warnings against neglecting the conflict in Syria Amidst the ongoing crises in the Middle East, the Syrian issue remains central to conflicts in the region and poses a threat to regional stability due to the five foreign military powers interfering in Syrian territory and the steady influx of Iranian-sponsored Shiite militias using Syria as a base to advance Iran's hegemonic efforts. The Assad regime's ongoing commission of crimes against humanity against its opponents and those who oppose its authority is the reason why the state of rebellion persists in some of the country's regions. Over 12 million Syrians have been forced to flee their homes due to forced demographic change. The opposition has been using a pointless strategy to manage areas that are no longer under the control of the regime, and both the regime and the opposition use mercenaries in these efforts. Armed forces to assist their friends in global battles. The separatist group also persists in breaking humanitarian and international law, as well as engaging in organized terrorism of various kinds directed at the Arab community residing in the area. ISIS, the other terrorist group, continues to operate at a low level and occasionally issues international warnings about the possibility of their activity resuming in Syria and Iraq in the upcoming years. The anticipated breakthrough that would bring about regional stability and an improvement in humanitarian conditions does not seem to be happening. There are three possible scenarios, ranging from extreme pessimism to extreme optimism. We prefer the middle scenario, but keep in mind that there are other scenarios that could occur within these three, and that local, regional, and international factors could change these scenarios once more: In the worst-case scenario, we think that the Syrian conflict is still ongoing and that ongoing foreign intervention is causing violence in all of its manifestations to escalate. More crimes against humanity, human rights abuses, and restrictions on Syrians living abroad will result from the Assad regime's and its allies' growing influence in Syria, which is being bolstered by Iran and Russia. In this scenario, increasing regime violence may prompt terrorist, rebel, and separatist groups to step up their activities. As a result, the humanitarian, economic, livelihood, security, and military situations will worsen, causing more division and chaos throughout the nation. In the best-case scenario, some regional and international parties' diplomatic efforts may be successful in bringing about a peace agreement that ends the Syrian conflict. This agreement would be based on the establishment of a joint transitional government made up of representatives from the opposition, the regime, and the separatists, with a gradual withdrawal and deportation of foreign forces. sectarian militias, prior to embarking on a long-term reconstruction strategy (despite the risk of catastrophic corruption), which results in a progressive amelioration of the living and humanitarian circumstances of Syrians and the commencement of their repatriation. However, given the current situation and the lack of genuine international pressure on the Assad regime to make concessions toward this solution, as well as the opposition parties' severe fragility and dispersion into rival and conflicting forces, as well as the international community's preoccupation with more urgent issues in the Middle East and worldwide, and their inability to reach a consensus on a political settlement in Syria, we do not see the possibility of achieving this scenario. Regarding the intermediate scenario between them, which we generally anticipate to take place in the medium term (the next one to three years), there will still be foreign interventions and mutual clashes, but the conflict will remain intermittent and low intensity. The humanitarian, security, and living conditions in some areas might experience a slight and transient improvement, but the nation as a whole will continue to be characterized by chaos and future uncertainty due to the failure of international efforts to reach a political settlement. With the conflict still at its lowest level and the overall state of the economy continuing to worsen, the current situation is one of stagnation. In conclusion, Syria's collapse and failure have never been, and never will, an internal issue. All Middle Eastern nations face security challenges as a result of this international and regional responsibility, which implies that all parties in the region must share some of the burden of solving this incredibly difficult issue. Many of the solutions put forth by certain regional powers aimed to maintain, freeze, or normalize the status quo, which in turn fuels further regional collapses and threats. Going back to the first point, which is to impose genuine, gradual political change on the parties involved in the current crisis (the regime, the opposition, and the separatists) with support and guarantees from the regional and international community, continues to be the best way to restore stability in Syria and its environs. We think the regional powers have many of the means to accomplish this, given enough credibility. All parties must be put aside in the proposal and execution, and they must not move toward normalization with the ruins or align with one party at the expense of the problem. Dr. ABD ALQADER NANAA Prepared for the Consulting Office for the Middle East Risks and Solutions
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٢ مايو ٢٠٢٤
تحذيرات من إهمال الصراع في سورية تستمر القضية السورية في لب نزاعات الشرق الأوسط، ويستمر تهديدها لاستقرار الإقليم كاملاً، في ظل تدخل خمس قوى عسكرية أجنبية في الأراضي السورية، واستمرار تدفق الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران والتي تتخذ من سورية موطئ قدم لها لتعزيز مشروع الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط، فيما يستمر نظام الأسد في ارتكاب مزيد من الجرائم ضد الإنسانية تجاه معارضيه ورافضي سلطته، وهذا ما يدفع إلى استمرار حالة التمرد في مناطق عدة من البلاد، مع استمرار عمليات التغيير الديموغرافي القسري، في ظل نزوح أكثر من 12 مليون سوري (بين نازح محلي ولاجئ خارج البلاد)، كما تستمر المعارضة على ذات المنهج غير المجدي في إدارة شؤون المناطق التي خرجت عن سلطة النظام، كما يوفر الطرفان (المعارضة والنظام) مرتزقة عسكريين لدعم حلفائهم في نزاعاتهم الدولية. بدروها تستمر الجماعات الانفصالية بانتهاك القانون الدولي والقانون الإنساني، وممارسة أشكال مختلفة مما يمكن اعتباره إرهاباً منظماً ضد السكان المحليين العرب. كما تستمر عمليات التنظيم الإرهابي الآخر: داعش، بشكل منخفض الحدة، وبين حين وآخر، مع تحذيرات دولية من احتمال عودة نشاط هذا التنظيم في سورية والعراق في الأعوام القادمة. ولا يبدو أن هناك انفراجاً مأمولاً يؤدي إلى استقرار المنطقة وتحسين الأوضاع الإنسانية. يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات تتراوح من أقصى التشاؤم إلى أقصى التفاؤل، مع ترجيحنا للسيناريو الأوسط، ومع التنويه بأن هناك سيناريوهات أخرى محتملة أيضاً، ضمن هذه السيناريوهات، عدا عن أن المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، قد تعيد تشكيل هذه السيناريوهات من جديد: في السيناريو الأكثر تشاؤماً: نعتقد أن الصراع في سورية مستمر، مع استمرار التدخل الأجنبي، ما يقود إلى تصاعد العنف بكل أشكاله. فيما تزداد قوة نظام الأسد وحلفاؤه في سورية، مع استمرار دعم إيران وروسيا له، وهذا ما سيقود إلى مزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية، والتضييق المستمر على السوريين في دول الشتات. وفي هذا السيناريو، قد يزداد نشاط الجماعات الإرهابية والمتمردة والانفصالية في رد على تصاعد عنف النظام. وبالنتيجة، ستشهد البلاد مزيداً من التشظي والفوضى، مع تأزم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية المعاشية والأمنية والعسكرية. في السيناريو الأكثر تفاؤلاً: قد تنجح جهود بعض الأطراف الإقليمية والدولية الدبلوماسية، ما يقود إلى التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الصراع في سورية، على أساس إقامة حكومة انتقالية مشتركة (مكونة من أطراف من النظام والمعارضة والانفصاليين)، مع سحب تدريجي للقوات الأجنبية، وتفكيك وترحيل الميليشيات الطائفية، قبل البدء بمشوار طويل الأمد لإعادة إعمار البلاد (رغم تهديد الفساد مرتفع الحدة)، ما يقود إلى تحسن تدريجي في الأوضاع المعاشية والإنسانية للسوريين، مع بدء عودة السوريين إلى بلادهم. لكننا لا نرى إمكانية لتحقيق هذا السيناريو في ظل المعطيات الحالية، نتيجة عدم وجود ضغط دولي حقيقي على نظام الأسد لتقديم تنازلات نحو هذا الحل، عدا عن الضعف الشديد الذي منيت به أطراف المعارضة وتشتتها إلى قوى متنافسة ومتنازعة، إضافة إلى الانشغال الدولي بقضايا أكثر إلحاحاً في الشرق الأوسط وفي البيئة الدولية، وعدم اتفاقها على تسوية سياسية في سورية. أما في السيناريو المتوسط بينهما، والذي نميل إلى ترجيح قيامه على المدى المتوسط (1-3 سنوات قادمة)، فإن الصراع سيبقى قائماً بشكل متقطع ومنخفض الحدة، مع استمرار التدخلات الأجنبية، والاشتباكات المتبادلة فيما بينها. ربما تشهد بعض المناطق تحسناً بسيطاً ومؤقتاً في الأوضاع الإنسانية والأمنية والمعاشية، إلا أن البلاد بشكل عام، ستبقى تحت تأثير الفوضى وعدم وضوح المستقبل، مع إخفاق الجهود الدولية في التوصل إلى تسوية سياسية. وهو سيناريو جمود الوضع الحالي على ما هو عليه، مع استمرار الصراع بحدوده الدنيا، واستمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية عموماً. ختاماً، إن فشل سورية وانهيارها، لم يكن شأناً داخلياً أبداً، ولن يكون كذلك، فهو مسؤولية إقليمية ودولية، تفرض تحديات أمنية على كل دول الشرق الأوسط، ما يعني أن المسؤولية عامة في تجاوز هذه الإشكالية بالغة التعقيد. ورغم كثير حلول تم طرحها من بعض القوى الإقليمية، لكن جميعها سعت إلى تكريس الوضع الراهن، أو تجميده أو التطبيع معه، وهو بحد ذاته مسبب لمزيد من الانهيارات والتهديدات الإقليمية. وتبقى العودة إلى النقطة الأولى، أفضل السبل لاستعاد الاستقرار في سورية ومحيطها، وهي إطلاق مسار تغيير سياسي تدريجي حقيقي، وبرعاية وضمانة إقليمية ودولية، وفرضه على أطراف الأزمة الراهنة (النظام والمعارضة والانفصاليين)، ونعتقد أن القوى الإقليمية تمتلك كثيراً من أدوات الفرض، بشرط المصداقية في الطرح والتنفيذ، وليس التحول إلى التطبيع مع الخرائب أو الاصطفاف مع طرف على حساب القضية، فكل الأطراف يجب تنحيتها. د. عبد القادر نعناع تم إعداده لصالح المكتب الاستشاري لشؤون الشرق الأوسط Risks and Solutions
سورية
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٦ مارس ٢٠٢٤
أحد مكونات المشكلة السورية (المستعصية)، أنه لم يتم إنتاج نخب اجتماعية تاريخية على حجم الحدث، لها من الشرعية وقادرة على إدارة الشأن العام (الفوضى العامة). عوضاً عن ذلك، تم إنتاج نخب مصطنعة، يمكن اعتبارها عميلة أو مرتزِقة أو انتهازية، وهي نخب جديدة أو تم استحضارها من منشقي النظام وفاسديه السابقين، وهي نخب وظيفية أي أن وظيفتيها الرئيستين (1) الحفاظ على الفوضى بشكلها الحالي، لضمان نفوذ الدول الراعية لهذه النخب، (2) ومنع ظهور/هيمنة النخب الوطنية أو وصولها إلى المشهد العام . ولعل أهم هذه النخب المصطنعة: النخب التي صنّعتها قطر وتركيا في المشهد السوري. هذه النخب تعتمد بشكل مفرط (يكاد يكون كلياً) على الرعاة الخارجيين، وتتصارع فيما بينها على حصص المنفعة الشخصية، وتتسابق في تقديم الولاء السياسي والهويتي للرعاة. وبالتالي ليس لهذه النخب أية شرعية، وغير مقبولة إلا في إطار الزبونية السياسية المحدودة جداً (بمعنى أن شرعيتها ارتزاقية: من خلال تمويل عدد محدود من الأشخاص ليكونوا جمهوراً لها)، وهي غير قادرة على إحداث أي تغيير (يضر بمصالح الرعاة)، وهي منغلقة بمعنى أنها لا تسمح بدخول أحد لفضائها (منعاً لانهيارها، أي أنها عصبوية للغاية)، وهي شرسة (بمعنى أنها مستعدة لتدمير أي نخب ممنافسة لها، أو أي نخب وطنية مناهضة لها). بل الأمر أكثر تعقيداً.
بواسطة د. عبد القادر نعناع ٢٦ يناير ٢٠٢٤
نحن في وضع مشابه للفوضى التي سادت في بداية النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي، ومن الممكن الإشارة إلى هذا بوصفه "وباء الفوضى" باستخدام العبارة التي استخدمها آنذاك الرئيس الأمريكي روزفلت. ويرجع ذلك إلى تصاعد النزاعات المسلحة في شرق أوروبا والشرق الأوسط، واستمرار القلق في جنوب شرق آسيا (السلام الهش)، والانقلابات العسكرية والتوترات في إفريقيا، وغيرها من المؤشرات. هذا يعني أنه إذا اندلعت نزاع مسلح آخر في الشرق الأوسط أو آسيا أو شرق أوروبا، فإننا قد نكون على وشك كارثة عالمية أوسع نطاقًا. العالم يضطرب بشكل متزايد (ومجنون)، واحتمالية عودته من هذا الجنون تتضاءل كل يوم. وفي حال استمر مستوى الجنون العالمي الحالي، فقد يقود هذا إلى اصطدام كارثي بين القوى الكبرى المتنافسة. د. عبد القادر نعناع
بواسطة Dr. ABD ALQADER NANAA ٢٦ يناير ٢٠٢٤
We are in a situation similar to the chaotic beginning of the second half of the 1930s, and it is possible to refer to this as an "epidemic of lawlessness" to borrow the phrase used by then US President Roosevelt. We are in a situation similar to the chaotic beginning of the second half of the 1930s, and it is possible to refer to this as an "epidemic of lawlessness" to borrow the phrase used by then US President Roosevelt. This is due to the growth of armed conflicts in Eastern Europe and the Middle East, the ongoing anxiety in Southeast Asia (fragile peace), many coups and military tensions in Africa, and other indicators. That means if another armed conflict breaks out in the Middle East, Asia, or Eastern Europe, it would only be necessary for us to be on the brink of a much vaster global catastrophe. The world is going insane, and the likelihood that it will come back from this madness is dwindling every day. If the current level of worldwide insanity persists, this will culminate in a catastrophic collision. Dr. ABD ALQADER NANAA Prepared for the Consulting Office for the Middle East Risks and Solutions
الحرب
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٨ نوفمبر ٢٠٢٣
يُعتَبر إشعال حرب أمراً فردياً مُناطاً بجهة أو قائد أو جماعة مسلّحة، لأهداف متعدّدة، لكن إيقاف الحرب لن يكن فردياً بشكل من الأشكال. فالحرب دعوة لكلّ الأطراف المعنية (دولاً وجماعات) للمشاركة في الحصول على مكاسب أو تصفية قضايا عالقة، أو حتى لأسباب تتعلق بالانتقام التاريخي وتصحيح أوضاع راهنة أو مختلّة في ميزان القوى، وسواها من مبرّرات انخراط عديد من الأطراف في الحرب، وخصوصاً أنّ الحرب غالباً ما تكون استمراراً لإشكاليات سياسية قائمة. إشكاليّة انخراط عدة أطراف سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تخلق إشكاليّة أخرى تتعلّق بتعثر مسار الحرب وفق تصور صانعيه، فكثيراً ما انحرفت الحروب عما خُطِّطَ لها لتتحوّل إلى كارثة على أطرافها، كما حصل في الحربين العالميتين مثلاً، أو في الغزو العراقي للكويت عام 1990. نناقش في هذه الدراسة، بعض الإشكاليات التي طرأت في مشهد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في غزة بعد عملية طوفان الأقصى –التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023–، بهدف بناء سيناريوهات لتوقّع المسار المفضي إلى وقف إطلاق النار، وهو المحور الأخير، أو النتيجة التي نسعى للوصول إليها. لكن قبل ذلك، لابدّ من تحديد مقوّمات مشهد النزاع لفهم مداخله المُفضِيَة إلى احتمال وقف إطلاق النار. فيما نحاول أن نطبّق فرضيّات عرضها كل من: Govinda Clayton وزملائه حول المسارات المفترضة لوقف إطلاق النار. حيث تستعرض هذه الدراسة الإشكاليّة في تحديد الطرف البادئ في العمليات العسكرية، وذلك بهدف تحديد المسؤولية في القانون الدولي. وعليه يمكن تحديد أهداف كلا الطرفين حماس وإسرائيل. ويبدو أن هناك نهجاً جديداً تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى تطبيقه على حماس بهدف تصفيتها، وهو نهج تشبيه الحدث بأحداث أيلول/سبتمبر 2001، وتشبيه حماس بداعش، وهو تشبيه لابدّ للدراسة من التوقّف عنده. كما تتناول هذه الدراسة تكاليف الحرب المتنوعة، وتكاليف استمرار الحرب، لما في ذلك من تأثير على مستقبل التفاوض والتسوية بين الطرفين. حيث تقوم إشكاليّات تعيق عملية التفاوض بينهما، وأبرز تلك الإشكاليات هو الدور الأمريكي الرافض للتسوية، حتى لحظة إعداد هذه الدراسة. قبل أن تنتقل الدراسة إلى اختبار فرضيّات Clayton وزملائه لوقف إطلاق النار، بهدف بناء سيناريوهات وقف إطلاق النار. بالإجمال تستند الدراسة إلى منهج دراسة الحالة، في الفترة الزمنية الممتدة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و14 تشرين الثاني/نوفمبر. ترى الدراسة أنّ الإشكال بين طرفيّ النزاع هو إشكال دائم، وعليه فإنّ الانتفاضات المدنية والنزاعات المسلّحة والحروب، هي فعل طبيعي بالنتيجة، وفعل متواصل، باعتبار أنّ هذه الأفعال حقّ من حقوق أصحاب الأرض، كما تقرّ بذلك المواثيق والقوانين والأعراف الدولية، وكما يفرضه الوعي البشري السليم بالذات وبالهوية، عدا عن أنّ الإشكال متصل بالإشكال الإقليمي في الشرق الأوسط، والمضطرب في العقود الأخيرة، ضمن فاعلين متعددين (فاعلين من الدول ومن دون الدولة). ويتعمق الإشكال نتيجة موقف القانون الدولي. حيث يقر القانون الدولي لإسرائيل بحق الدفاع عن النفس باعتبارها تعرّضت لاعتداء من قبل جماعة مسلحة دون الدولة، ويترافق ذلك مع دعم أميركي لإسرائيل ضمن مجلس الأمن، ما يعيق اتخاذ أية إجراءات عقابية على إسرائيل. ومن جهة ثانية، لم تحترم إسرائيل المواثيق الدولية والمعاهدات والاتفاقيات ومسارات التفاوض بين الطرفي، كما أنّها رفضت تطبيق قرارات الأمم المتحدة (الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي)، وتستمر بانتهاك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني عبر مجازر ترقى إلى مستوى جرائم حرب. وتتنوع أهداف الطرفين من هذه الحرب. ففي حال حماس، يمكن القول إن هناك أهداف غير معلنة تتعلق بالترتيبات الإقليمية وحلفائها في المنطقة، وأهدافاً معلنة غير مباشرة تتعلق باستمرار النضال التحرري، وهدفاً مركزياً معلناً مباشراً وهو الوصول إلى صفقة تبادل أسرى. وشكّلت عملية حماس، إهانة بالغة الحدة لإسرائيل ومشاريعها الإقليمية، وأمنها الداخلي، وسمعتها الدولية، ومنظوماتها الأمنية والعسكرية. وعليه، فإن أهداف إسرائيل من الحرب، تتمحور حول الانتقام واستعادة السمعة وتدمير حماس، حتى لا تتكرر الحادثة من جهة، وحتى تكون مشاريعها أكثر استقراراً في الإقليم، مهما كانت تكلفة عملية الانتقام. وقد قادت عملية طوفان الأقصى إلى استحضار الروح الانتقامية لأحداث أيلول/سبتمبر 2001، وسعياً أميركياً لتصفية حماس بنهج تصفية داعش. ونتيجة التكاليف الباهظة التي تكبدتها إسرائيل، السياسية والبشرية والاقتصادية وعلى مستوى سمعة إسرائيل، وضعت إسرائيل أهدافاً بالغة التطرف قبل الوصول إلى وقف إطلاق النار، عقّدت عملية التفاوض بشكل كبير. وقد اختبرت الدراسة مجموعة فرضيات، ظهرت من خلالها إسرائيل غير مستعدة أو راغبة بوقف إطلاق النار، مع وجود دعم أمريكي وغربي واسع لها، وشارع إسرائيلي يتطلع إلى اجتثاث حماس. وفيما تزداد التكاليف البشرية والمادية على حماس، وتجعلها أكثر استعداداً لتقديم التنازلات. لكن حماس تواجه مشكلة أكبر، تتعلق بالمعادلة الصفرية، أو تطلّع إسرائيل والولايات المتحدة إلى اجتثاثها –وربّما كل الفلسطينيين– من قطاع غزة نهائياً. وحيث وضعت الدراسة مجموعة من السيناريوهات للوصول إلى وقف إطلاق نار، فإنّها نعتقد أنّ السيناريو الأكثر ترجيحاً للوصول إلى وقف إطلاق نار (مع تحييد المتغيرات الأخرى والمتغيرات المستقبلية)، هو: ارتفاع كلفة الحرب السياسية والبشرية والاقتصادية، مع وجود وساطة مقبولة من كل الأطراف، مترافقة مع ارتفاع مستوى الإدانة العالمي للجرائم الإسرائيلية. الدراسة متاحة للتنزيل، بصيغة PDF: كما أنها متاحة بشكل موجز على شكل بودكاست، يمكن الاستماع لها على قناة الدكتور عبد القادر نعناع، على الرابط التالي: https://youtu.be/GYR0P83k0Ak?si=geRPJAgl45cuPw0a
الشرق الأوسط
بواسطة د. عبد القادر نعناع ١٠ نوفمبر ٢٠٢٣
لا يمكن فصل حدث طوفان الأقصى عن أبعاده الإقليمية، فهو فاعل ومتفاعل فيها، ككل الأحداث الأخرى، وذلك نتيجة مسبّبات عديدة، منها ترابطه الهُويّتي بالمنطقة، ومنها اشتغال عدّة قوى على توظيف القضية الفلسطينية أداةً في حراكها الإقليمي، والأهم من ذلك، استعصاء الحدث سياسياً وإنسانياً، حتى باتت القضية الفلسطينية محور القضايا العربية والإسلامية، وشكلاً من أشكال النزاع العربي-الغربي، والذي يتجلى في بعض صوره كنمط من أنماط الهيمنة الغربية المستمرة في المنطقة. وفي هذه الورقة، نحاول أن نستعرض السياق الإقليمي الذي اندلعت فيه عملية طوفان الأقصى، والتأثيرات التي خلّفها هذا السياق في العملية. البيئة الإقليمية قُبيل عملية طوفان الأقصى يعيش الشرق الأقصى عقوداً متتالية من الفوضى، أدّت في محصلتها إلى انهيار وفشل مجموعة دول عربية (سورية، اليمن، العراق، لبنان، الصومال، السودان، ليبيا)، عدا عن أزمات إنسانية واقتصادية حادّة تبرز في مصر والأردن وتونس خصوصاً. ويبدو أن لكل عقدٍ من العقود الماضية سياسات عامة أدّت إلى شكل جديد من الفوضى المتراكمة. تشتغل على تغذية هذه الفوضى مجموعة قوى عسكرية إقليمية ودولية (الولايات المتحدة وحلفاؤها، إسرائيل، روسيا، إيران، تركيا)، جنباً إلى جنب مع الجماعات المسلحة من دون الدولة (الميليشيات الطائفية، المنظمات الإرهابية، المتمردون والثوار)، فيما لا تزال بعض الاستبداديات العسكرية تهدم بنيان دول أخرى. خلّف هذا المشهد تداعياً كبيراً في العالم العربي، واختلالاً في ميزان القوى لصالح القوى العسكرية المتدخِّلة في المنطقة، وأزمات متراكبة بنيوية مستعصية على كل أشكال الحل. وهو ما دفع ما تبقى من دول عربية فاعلة إلى إطلاق مسار من المصالحات مع الأزمات (التطبيع مع الأزمات)، منذ مطلع هذا العقد، سواءً تلك المصالحات البينية، أو المصالحات مع الأنظمة الاستبدادية، أو مع الخصوم الإقليميين، ضمن ما أسماه البعض نهج "تصفير الأزمات". لكنها أزمات بالغة الاستعصاء، ولا يمكن بشكل من الأشكال إلغاء وجودها، فهي في عملية تفاعل مستمر، وإن ركدت لفترات وجيزة نتيجة فقدان بعض من طاقتها الدافعة، لكن غياب العمل المشترك لحلها، يشكّل عامل تغذيةٍ لانطلاقها من جديد، لذا يمكن تسمية النهج العربي بنهج "تبريد الأزمات"، أو قمعها، بهدف خلق بيئة إقليمية مواتية لمشاريع تنموية عابرة للحدود. لكن بالمحصلة، كانت نتيجة هذه المصالحات: - الإقرار بنفوذ إيران وميليشياتها في مجموعة من الدول العربية. - إيقاف كل أشكال العمل العسكري ضد هذه الميليشيات، وإيقاف كل أشكال الدعم للقوى المناهضة لها. - استمرار النهج الإيراني على ذاته دون تغيير، أي نهج مدّ النفوذ في العالم العربي عبر الميليشيات وأدوات أخرى. - محاولة إدراج إيران في المصالح الإقليمية. لكن إيران لم تكن معنيّةً بهذه المصالح، بقدر تطلعها لمزيد من الهيمنة على العالم العربي. فالمشروعان مختلفان كلياً، ففيما المشروع العربي الأخير يرنو لتنمية مشتركة عابرة للحدود، فإن إيران تتطلع لتغيير هذه الجغرافيا، وتغيير البيئة السكانية والهُويّتية للمنطقة بأسرها، بما يخدم مشروع "امبراطورية فارسية". - ثم جاء الاندفاع غير المبرّر نحو إسرائيل، عبر اتفاقات أبراهام وما بعدها، دون الدفع نحو تسوية سلمية ونهائية للقضية الفلسطينية، بل ربما مع تخلٍّ واضح عنها. فيما النقاط الأربعة الأولى كانت بمثابة رسالة إلى إيران لتستمر بذات النهج العدواني، فإن النقطة الأخيرة كانت بمثابة رسالة إلى إسرائيل بأنّ القضية الفلسطينية باتت خارج الحسابات الإقليمية العربية. واعتقدت إسرائيل بالتالي أنّ الوقت بات مناسباً لتصفية هذه القضية تصفية نهائية. إشكاليّة الدور الإيراني شجّع التخلي العربي عن القضية الطرفين: الإسرائيلي على تصفيتها، والإيراني على توظيفها. إذ خلق التخلي عن القضية عربياً، فراغاً سارعت إيران إلى ملئه عبر تقديم عدة أشكال من الدعم (عسكري، مالي، استخباراتي، سياسي، إعلامي، لوجستي)، وهو ما كانت بالضبط تحتاجه المقاومة الفلسطينية في غزة لتبقى قادرة على مواجهة إسرائيل. مع التذكير بأنّ فعل المقاومة، هو فعل مستمر ودائم، وتأكيد على استمرار المطالبة بالحقوق الفلسطينية، ومنع تصفية القضية إسرائيلياً ودولياً. وهذه واحدة من أكثر الإشكاليات التي تؤخذ على المقاومة الفلسطينية في العقد الأخير، ففيما كانت إيران تدمّر مجموعة من الدول العربية، كانت حماس والجهاد على تنسيق دائم مع إيران، رغم القطيعة التي شهدتها العلاقة بين حماس ونظام الأسد في الفترة (2011-2021). لمن حماس والجهاد، سلكتا نفس المنهج الذي سلكته الدول العربية في تقديم المصالح الذاتية على الأمن القومي بالإجمال، حتى لم يعد بالإمكان تعريف الأمن القومي العربي وتوضيح حدوده والمخاطر التي تهدده. وخصوصاً بعد إنشاء غرفة عمليات مشتركة في بيروت مع حزب الله والحرس الثوري (كما تشير بعض التقرير بعد عام 2021) لتنسيق العمل المشترك بين هذه الجهات. إذاً، تبقى إيران حاضرة في كل فعل عسكري للمقاومة الفلسطينية، وهو حضور يتمثل بأدنى أشكاله في التدريب والتنسيق والاستخبارات والتسليح، وفي أعلى أشكاله بالتخطيط والإدارة والتوجيه والتصعيد. لذا نفضل الرأي الذي يرى أنّ إيران كانت على بينة من الطوفان قبل وقوعه بفترة كافية، حتى تكون مستعدة لتلقي أية ردود فعل إسرائيلية محتملة. ونستدل على ذلك بخطاب خامنئي السابق للحدث بأيام قليلة، عندما وصف الدول العربية المُطبِّعة مع إسرائيل بأنها تقف في الجانب الخاسر. هذا يعني أن التطبيع مع إسرائيل، ربما كان سبباً من أسباب عملية طوفان الأقصى. إشكالية التطبيع بالعودة إلى المشهد الإقليمي قبل عملية طوفان الأقصى، كان واضحاً اختلال ميزان القوى لصالح القوى الإقليمية وفي مقدّمتها إيران. لكن عمليات التطبيع –وتحديداً التطبيع المرتقب بين السعودية وإسرائيل– حملت تهديداً لميزان القوى المختلّ هذا، وأدركت إيران أن السعودية قد تمتلك مقدرات تعيد تصحيح بعض الخلل، وخصوصاً مع مطالبها بتعهد دفاعي أمريكي، وبإنشاء مفاعل نووي على الأراضي السعودية، وسواها من المطالب الأمنية، ما قد يشكّل تحدياً لمشاريع النفوذ الإيرانية المستقبلية. الإشكال الثاني في خلل التوازن هذا أنه سيكون لصالح إسرائيل، التي ستصبح أكثر اندماجاً وقبولاً ببيئتها الإقليمية، بعد التطبيع مع السعودية، ما يعني تعزيز قوتها في مواجهة إيران، وربما لاحقاً تشكيل حلف إقليمي على رأسه السعودية وإسرائيل، وهو تهديد محتمل آخر لمشاريع النفوذ الإيرانية في المنطقة. بالأساس، النزاع الإيراني-الإسرائيلي، هو نزاع نفوذ وليس نزاع وجود، أي أن الطرفين يعملان على توسيع نفوذهما في ذات البيئة الإقليمية، ففيما تعمل إيران على بناء مجال حيوي لها في العالم العربي عبر الاستحواذ العسكري، تعمل إسرائيل على بناء ذات المجال في ذات البيئة عبر عمليات التطبيع المستمرة مع دول المنطقة. الظرف الزمني لإطلاق العملية بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن الظرف كان ملحّاً بالنسبة لإيران، لعرقلة أية ترتيبات إقليمية جديدة، وربما التقى هذا الطارئ الزمني بالنسبة لإيران، مع ترتيبات خاصة بحماس، تتعلق بقدراتها واستخباراتها ومرونة حركتها، وتقديرها بأن إسرائيل في حالة تراخٍ أمنية في الفترة الأخيرة عدا عن فترة الأعياد الدينية التي تمر بها، وارتفاع مستوى الحنق العام في الشارع الفلسطيني نتيجة مسببين رئيسين في الأشهر الماضية: تسارع عمليات التطبيع دون أفق للقضية الفلسطينية، وإصرار اليمين الإسرائيلي المتطرف على نهج الاعتداءات الممنهجة والمستمرة على المقدسات الإسلامية. وفق حسابات أخرى، ربما لا يكون المشهد على هذه الحال، بل مجرد تصادف زمني بين الحدثين. في كلا التحليلين، يمكن ملاحظة حالة التزامن المصلحي بين الطرفين، وبين المتغيرات الإقليمية. الفوضى المتحركة رغم أنّ عملية طوفان الأقصى، هي في أحد أشكالها، تأكيد للحق الفلسطيني المشروع بمقاومة الاحتلال بكافة الطرق المتاحة، إلا أنها تحمل في أوجه أخرى مخاطر إقليمية واسعة، إذ يترتب إشكال إقليمي آخر عليها، متمثلاً بالفوضى المتحركة. كما ورد أعلاه، فإنّ الشرق الأوسط يعيش حالة فوضى مستمرة –منذ عقدين على الأقل–، ومن سمات هذه الفوضى الاستمرارية والتحرك لضمّ بيئات جديدة إليها، أي توسيع الفوضى المستمر من قبل القوى المغذية لها، ويبدو أن مشروع التهجير الواسع لسكان غزة نحو مصر، هو شكل من أشكال تحريك هذه الفوضى نحو مصر. رغم رفض فكرة إخراج سكان غزة من الإقليم، وصعوبة تحقيقها، لكنها تعني نقل خط المواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى داخل مصر، فحق المقاومة مشروع ودائم. لذا، فإن عملية النقل تعني استخدام الأراضي المصرية في عمليات عسكرية مدعومة من إيران، وستكون بشكل حتمي في مواجهة مع الجيش المصري الملتزم باتفاقيات سلام مع إسرائيل منذ 1979. هذا بدروه قد يحفز جماعات أخرى على امتداد الإقليم لتغذية النزاعات المسلحة العابرة للإقليم. عدا عن إشكالية توطين ما يزيد على مليوني مواطن فلسطيني، في مصر، وما يترتب عليه من تصفية للقضية الفلسطينية التي قد تقود إلى بروز جماعات أكثر تطرفاً في مواجهة إسرائيل والدول العربية المحيطة بها والمطبِّعة معها. أيضاً، يمكن ملاحظة جهة أخرى هي هدف لهذه الفوضى المتحركة: الأردن. حيث تضمّ حجماً سكانياً فلسطينياً كبيراً، وحدوداً مضطربة مع العراق وسورية، واشتغالاً إيرانياً لمدّ النفوذ إليها، وهشاشة في بنيتها الاقتصادية. رغم موقعها كدولة حليف للولايات المتحدة من خارج الناتو، إلا أن تهديد نفوذ إيران في المنطقة عبر عمليات التطبيع، قد يدفع إيران نحو توسيع هذا النفوذ، وخصوصاً أن الأردن مجاورة لبيئات تهمين عليها الميليشيات الإيرانية من جهة، كما أنها تتعرض لجملة ضغوط إيرانية (عسكرية ومذهبية وتهريب مخدرات) في السنوات الماضية. تهديد السلام في الشرق الأوسط لذا، يرى البعض أن عملية طوفان الأقصى تشكل تهديداً للسلام في الشرق الأوسط. ولا نذهب في هذا الاتجاه لأسباب عديدة قد ذكرناها، وهي أن الشرق الأوسط بالأساس لم يكن في حالة سلام. ما كان يميز المنطقة قبل العملية، هو الفوضى والعمليات العسكرية الخارجية (دول وغير دول)، وملايين المواطنين العرب اللاجئين، واستمرار الاشتباكات المسلحة على امتداد الإقليم. ربما كان هناك سلام مؤقت أو محاصر في بعض الدول العربية، لكنه لا يرقى إلى مستوى إطلاق وصف "السلام في الشرق الأوسط"، بمعنى غياب النزاعات المسلحة والتهديدات الخارجية وكل أشكال العنف، واستقرار دول الإقليم. عدا عن أن إسرائيل غير معنية بالسلام مع الفلسطينيين أبداً، فمنذ اتفاق أوسلو 1993، والقضية الفلسطينية في مرحلة تراجع واضحة للعيان. ورغم تشكيل سلطة فلسطينية ومنحها بعض الصلاحيات الشرطية والبلدية، إلا أنه لم يعد هناك أرض بالمعنى الجغرافي القابل لتطبيق حل الدولتين الموعود في تلك الاتفاقيات. بالأساس، إسرائيل فصلت سلامها مع الدول العربية عن سلامها مع الفلسطينيين، وهو ما قامت به الدول العربية أيضاً. وبالمحصلة، لم يعد للفلسطينيين أية آمال بالمفاوضات التي توقفت منذ سنوات عديدة، وبدا لهم أن الكفاح المسلح وسيلة للحفاظ على ما تبقى من المشروع/الحق الفلسطيني. مستقبل المواجهة في الشرق الأوسط قادت عملية طوفان الأقصى، والأزمات المتراكمة في المنطقة، والفوضى المتحركة، إلى تصعيد على امتداد الشرق الأوسط، شمل وصول حاملات طائرات أمريكية إلى إسرائيل وكم كبير من الدعم والعتاد العسكري واللوجستي الأمريكي، ما يوحي باستعداد أمريكي لشن حرب إقليمية. في ذات الوقت، لا ترغب أي من دول الإقليم بشن حرب إقليمية واسعة، فهذا قد يعني خراباً أكبر على امتداد الإقليم. ربما إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي كانت تدفع طيلة السنوات الماضية إلى هكذا مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. لكن للولايات المتحدة حساباتها الدولية المختلفة، فهي منشغلة بترتيبات التغيير الحاصل في النظام الدولي، وهو انشغال بالغ الكلفة مالياً وعسكرياً في أوروبا وآسيا، وترتّب عليه تخفيض التزام الولايات المتحدة عسكرياً بمناطق عدة، من ضمنها الشرق الأوسط. لذا فإن عودتها للانشغال بحرب إقليمية في الشرق الأوسط، قد تمتد لسنوات، وقد تبلغ كلفتها مئات مليارات أو تريليونات الدولارات (حتى الآن كلفت حروب الولايات المتحدة في المنطقة قربة 6.4 تريليون دولار مع فوائد قد تصل إلى 2 تريليون دولار)، ما يعني التسليم بالتخلي عن مساحات مهمة من التنافس الدولي لصالح الصين وروسيا. كما أن هكذا حرب، ستعني حتماً ارتفاعاً مهولاً في أسعار النفط بما يضر بكل الاقتصاديات الصناعية الكبرى، وتهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها عبر الإقليم (فميليشيات إيران منتشرة عبر الإقليم)، وربما عودة توظيف خلايا التنظيمات الإرهابية النائمة في المواجهة الإقليمية. لذا، ربما يكون الحضور العسكري الأمريكي المبكر والسريع، هو رسالة إلى كل الإقليم، وخصوصاً إيران وميليشياتها، بأن الولايات المتحدة ملتزمة التزاماً دائماً ومفتوحاً بأمن إسرائيل، وبأنها لن تسمح بتحويل التهديد الأمني إلى تهديد وجودي لها. لكن تبقى المشاركة الأمريكية المباشرة رهن التطورات العسكرية على الأرض، وهو أمر لا ترغب الولايات المتحدة بتوسيعه، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال التصريحات الأمريكية التي تشير إلى عدم تورط إيران –حتى الآن– في عملية طوفان الأقصى. عدا عن أن هذا الحضور العسكري، يعني التزام إدارة بايدن التزاماً مفتوحاً بأمن إسرائيل، وهو ما يمكن أن يوفر له أصوات اللوبي اليهودي في الانتخابات القادمة. ما ترغب به إسرائيل والولايات المتحدة، هو إبقاء النزاع داخل فلسطين المحتلة، وإبقاء دول الإقليم والجماعات المسلحة بعيداً عن هذا النزاع، وصولاً إلى تصفية حماس وربما قطاع غزة بالكامل. لكن هكذا طرح، ربما يكون –بحد ذاته– دعوة لكثير من الأطراف الإقليمية للتدخل في هذا النزاع. ختاماً، تبقى القضية الفلسطينية القضية المحورية في العالم العربي، وهي قضية ذات بعد هويتي وإنساني وديني، لا يمتلك أحد حق إسقاطه أو التنازل عنه. لكن عمليات التطبيع التي جاءت على حساب هذا الحق، جعلته أداة للتوظيف من قبل خصوم المنطقة، وهو ما يجب استدراكه عربياً، عبر جهود في اتجاهين: رفض كل أشكال التصفية للقضية الفلسطينية، وربط عمليات التطبيع الحالية والمستقبلية بتسوية تضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة وأمنهم. د. عبد القادر نعناع نشرت هذه المادة، في مجلة شؤون إيرانية، العدد 27، تشرين الأول/أكتوبر 2023، ص 65-68 ومتوفرة على موقع مركز الخليج للشؤون الإيرانية، على الرابط التالي: https://alkhalej.net/p/12178414
بواسطة Dr. ABD ALQADER NANAA ١٣ أكتوبر ٢٠٢٣
The Middle East appears to be heading toward worse chaos in the coming months, as military operations and the targeting of civilians and infrastructure coincide in multiple parts of the region -notably in northern Syria and the Gaza Strip- and with the participation of all foreign powers operating militarily in the region. The Consulting Office for MENA warns of the dangers of attempting to depopulate these areas. If such a step takes place, it will not bring peace to the region. On the contrary, it will serve as a trigger for increased tension, which will be used more flexibly by external powers and extremist organizations to fuel ongoing regional and international conflicts in the region. Proposals to create a so-called "alternative homeland" or geographical alternatives for displaced peoples will be tools for igniting more violence and turmoil in the Middle East. Also, it will be used flexibly by external powers and extremist organizations to fuel region's ongoing regional and international conflicts. In addition to, the insistence on labeling people's demands, grievances, and movements as terrorist contributes to the creation of a breeding ground for extremist organizations. More violence, use of military force, armed mobilization, and external intervention will not solve the Middle East's problems. The desired stability begins with finding fair solutions to the region's peoples' grievances. Dr. ABD ALQADER NANAA Prepared for the Consulting Office for the Middle East Risks and Solutions
مزيد من المنشورات
Share by: